تفسير القرآن

 

 

وقوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }    إذا كان الإنسان عندما يشتري سلعة بمائة ريال وقسمتها الحقيقية تساوي عـشرة ريالات يعتبر عند الناس خاسر .

قال الشيخ ابن سعدي – رحمه الله – كيف إذا جاء بجوهرة ثمينة ولا تقدر بثمن وباعها بقليل من التراب ؟ فإنه هو أكبر خسارة ، فكيف بمن باع الهدى واشترى الضلالة ؟ أي دفع الهدى ثمناً للضلالة فأي خسارة أعظم من ذلك ؟ فهم خـسروا في الدنيا الخسارة الكبيرة فإن الله لما مكن للمسلمين حلّت بهم الذلة والهوان ، والخسارة الحقيقية هي عندما يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة قال تعالى : {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (1) .

 

قال أئمة التفسير : هذا يستوي فيه :

– من كان نفاقه أصلي – أي لم يدخل في الإسلام – مثل رؤوس المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول أو المنافقين من اليهود فإنهم لم يسلموا قطعاً .

– ومن دخل في الإسلام ثم ابتلاه الله بالفتنة فوقع الزيغ في قلوبهم ثم رجعوا إلى الكفر فهؤلاء ضلالهم أكبر لأنهم ذاقوا حلاوة الإيمان ثم رجعوا إلى الكفر والضلال .

فنسأل الله تعالى أن يسلّم قلوبنا من الزيغ وأن يرزقنا الثبات على دينه وأن يعيذنا من مضلاّت الفتن .

وقال تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} هذه أمثال يضربها رب العالمين للناس ليتفهموا وينتفعوا ، ولذلك جعلها مقاييس للعلماء ، قال تعالى :{ وَتِلْكَ  الأمثال ُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} (1) وقد كان الرجل من السلف الصالح إذا مرّ به مثل من القرآن لم يفقهه يبكى ويقول : لست من العَالِــمين .

هؤلاء المنافقين الذي وصفهم الله تعالى بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى  ضرب لهم مثلين في القرآن : مثل ناري ، ومثل مائي ، إما لكونهم متنوعين فصنف يوافقه المثل الناري وصنف يوافقه المثل المائي ، أو لكون هذين المثلين ينطبقان على المنافقين ، وأن { أو} هنا بمعنى أنهم إما أن يكونوا على هذا المثل أو على الآخر  فكلا المثلين ينطبقان على حال المنافقين .

فأما المثل الناري : فمثلهم فيه كمثل الذي استوقد نارا ومن قبل كان في مكان مظلم فحاول أن يقتبس من غيره نار :{اسْتَوْقَدَ نَارًا} أي لم يكن عنده نار بل طلبها من غيره فلما أضاءت ما حوله ورأى ما يحيط به من الأخطار والآفات انطفأ النور فأصبح في خوف وهلع شديد لأنه قد رأى الأخطار والمخاوف حوله ولأن الظلام بعد النور أشد ولم يقل ربنا عز وجل أنه انطفأ الضياء ؛ لأن الضياء شيء زائد على النور ولكن قال جل وعلا : {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي اختفى النور بكامله وأصبحوا في ظلام دامس ، ولم يقل أن النار انطفأت ليدل على أنهم بقوا يعذبون بالنار ؛ لأن النار تشتمل على أمرين :

على النور ، وعلى الإحراق ، وبذهاب خيرها من النور والضياء لم يبق لهم الإحراق فبقوا يتمزقون نتيجة الشك والاضطراب ، وسبب هذا أنهم لما أنزل الله الضياء والنور الذي هو القرآن الكريم رفضوه وأعرضوا عنه وعن الإيمان به والتصديق بقوا في ضلالهم وغيّهم ولذلك وصفهم الله تعالى بأنهم : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} صم لم ينتفعوا بأسماعهم {وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا } (1) فالسمع إذا لم ينتفع به صاحبه فوجوده وعدمه سواء ، بل قد يكون الأصم أهون من هذا الذي يسمع وكان سمعه سبباً في هلاكه وكذلك من كان له بصر وكان سبباً في هلاكه ومن كان له فؤاد وكان سبباً في هلاكه لأنهم دفعوا الهدى ثمناً للضلالة .

 

وقوله تعالى :{فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون إلى الإيمان مرة أخرى ، هذا إذا قيل أنهم آمنوا ثم كفروا ؛ لأن الله تعالى ذكر عنهم في آيات أخرى أنهم آمنوا ثم كفروا كما في قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} (2) وقوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} (3) .

فحكم الله أنهم آمنوا وهذا معنى استضاءتهم بالنار ، ثم كفروا فطفئ نورهم وأذهب الله بركته لأنهم رفضوه فلا يرجعون مرة أخرى إليه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يزيغ قلوبهم قال تعالى : {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (4) أي يصرفها عن الهداية : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (5) .  

هذا المثل الأول الذي ضربه الله عز وجل لهم ، على احتمال أنهم آمنوا ثم كفروا             أو على احتمال أنهم سالموا في الظاهر – كما هو حال أكثرهم – وهذه المسالمة أعطتهم شيء من النور في الدنيا وهو حماية أنفسهم من القتل ، ولكن إذا ماتوا ستجتمع عليهم الظلمات كلها ظلمة القبر وظلمة كفرهم ومعاصيهم ويزدادون عند الله عز وجل مقتاً بإدخالهم النار ، أعاذنا الله والمسلمين من النار .

 

قوله تعالى : {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

الصيب : هو المطر النازل من السماء ، وبما أن المطر إذا نزل ينتفع به أقوام ويتـضرر به آخرون مع ما يصاحبه من برق ورعد وصواعق ، فالإيمان والقرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم كالغيث بل هي الغيث الحقيقي حياة الأرواح وحياة القلوب وسعادتها في الدنيا والآخرة ، فهذا الغيث الذي أنزله الله ببعثة نبيه صلى الله عليه وسلم  وإنزال كتابه :

– ينتفع به المؤمنون فتحيا به قلوبهم وتزكوا به نفوسهم وتطهر به أفئدتهم وتستنير به أرواحهم ويمشون على نور من ربهم في هذه الدنيا ويوم القيامة يتمم الله لهم نورهم يوم يقسم الأنوار .

– وأما المنافقون فحالهم مع القرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم كحال أولئك الذين ما أصابهم من المطر إلا الرعد والبرق والصواعق ، فالمنافقون عندما لم يؤمنوا لم ينتفعوا بالقرآن ولا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم :{اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} فلم يبق لهم من الغيث الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا التهديد والوعيد الأكيد من رب العالمين لهم يزلزل قلوبهم .

بالإضافة إلى ما يتهددهم من أن يكشف الله أستارهم لنبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره بالاقتصاص منهم حال الحياة فهم على خوف دائم ووجل مستديم قال تعالى :  { وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ *  لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } (1) فهذا مثل لواقع المنافقين وما كانوا عليه .

الكفار جهلهم جهل مركب لذلك كانوا يقولون : نحن نطعم الحاج ونسقيه ونعمر المسجد الحرام ، فرد الله عليهم كما في سورة التوبة : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ  الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) فبين الله تعالى أن فعلهم هذا كان للفخر والخيلاء فهل يستوون مع المؤمن الذي يعلم أن الله خلقه وافترض عليه عبادته وأنه سيبعثه بعد موته ويجازيه على           أعماله ؟ لا يستوون أبداً .

فهؤلاء الكفار يسيرون في طريق الكفر والضلال والعمى وهم مع ذلك يظنون أنهم سائرون في المسار الصحيح ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (3) قال : حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري أن  أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة  .

قال : فكان ذلك استفتاحا منه ، فنزلت هذه الآية : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } (4) .

 

قال تعالى :{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) } .  

 

من فوائد هذه الآيات :

1- إثبات صفة الكلام لله تعالى وهذا واضح من قوله تعالى :{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ              لِلْمَلائِكَةِ }الآية  وصفة الكلام لله تعالى تثبت من ناحيتين :

– أنها صفة ذاتية لله تعالى لا إله إلا هو ، فهو متصف بصفة الكلام أزلاً وأبداً .

– وهي أيضاً من صفات الأفعال وصفات الأفعال  متعلقة بمشيئته سبحانه وتعالى فمتى شاء سبحانه أن يتكلم تكلم بما شاء جل جلاله .

فالبشر لا يدركون ولا تبلغ عقولهم أن يصلوا إلى كنه هذه الصفات وحقهم فقط أن يؤمنوا بها كما وردت في الكتاب والسنة فلا يزيدون على ذلك شيئاً فلا يدخلون في تأويلها أو تفسيرها إلا بما يحقق معناها الذي تفهمه العرب من لغتها أما ماعدا ذلك من كيفية الصفات أو أن يحدد على الله عز وجل حدا ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا تعرفه العرب في لغتها فهذا من الانحراف في باب الأسماء والصفات .

فالله تعالى تكلم بكلام مسموع بأصوات وحروف ولذلك ردت الملائكة على الله ، قال تعالى :  { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }الآية . إذاً فالصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يتكلم بحروف وصوت مسموع .

موسى عليه السلام عندما واعده الله جانب الطور وكلمه الله سبحانه سمع كلام الله تعالى وهو يقول :{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ  رَبُّ الْعَالَمِينَ } (1) فسمع كلام الله بحروف وصوت مسموع ولذلك استوعبه وبلغه بني إسرائيل .

2- أن الملائكة عباد عقلاء يسمعون ويخاطبون ويفهمون ما يلقى إليهم من الكلام كما وصفهم الله في كتابه وكما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقد خلقهم الله من النور كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وأنهم مجبولون على الطاعة وأن لهم مهمات مختلفة :

– فمنهم الموكل بالوحي . أي رسول من الله إلى أنبيائه وهو جبريل عليه الصلاة السلام

– ومنهم الموكل بالقطر والنبات ، ميكائيل عليه الصلاة والسلام .

– ومنهم الموكل بقبض الأرواح ، وهو ملك الموت عليه الصلاة والسلام .

– ومنهم الموكل بالنفخ في الصور إذا أمر الله بذلك .

– ومنهم ملائكة سوّاحون في الأرض يتتبعون حلق الذكر فإذا وجدوها انظموا إلى أهلها وحفوا بهم حتى يصلوا إلى السماء .وغير ذلك من الأعمال التي كلف الله بها الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، فهم مختلفون في الأعمال التي يقومون بها ولكنهم يتفقون في أمور منها :

– أن الله خلقهم من نور .

– أنهم مجبولون على الطاعة قال تعالى : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (2) .

– أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغوطون ولا يتناكحون ولا يتناسلون .

3- أن الملائكة يبغضون المعاصي والذنوب وأهلها ، ولذلك لما أخبرهم الله تعالى أنه سيجل في الأرض خليفة قالوا : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }  .

فقول الملائكة هذا :

أولاً : هو ليس من باب الاعتراض على الله عز وجل ولكن استغراب منهم أن يوجد مخلوق يعصي الله ويفسد في أرض الله بعد أن أوجده الله من العدم وأنعم عليه بالنعم .

ثانياً : أنهم يسألون عن الحكمة من جعل هذا الخليفة في الأرض وهو يفسد فيها .

ثالثاً : هو من ناحية أخرى اعتراف منهم ضمني وإقرار بأنهم يجهلون عواقب الأمور والحكم والأسرار ولذلك سألوا الله عز وجل .

4- دلت الآية على خطورة سفك الدماء وأنها أعظم الجرائر والجرائم ، ولذلك ذكرها الملائكة بعد أن ذكروا الإفساد في الأرض مع أن الإفساد في الأرض يعم القتل وغيره ولكن نصوا على القتل لعظيم شناعته عند الله تعالى وهذا يدل على أن القتل بغير حق من أشنع الأمور .

5- كيف عرف الملائكة بأن هؤلاء الخلفاء في الأرض سيفسدون فيها ويسفكون الدماء ؟

الجواب : لا يتصور أن الملائكة شكت في أن آدم هو الذي سيفعل هذا ، لماذا ؟ لأن الله فضل آدم عليهم وخلقه بيده .

أما كون الملائكة عرفوا ذلك فهذا فيه احتمالات :

– أن يكون قد سبق آدم في الأرض خلق فحصل منهم هذا الذي ذكرته الملائكة ، فقاسوا ما سيحصل من المستخلفين في الأرض بفعل من سبقهم من الأمم ، وقد ذكر هذا بعض أئمة التفسير المتقدمين . 

– ومنهم من قال : أن هذا بتعليم علّمهم الله عز وجل إيحاء أو إخبار بأن هؤلاء سيفعلون هذه الأفاعيل .        

– ومنهم من قال : أن الملائكة فهمت هذا من تركيبة خلق آدم من الطين وأن فيه الضعف البيّن وما يكمن أن يعتري هذا الخلق من القصور والنسيان والغفلة والظلم كما ورد في الحديث الصحيح : أن الله قبض قبضة من جميع الأرض فخلق منها آدم لذلك تمايز بنوه فمنهم الأبيض والأسود والأحمر وكذلك تمايزت طبائعهم فكان منهم الطيب والخبيث .  

6- قوله تعالى : {خَلِيفَةً }هل المقصود خليفة أي يخلف بعضهم بعضاً جيلاً بعد  جيل ؟ أم أنه خليفة لله في الأرض يقوم بتنفيذ أحكام الله وتطبيق شرائعه وإقامة دينه ؟ قاله بعض أئمة التفسير . فهذا ممكن وهذا ممكن .

7- قول الملائكة : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } هذا ليس من باب تزكية الملائكة أنفسهم ، ولكن مكن باب الإخبار ، وأخذ منه بعض العلماء أن الإنسان إذا أخبر بما فيه ليس على سبيل الفخر والتعالي بل على سبيل الإخبار عند الحاجة خاصة فإن هذا لا بأس به ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر )) (1) وكذلك قول يوسف عليه الصلاة والسلام : {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }(2) هو من باب الإخبار وليس من باب الاستكبار .

وأما إن كان على سبيل الاستكبار فيدخل في قوله تعالى : {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } (3)  .

8- قوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .

التسبيح : هو التنزيه لله عز وجل  والتنزيه يشمل تنزيه الله عن النقائص والعيوب فالله سبحانه منزه عن النقص والعيب في ذاته وأسمائه وصفاته جل جلاله .

وقوله : { نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } تشمل النفي والإثبات أي ننزهك عن جميع النقائص والعيوب ونثبت لك المحامد التي تدل على الكمالات المطلقة .

وقوله : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } هل هي زيادة في التنزيه وإبعاد العيوب عن الله عز وجل ؟ أو نحن نطهر أنفسنا بتتبع مراضيك وطاعتك وعد الإخلال بشيء مما تأمرنا به ، هذا قاله بعض المفسرين .

وهي تحتمل هذا وتحتمل هذا ، ولكن الأقرب أنه راجع إلى الله عز وجل .

9- فضيلة آدم عليه الصلاة والسلام فقد خلقه الله بيده كما في الحديث الصحيح  :             (( … خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه … )) (1) فهو مخلوق مكرّم فهذا تـشريف وتعظيم .

ومن فضائل آدم أن الله أمر الملائكة قبل خلقه بأن يسجدوا له إذا خلقه وصوره بيده ونفخ فيه من روحه قال تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } (2) وهذا فيه إشادة بآدم وتنويه بفضله قبل  وجوده .

وكذلك فإن الله تعالى أظهر فضيلة آدم في ذاته بأن فضله على الملائكة بالعلم فعلّمه أسماء كل شيء فهذه فضيلة ذاتية أعطاها الله عز وجل لآدم فكانت تكريم بعد تكريم .

10- قوله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ذكر الإمام الحافظ ابن كثير – رحمه الله – الخلاف في هذه الأسماء :

– فمن العلماء من قال : أنها أسماء الملائكة .

– ومنهم من قال : أنها أسماء ذريته .

– ومنهم من قال : على الإطلاق أي أسماء كل شيء ، الاسم وماهيته وفائدته وهذا من اختلاف التنوع وليس من اختلاف التضاد .

وهذا كما مر معنا في أول التفسير : أن الخلاف إذا كان خلاف تنوع ومأثور عن السلف والآية تحتمل هذه المعاني فيحمل عليها كلها .

فظاهر الآية أنه علّمه الأسماء كلها لأننا إذا خصصناها بالملائكة نحتاج إلى دليل وإذا خصصناها بذريته نحتاج إلى دليل وإذا خصصناها بالآلات والمنافع نحتاج إلى دليل .

فالقول الذي يشمل هذا كله هو الأقرب إلى لفظ الآية { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } .

وكما سمعنا في قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه علّمه حتى الفسوة والفسية ، أي الاسم المكبر والمصغر حتى الأشياء المحتقرة فهذا بلغ في العموم غايته فإن ما كان أكرم من ذلك ( الفسوة والفسية ) وأكبر فهو من باب أولى .

11- الملائكة عليهم الصلاة والسلام عباد كرام ليسوا من أهل الكبر ولذلك أظهروا تواضعهم لله تعالى ونسبوا العلم لله تعالى فقالوا : {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وهذا غاية الأدب والتواضع مع الله وفيه تمجيد لله تعالى بأنه هو العليم الحكيم .

12- { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }  أثنى الملائكة على الله بهذين الأسمين العظيمين وهما يناسبان المقام :

فالأول : العليم ، هو الذي يعلم كل شيء فلا يغيب عنه شيء أبداً أحاط علماً بما كان وما يكون وما لم يمن لو كان كيف يكون ، فعلم الله جل جلاله أزلي لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان بوجه من الوجوه .   

والثاني : الحكيم ، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه سواءً كان شرعاً أو قدراً فإن الله سبحانه وتعالى حكيم في قدره وفي شرعه ، فأمره القدري هو لحكمة وبحكمة وفي غاية الحكمة ولا يصلح إلا ما قدره الله وقضاه ، وقد تدرك عقول العقلاء حكمته في شيء من خلقه وقضائه وقدره لكن لا يحيط بحكمته في الخلائق إلا هو سبحانه وتعالى لا إله إلا هو ، ومن ذلك أنه أوجد هذا الخليفة مع أنه سيوجد في ذريته من يفسد في الأرض ويسفك الدماء .

ولكن حكمته البالغة اقتضت أن يخفى على الملائكة عليهم الصلاة السلام كثير من منافع وفوائد إيجاد هذا المخلوق واستخلافه في الأرض ولذلك سألوا ذلك السؤال : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فغابت عنهم حقيقة كبرى وهي أن الله سبحانه وتعالى حكيم .

ومن حكمته سبحانه في خلق هذا المخلوق أن تظهر أسرار أسمائه وصفاته في الخلق كصفة الرحمة وصفة العدل .

ومن حكمته أن سخر له هذه الأرض وما على ظاهرها وما في باطنها وما في أجوائها فكل هذا سخره الله للإنسان من أجل أن يقوم بالخلافة التي وكله الله بها وهي الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } (1) .

والقيد أو الشرط أن يقوم بأداء الأمانة فيعمل بطاعة الله ويبتعد عما حرم الله .

وبهذا نفهم أن من ترك الأمانة أو ضيعها أو أخل بها فإنه لا يستحق من هذا الذي سخره الله شيء فهو معتدي عليه ، بل هو أحقر من تلك المخلوقات التي سُخرت له وكانت في الدنيا له خدماً قال تعالى : { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } (2) .

فأما إذا أدى الأمانة وقام بالواجب الذي وكل به وعظّم الله ونشر دين الله في الأرض فإنه يُفضل حتى على الملائكة وتصبح الملائكة خدماً له في الجنة فيدخلون عليه بالسلام والألطاف من رب العالمين ، قال سبحانه : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى          الدَّارِ } (3) .

13- أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان والبشر لهذه الغاية العظيمة زودهم بالوسائل وسائل المعرفة ؛ لأن آدم إنما تميز على الملائكة بالعلم ولا يستطيع أن يحقق الرسالة التي وكلت إليه إلا بالعلم ، فقد زوده الله تعالى بوسائل العلم والمعرفة والتمييز والإدراك والحفظ ، فإن في ثنايا قصة آدم عليه الصلاة والسلام أن الله قد زوده بالعلم  وإلا فكيف استطاع أن يخبر الملائكة بالأسماء كلها ؟

14- وهذا القصص أيضاً فيه بيان أن آدم علي السلام منذ أن خلقه الله فهو على صورته هذه وأن الله خلقه بيده وأسجد له ملائكته ، وهذا يذكركم بأن المسألة فيه رد من رب العالمين على ذلك اليهودي الخبيث الذي أراد أن يفسد فـطر الخلق وينسبهم إلى اللاشيء فـقال ( دارون ) في نظريته الممسوخة التي أراد أن يفسد بها فطر الخلق قال : بالنشوء والارتقاء وهي أن الخلائق كلها بدأت من الكائنات البسيطة وحيدة الخلية ثم تطورت ، ومع أن هذه النظرية تخالف الأديان والعقول والفطر إلا أن اليهود روّجوا   لها ؛ لأنهم قد أطبقوا على مقدرات العالم في مجال الإعلام والتعليم وغيره ، وَدُرِّست في جامعات كثيرة ومن المؤسف أنها دُرِّست أيضاً في بلاد المسلمين من ضمن ما دُرِسَ من النظريات حتى أصبحت عند بعض المسلمين حقيقية وهي في الأصل نظرية تصادم القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين والعقول السليمة والفطر الصحيحة .

وهذا اليهودي كأنه عندما عرف أن منهم من مسخه الله قردة وخنازير أراد أن ينكل بالبشر فيقول : لا فضل لكم علينا معشر اليهود فكون الله مسخ بعضنا قردة وخنازير فكلكم يا بشر أصلكم قردة .

كأنه من هذا الباب واليهود معروفون بالخبث والكفر والفساد والإفساد .

15- قوله : {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} إذا كان الملائكة عليهم الصلاة والسلام قد عجزوا وأظهروا عجزهم عن علم ما لم يعلمهم الله عز وجل وأظهروا افتقارهم إلى أن يعلمهم الله عز وجل فإن غير الملائكة من باب أولى .

وهذا يدعونا معاشر البشر إلى أن نقف في العلم عند حدود قدراتنا وما علمنا الله وألا نتطاول على الله في هذا الباب فإنه باب خطير فالإنسان يتعلم ويقف عندما علم فإذا تعلم فليعلم ويخبر بما علم ، فما جهل يرده إلى عالمه ، ولا يستحي من أن يقول عن مسألة لا يعلمها أن يقول : لا أعلم ، هذا هو اللائق بالمخلوق القاصر الذي لا علم له إلا ما علمه الله فاللائق به أن يرد العلم إلى الله تعالى .

16- ومع أن هذه الآيات وغيرها كثير تبين فضل العلم وأهله إلا أن فيها إلماح وتحذير للإنسان من أن يتقدم إلى أمر لا يعلمه فإن التقدم على أمر لا يعلمه والتخوض فيه هو من القول على الله بغير علم وهو من أخطر المعاصي والذنوب ، وهو من أعظم مراد الشيطان أن يجترئ الإنسان فيقول على الله بغير علم ، قال تعالى عن الشيطان : {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (1) .

17- وعلى الإنسان وهو يسر في هذه الدنيا أن يتذكر أنه خليفة الله في الأرض أي أنه مأمور بأن يقوم بتنفيذ شرع الله والقيام بحقه من الطاعة والبعد عن معصيته فلا ينسى هذه القضية فإنه إنما وجد من أجلها ، وإنما كرم بما كرمه به في هذه الحياة الدنيا من إحسان خلقته {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (2) فهو متميز عن جميع المخلوقات ، بل هو على صورة الله تعالى كما ورد بذلك الحديث الصحيح : (( أن الله خلق آدم على صورته )) .

فإذا لم يقم الإنسان بشرع الله فلا يستحق هذا التكريم ، ولذلك من لم يقم شرع الله فسيرده الله إلى أسفل سافلين فبعد أن كان مكرماً يُـحقر ، وبعد أن كان عزيزاً يُذل وبعد أن كان كريماً يُهان .

18- أن أعظم خصوصيات العلم وأعظم مطالبه وفوائده أن يكسب أهله الخشية لله عز وجل : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) فإذا وجدت الإنسان يخشى الله تعالى فهو العالم ، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : كفى بخشية الله علما ، وكفى بالاغترار به جهلاً

وهذا يحتم على أهل العلم أن يكونوا أشد الناس خشية لله عز وجل وتواضعاً لله واحتراماً وإجلالاً لله عز وجل .

وهذا له مظاهر فمن مظاهره : أن ينشر دين الله ويدعى إلى الله ويؤمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأن لا تأخذ الإنسان في الله لومة لائم وذلك باللين والرفق والحكمة والبصيرة : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (2) .

فليكن الإنسان محبباً للخلق في ربهم عز وجل ولا يكن منفراً لهم عن الله وهذا من لوازم خشية الله .

قال تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (الآيات 34 36) .

1- هذه الكرامة الثالثة التي ذكرها الله عز وجل أنه أكرم بها أبانا آدم عليه الصلاة والسلام وهي أنه أمر ملائكته بأن تسجد لآدم : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} .

وهذا الأمر بالسجود كان قبل خلق آدم – كما ذكرنا ذلك سابقاً – كما في سورة الحجر قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (1) .

وهذا السجود من الملائكة لآدم :

– امتثال منهم لأمر الله ؛ لأن الله تعالى أمرهم فوجب عليهم أن يمتثلوا أمره .

– تكرمة لآدم عليه الصلاة والسلام ، وهذا السجود سجود تشريف وتكريم وليس سجود عبادة .

وأما سجود العبادة فمعلوم أنه لا يسجد إلا لله تعالى وحده لا شريك له .

وسجود التكريم والتعظيم كان في شرع من قبلنا جائزاً ، ومن ذلك ما ذكره الحافظ            ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره من سجود إخوة يوسف ليوسف ، قال الله سبحانه وتعالى حاكياً عنهم : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } (1) وهذا من باب التكريم والتعظيم ليوسف وليس من باب العبادة .

ولكنه نسخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحد أن يسجد لأحد حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالسجود في ديننا هو لله عز وجل وحده لا شريك له .

أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن أبى أوفى رضي الله عنه قال : قدم معاذ رضي الله عنه اليمن  – أو قال الشام – فرأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها ، فروأ في نفسه أن  رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ، فلما قدم قال : يا رسول الله ، رأيت النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها ، فروأت في نفسي أنك أحق أن تعظم ، فقال : (( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولا تؤدي المرأة حق الله     عز وجل عليها كله ، حتى تؤدي حق زوجها عليها كله ، حتى لو سألها نفسها وهى على ظهر قتب لأعطته إياه )) (2) .

2- ومن هذا يتبين لنا أن الله تعالى يأمر بما يشاء ويحكم ما يريد فليس لأحد أن يعترض على الله تعالى في حكمه سبحانه لا إله إلا هو ، فالله تعالى له الحكم المطلق وأما غيره  فحكمه مقيد بشرع الله تعالى .

3- إذا أمر الله تعالى بأمر يكون امتثال هذا الأمر في حال الأمر به عبادة لله عز وجل ومخالفته تكون من باب المعصية ، فالملائكة لما امتثلوا أمر الله بالسجود لآدم كانوا طائعين لله وأكرمهم الله بذلك ، وأما إبليس لما امتنع عن السجود كان ذلك معصية وسببا في طرده ولعنته إلى يوم الدين ، فعلى الإنسان أن يتنبه إلى الأمر في حينه .

4- أن الله تعالى قد يأمر بما هو في الأصل حرام فيكون امتثال الأمر طاعة لله تعالى فالسجود لغير الله حرام ، ولكن عندما أمر الله بالسجود لآدم فإن امتثال الأمر هنا واجب وهو طاعة له سبحانه وتعالى وقربة ، فالتحليل والتحريم حق لله تعالى لا يشاركه فيه أحد .

وكما أمر الله تعالى خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يذبح ولده قال تعالى : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (1) فبعد أن رزقه الله بإسماعيل وهو على كبر من السن فابتلاه الله بهذا ، ومعلوم أن ذبح البريء من أعظم الجرائم عند الله قال تعالى : {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (2) ومع هذا فامتثال إبراهيم لأمر ربه طاعة له تبارك وتعالى فقد اختبره الله وابتلاه : {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} (3) .

فاستجاب لربه فأكرمه بمنزله لم يبلغها أحد من الأنبياء والرسل قبله عليه الصلاة والسلام فاتخذه خليلا له سبحانه وتعالى : {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (1) فالأب امتثل أمر ربه والابن أعان أبيه على تنفيذ أمر ربه لأنه من شجرة مباركة طيبة تقدر الله  حق قدره فإبراهيم خليل الله وإسماعيل نبي كذلك قد امتثالا أمر الله تعالى : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (2)  أي أضجعه على وجهه حتى لا يرى السكين .

ففي مثل هذا لا يقال أن الله أمر بمعصية ؛ لأن الله له أن يحكم بما يشاء ، فإذا حكم الله بشيء فإنه يصبح طاعة وليس بمعصية .

فعلى المسلم أن يميز بين ما هو طاعة وما هو معصية فالدين ليس على أهواء الـبشر  قال تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} (3) .

5- أن الله تعالى قد أخبر في آيات من القرآن أن إبليس ليس من الملائكة ، فقال سبحانه وتعالى في سورة الكهف : {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (4) فهو ليس من الملائكة بل من الجن ، وفي سورة سبأ قال الله تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (5) .

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( خلق الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم )) .

ثم إن الله تعالى أخبر عنه في القرآن أنه قال : {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (1) .

ولذلك لما أمرهم الله بالسجود كلٌ غلب عليه أصله فالملائكة خلقت من نور وإبليس خلق من نار فغلب عليه أصله فلحق بدرك الشقاء – نسأل الله العافية والسلامة .

6- أصل البلايا والشرور في هذا الكون ثلاثة :

– الحسد .

– الكبر .

– الحرص .

فأما الحسد فهو متمثل في حال إبليس فإنه لما رأى كرامات الله تتوالى على آدم وقع الحسد في قلبه .

وأما الكبر فإنه لما أمر بالسجود له امتنع قال تعالى : {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} أي منعه الكبر ، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه : (( بطر الحق وغمط الناس )) .

بطر الحق : أي رد الحق ، والحق هو أمر الله ، فإن أمر الله له بالسجود هذا حق وما أمر الله به فهو حق وعدل وهو الدين والصلاح والإصلاح سواء علم الخلق أم جهلوا .

وغمط الناس : هو احتقاره لآدم وازدراءه له : {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ففي نظر إبليس أن النار أفضل من الطين ، وهذا قياس فاسد من عدة وجوه :

*- الوجه الأول : لأنه في مقابل النص والقياس إذا كان في مقابل النص فهو قياس فاسد .

*- والوجه الثاني : أنه ليس بمسلم أن النار أفضل من الطين ، بل الطين أفضل من النار ولا مقارنة بينهما ، فإن النار فيها خفة وطيش وإفساد ، وأما الطين فإن فيه الرزانة والثبات والاستقرار .

*- الوجه الثالث : أنك إذا استودعت التراب شيئاً رده إليك أضعاف مضاعفة ، فإنك إذا وضعت فيه الحبة أخرج لك سنبلة والسنبلة تولد لك ما شاء الله من السنابل ، بينما لو ضعتها في النار أحرقتها وأتلفتها وخانة الأمانة .

*- الوجه الرابع : أن الأرض مستودع خيرات الخلق جميعهم طعام الإنس والجن والدواب والبهائم فعلى المخلوق أن يبحث عن رزقه فيجده موفوراً ، وأما النار فأي رزق فيها ؟ ليس فيها إلا الإحراق والإفساد .

*- الوجه الخامس : أن المخلوقات منها ما هو مستغن عن النار طيلة حياته مثل البهائم والوحوش بل تهرب منها ، والإنسان قد يستغني عن النار دهور وأيام وشهور لكن التراب ليس له عنه غنى أبداً ، حتى النار لا تستغني عن التراب فلا قيام لها إلا بوجود التراب .

 

 

وأما الحرص نابع من شهوة أو نابع من إغراء وتسويل وليس نابعاً من الكبر ، مثل ما حصل لآدم عليه الصلاة والسلام فإنه لطمعه في الخلود في الجنة وعدم الخروج منها فمن فرط غلبة الشهوة عليه نسي أن الله قد نهاه عنها قال الله عز وجل : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (1) .

داء الحسد والكبر صاحبه لا يرجى له في الغالب أن يتوب بل يتمادى لأنها تُعمى بصيرته لكونه معجب بنفسه مفتخر بها متعاظم فلا يهون عليه كسر نفسه حتى يتوب فالتوبة تحتاج إلى تواضع وانكسار وخضوع وهذا مفقود عند المتكبر .

وأما صاحب الحرص ومن تغلبه شهوته فإنه إذا تذكر يرجع ، ولذلك آدم عليه الصلاة والسلام لما تذكر أن هذه معصية رجع وأناب فتاب الله عليه ، بينما إبليس تمادى في طغيانه ، فمع أن الله لعنه وطرده من الجنة قال : { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (2) فهذا غاية التحدي والعناد لأن منشأ هذه المصيبة الكبر والكبر لا يزيد النفس إلا طغيان وكفر وانتفاش .

7- كل شر في العالم هو بسبب إبليس وجنده ووسوسته وتسويله للناس فالكفر وما بعده من المعاصي والذنوب والفجور والبغي والعدوان والظلم والاستبداد في العالم أصله معصية إبليس وتعاليه وتكبره على رب العالمين ، فلخطورة هذه المصيبة العظمى التي حلت بالعالم بسبب هذا المخلوق أعادها الله تعالى في القرآن وكررها وذلك ليحذرنا منها غاية التحذير ، وحتى لا يغتر المخلوق بصفة عامة بظواهر الأحوال ولا يعجب بنفسه أو عمله مهما عمل فإن إبليس كان مع الملائكة يعمل كأعمالهم ولكنه لما عصى الله طُرد من ذلك كله .

فعلى المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى ويحتمي بجنابه ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر مع ما أعطاه الله من الخصائص التي لم يعطها نبي قبله ومع هذا يقول في سجوده : (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على  دينك )) .

وكذلك خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أثنى الله عليه في القرآن وفضله على كثير من الخلق وهو في الفضل بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يقول داعيا ربه ملتجأً إليه : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (1) .  

فهل يتصور أن إبراهيم الذي كسر الأصنام من أجل الله ورمي في النار المؤججة بسبب هذا أنه يعبد الأصنام ؟ لا يتصور هذا ، ولكن خوفاً على نفسه وإزراء وتواضع لله .

فالمسلم من باب أولى عليه أن يخاف على نفسه من المعاصي والذنوب .

8- المعاصي نوعان :

النوع الأول : إما ترك أمر .

النوع الثاني : وإما ارتكاب نهي .

فترك الأوامر أخطر من فعل النواهي في الجملة ، وتبين لنا ذلك من قصة إبليس وعصيانه لأمر الله وعدم سجوده لآدم فطرده الله ولعنه ، وأما آدم عندما فعل ما نهاه الله عنه ثم تاب وأناب تاب الله عليه وغفر له .

فالذي يحبه الله تعالى فإنه يأمر به إما أمر إيجاب أو أمر استحباب فإذا فعلت ما أمر الله به فأنت تفعل ما يحبه الله ، ثم إن ترك ما أمر الله به نوع من المحادة والمعاندة والتحدي لله عز وجل ، وهذا لا يتصور أن يحدث إلا من نفس خبيثة متكبرة متغطرسة وهذه الغطرسة والكبر تؤدي إلى الكفر فإن إبليس لما حصل له هذا نقله إلى الكفر قال تعالى : {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .

وتارك الأمر فيه تشبه بإبليس ؛ لأن إبليس ترك أمر الله عز وجل ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :  (( من تشبه بقوم فهو منهم )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( ليس منا من تشبه بغيرنا )) فيخشى على المتشبه بإبليس أن يكون حاله كحاله وأن يكوم مآله كمآله .

بينما فاعل النهي غاية ما فيه أنه فعل كفعل أبيه آدم عليه الصلاة والسلام فيرجى له أن يمن الله عليه أن يتوب فيتوب الله عليه .

وهذا فيه رد على الذين يمجدون أنفسهم ويمدحونها في تركهم للمنهيات مع أنهم لم يقوموا بالأوامر ، فأخذ العلماء من هذا قاعدة : ( أن تارك الأمر لا يمدح في تركه   للنهي ) ؛ لأن تركه للأمر أخطر من فعله للنواهي ، فمثلاً من يستخدم المخدرات ويصلي هو أهون من الذي لا يستخدمها ولا يصلي ؛ لأن ترك الصلاة كفر .

ولا يعني هذا التقليل من فعل النواهي فإنها مصيبة وطامة كبرى ، فلو لم يكن من نتائجها إلا أن آدم عليه الصلاة والسلام أُخرج من دار النعيم المقيم التي لا مرض فيها ولا سقم ولا نصب ولا موت خرج منها إلى دار النكد والتعب والعناء والمرض والأسقام ثم الموت ، ومن ذرية آدم من لا يرجع إلى الجنة فيحرم منها بسبب شركه أو نفاقه أو معاصيه ، فهذا يدل على أن فعل النواهي ليس سهلاً .

9- وفي هذه الآية دليل على كفر تارك الصلاة ، فإن الله سبحانه وتعالى لما حكم بكفر إبليس بقوله تعالى : {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} بسبب امتناعه عن سجدة أمره الله أن يسجدها لآدم ، ومع ذلك حكم الله بكفره لأنه امتنع من السجود لغير الله فكيف بمن أمر بالسجود لله فامتنع ؟ فهو من باب أولى أن يكون كافر .

10- في هذه القصة إلماح إلى خطورة الجليس السوء ، فآدم عليه الصلاة والسلام كان في الجنة هو وزوجه مطمئنين يأكلون منها حيث شاءا ، فجاءهم الشيطان فوسوس لهما فأخرجهما من النعيم المقيم .

فالجليس السوء وراء كل بلاء ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم مثله بمثل حسي مشاهد ، كما في صحيح مسلم من حديث أَبِى مُوسَى رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً )) (1) .

11- يجب على المخلوق أن يراقب قلبه وسريرته فإن أي عمل يعمله العبد لا يقبله الله حتى ينظر إلى سريرة العبد قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) (2) .

فإبليس أسر سريرة خبيثة في نفسه مع أنه مع الملائكة يسجد ويركع ولكن الله مطلع على سريرته فلم ينظر إلى عمله ولذلك لم يزكيه فكشفه الله على رؤوس الخلائق الملائكة وآدم والسماوات والأرض ، فعلى الإنسان أن يراقب قلبه فيخلص أعماله لله تعالى وحده ولا شريك له .

قال صلى الله عليه وسلم : (( … إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَهْوَ مِنَ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ )) (1) .

12- الله جل وعلا قادر على أن يخلق حواء من طين كما خلق آدم عليه الصلاة والسلام ولكن حكمة بالغة في خلقها من ضلع آدم ليكون السكن والمودة بين الجنسين والتعاطف والتراحم مسألة جبلة وطبيعة وأصل أصيل لا يمكن انفصاله ، فإنها لو خلقت من التراب مباشرة مثل آدم فربما كان بينهما نوع من الانفصال .

فانجذاب الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل ليست مسألة مؤقتة كما يدعي الخبيث فرويد اليهودي وغيره من علماء اليهود الذين يقولون : أن العلاقة بين البـشر علاقة جنسية بحته ، بل العلاقة علاقة مودة ورحمة وتعاطف لا يمكن أن تنقطع وتنتهي .

فالعلاقة الحقيقة بين الرجل والمرأة علاقة تعاطف وتراحم وصلة وكونهما ذكر وأنثى هذا من أجل بقاء الجنسين واستمراره ، وهذا يدل على أن الدعوات المشبوهة التي تنادي بتحرير المرأة وإعطائها حقوقها دعوة فاسدة يراد منها إفساد المجتمعات والشعوب ، فقد صوروا المرأة وكأنها واقعة تحت سيطرة الرجل واستبداده وكأنها من عالم آخر أنها وأنه استولى عليها لذلك يريدون إخراجها من ظلمه وبطشه .

والواقع الذي تدل عليه الشرائع السماوية والفطرة الإنسانية والواقع التاريخي للبـشر منذ خُلِقَ آدم تُكذب هذه الدعوات الفاسدة وترد عليها خاصة إذا علمنا أن الذي يقف وراءها هم اليهود الذين هم أتباع الشيطان منذ تمردوا على موسى عليه الصلاة والسلام بعد أن أنقذهم من تعذيب فرعون واضطهاده لهم .

13- إثبات الأسباب وأن فيها قوة مؤثرة تؤثر في مسبباتها ، والله تعالى هو الذي خلق هذه الأسباب وخلق فيها القوى المؤثرة فإذا شاء سبحانه وتعالى أبطل هذه الأسباب وهذا مأخوذة من قوله تعالى : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} نسب الإخراج للشيطان؛ لأنه هو السبب مع أن الذي أخرجهم منها هو الله عز وجل          قال تعالى : { وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } .

ومن الأسباب مثلاً أن النار محرقة فلما شاء الله سبحانه وتعالى أبطل هذا السبب : {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (1) فالأسباب موجودة وثابتة والله عز وجل خلقها وخلق القوى المؤثرة فيها ولكنها ليست بمنفردة فهي تحت سيطرة الله تعالى وتصرفه فإذا شاء سبحانه وتعالى أبطلها .

وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان في عقيدته مع الأسباب أن يعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الأسباب والمسببات وجعل فيها قوة تؤثر في المسببات هذا بإرادة الله عز وجل فلا يؤله الأسباب فيجعلها رب من دون الله ولا ينكر الأسباب ؛ لأن إنكار الأسباب تغييب للعقل .

14- قوله تعالى : {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } هذا دليل على أن الحياة في الدنيا مؤقتة وليست بدائمة والنعيم فيها مؤقت وليس بدائم وأن للإنسان أجل سينتهي ، فينبغي للإنسان أن يستعد للموت فيشكر الله على نعمه ويراقب الله في أقواله وأفعاله لأنه محاسب عليها .

ومن ناحية أخرى فيها إثبات قضية البعث والنشور وأن الله بعد ذلك سيبعث الناس من مستقرهم : {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } ثم بعد ذلك ينقلهم الله منها ، وبالتالي نعرف أن قول الناس عن الميت ( انتقل إلى مثواه الأخير ) أن هذا باطل وليس بحق ؛ لأن المثوى الأخير إما الجنة وإما النار وأما الأرض فليست بمثوى أخير إنما هي إلى حين يعلمه الله عز وجل ثم يخرجهم الله تعالى كما قال سبحانه : {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} (1) .

قال تعالى : {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الآيات 37 39) .

هذه الآيات فيها فوائد وعبر وعظات نثرها أهل العلم في مؤلفاتهم في كتب التفسير فمن هذه الفوائد :

1- أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته سواء كان من الإنسان أو النبات  أو الحيوان أو الجماد أو في السماء أو في الأرض فالكل خلهم الله لعبادته عز وجل .

وهذه العبودية نوعان :

*- النوع الأول : عبودية قدرية ، وهي التي لا ينفك عنها ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، قال تعالى : {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} (1) لأنه سبحانه وتعالى متفرد بخلقهم وإيجادهم ومتفرد بتـصريف أمورهم وتدبير بقائهم ونهاياتهم .

*- النوع الثاني : عبودية شرعية خاصة ، وهي امتثال الأمر والنهي وهي لا تحصل إلا بالاختبار والامتحان بأن يأمر الله عبده بأمر فإما أن يطيع ويذعن وإما أن يعرض ويتكبر ، فمن أذعن فهو العبد عبادة شرعية ، وكل من في السماوات والأرض مذعن لله عز وجل في أمره قال الله تعالى عن الملائكة : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2) .

وقال عنهم : {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (1) .

وقال عن السماوات والأرض : { ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (2) .

وقال سبحانه وتعالى عن السماوات السبع ومن فيهن والأرضين : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً  غَفُوراً} (3) .

وآيات كثيرة دالة على أن جميع الكائنات في السماوات والأرض لا تتخلف عن أمر الله عز وجل وأنها مذعنة لله عز وجل مستسلمة منقادة خاضعة لربها جل وعلا ، إلا متمرد الإنس والجن فقد شذ عن هذه القاعدة .

النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن حجراً بمكة يعرفه كان يسلم عليه بالنبوة وهو في مكة ، وقصة الرجل الذي شهد الذئب أمامه للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاةً ، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه ، قال : فصعد الذئب على تل فأقعى واستثفر فقال : عمدت إلى رزق رزقنيه الله عز وجل انتزعته منى ، فقال الرجل : تالله إن رأيت كاليوم ذئبا يتكلم ، قال الذئب : أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين ، يخبركم بما مضى وبما هو كائن بعدكم ، وكان الرجل يهودياً ، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ، وَخَبَّرَهُ ، فصدقه  النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنها إمارةٌ من إمارات بين يدي الساعة ، قد أوشك الرجلُ أن يخرجَ فلا يرجع حتى تحدثه نعلاه وسوطه ما أحدث أهلُهُ بعدَهُ )) (4) .

2- اقتضت حكمة الله عز وجل أن تكون هناك دارين :

*- دار للامتحان والاختبار ( اختبار العبودية الشرعية ) .

*- دار يجازى فيها العاملون على حسب عملهم .

3- ما هي الحكمة من إسكان الله تعالى لآدم في الجنة أولاً ؟ وقد قال سبحانه : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً }  (1) .

هذه أمور غيبية ، ولكن مما يمكن أن يقال فيها والله أعلم أنه لو لم يسكن الجنة لما عرف قيمتها فليس الخبر كالمعاينة ، فلما عاين النعيم الذي لا يخطر ببال في الجنة وذاق حلاوته وعاش فيه فترة قيل : أنها مائتين وخمسين سنة من سنين الأرض ، ومنهم من قال : أكثر  ومنهم من قال : أقل ، فبهذا يعرف قيمة الجنة فيبقى متلهفاً متعطشاً للرجوع إليها ولذلك ورد في مقالات المتكلمين في التفسير أن آدم عليه الصلاة والسلام مكث مائة سنة يبكي ، حتى قيل : لو جمعت دموع أهل الأرض إلى دموع داود عليه الصلاة والسلام لغلبت دموع داود لما بكى على ذنبه : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (2) ولو جمعت دموع أهل الأرض مع دموع داود إلى دموع نوح عليه الصلاة والسلام لغلبت دموع نوح ، ولو جمعت دموع أهل الأرض مع دموع نوح إلى دموع آدم عليه الصلاة والسلام لغلبت دموع آدم .

ومن الأمثلة على ذلك أن الله تعالى أخبر موسى عليه الصلاة والسلام أن قومه عبدوا العجل فأيقن وصدق وتحسر على ذلك ، ولكن لما رآهم رأي العين وهم يعبدون العجل اشتد غضبه وألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي خطه الله بيده وأخذ برأس أخيه وهو رسول نبي كريم فجره فليس الخبر كالمعاينة ، وكذلك آدم عليه الصلاة والسلام لو أخبره الله عن الجنة لصدق وآمن ولكن لما رآها كان الأمر أعظم حتى أصبح همه الوحيد أن يرجع إلى الجنة التي أخرج منها .

4- أن الابتلاء الحقيقي هو في الإيمان بالغيب ، فلا تنفع العبد التوبة عندما يرى الملائكة ويصبح الغيب مشاهدة قال الله عز وجل : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } (1) .

فكل ما كان إيمانه بالغيب أعمق كان قدره ومنزلته أعلى ، وكلما كان إيمانه بالغيب أضعف كان قدره ومنزلته أدنى ، ولذلك في القرآن من أوله إلى آخره إنما مدح الذين يؤمنون بالغيب ، فنزول آدم إلى الأرض من أجل أن يتحقق هذا الأصل الأصيل الذي يمدح فيه المخلوق أو يذم بسببه وهو الإيمان بالغيب .

5- أن الله تعالى لما أراد أن يخلق آدم قبض قبضة من كل الأرض كما في الحديث الصحيح ، وهذه القبضة فيها الطيب والخبيث ومعلوم أن الجنة طيبة ولا يسكنها إلا طيب فلا يمكن أن يبقى فيها الخبيث فاقتضت حكمة الله تعالى أن ينزل آدم إلى الأرض حتى يخرج الخبيث ويتميز الخبيث عن الطيب ليرجع الطيب إلى دار الطيبين الجنة والخبيث يذهب إلى دار الخبثاء وهي الجحيم ، قال تعالى : {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (1) .

6- أنهم بنزولهم إلى الأرض تتحقق آثار ربوبية الله لهم ، والربوبية نوعان :

*- ربوبية عامة ، وهي خلق الخلق وإيجادهم وتدبير أمورهم فيشترك فيها المسلم والكافر والطيب والخبيث الصالح والطالح الحيوان والإنسان فيمد كلا إلى أجله .

*- ربوبية خاصة ، وهي ربوبيته لأوليائه بالعائد الصالحة والأخلاق الحميدة فمن يستح الهدى هداه ومن يستحق الضلالة أضله : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}(2) من يعلم سبحانه أن فيه خير هده للخير ، ومن يعلم سبحانه أنه لا يقبل الخير وأنه من أهل الشر صرفه عن الخير وولاه ما تولى .

7- إظهار آثار أُلوهيته فإنه سبحانه هو الإله الملك الذي يحكم بما يريد فإذا أُطيع أحسن الجزاء وأكرم وأنعم وتفضل ، وإذا عُصي عذب وأهلك وعاقب ، فبأحكامه الشرعية يفرق سبحانه وتعالى بين المؤمن والكافر وبين المسلم الموحد والمشرك وبين المؤمن والمنافق وبين الطائع والعاصي على حسب تقبلهم للأوامر وقيامهم بها                        أو تخلفهم عن الأمر وارتكابهم للنهي فتتحقق بهذا ألوهية الله عز وجل لخلقه ولكه سبحانه وتعالى لهم .

8- أن الله أظهر بإنزاله آدم إلى الأرض ما علمه من أحوال هذا المخلوق وذريته مما جهلته الملائكة فإن الملائكة قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (1) . فلما وجدوا في الأرض كان منهم الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام والأنبياء والأولياء والصديقون والشهداء والصالحون الذين قدموا محاب الله عز وجل على محاب أنفسهم وقدموا طاعة الله عز وجل على الهوى .

9- أن الجنة حفت بالمكاره فلا يصل إلى الجنة إلا من طريق المكاره وهي ما يشق على النفوس فلا يصل العبد إلى الجنة حتى يجاهد نفسه مجاهدة عظيمة ويجاهد عدوه الشيطان فيتحقق بذلك حكمة الله في أنه حف الجنة بالمكاره .

10- ومن فوائد إنزال آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض أنها تظهر آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى تظهر في الخلق ، فإن الله سبحانه وتعالى من أسمائه التواب ومن صفاته أنه يتوب على المذنبين إذا تابوا وأنابوا إلى الله ، فإذا لم يكن في الأرض خلق يذنبون ويتوبون لا تظهر آثار هذا الاسم العظيم وهذا الوصف لله تعالى المقدس فلما وجد الخلق وجد من ينسى فيعصي الله أو يغفل فيعصي الله ثم يتوب فيتوب الله عليه .

11- ومن الحكم أن الجنة درجات متفاوتة فلو بقي آدم وذريته في الجنة من الأصل لكانوا في منزلة واحدة ، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن ينزلوا إلى دار الامتحان والابتلاء وهنا يتفاوتون في قبول الأمر والنهي بحسب أعمالهم فيكون منهم السابقون ومنهم المقربون ومنهم الظالم لنفسه الذي خلط بين العمل الصالح والعمل السيئ : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (1) .

12- ومن الحكم أيضاً أن آدم عليه الصلاة والسلام مع أن الله أكرمه وفضله إلا أنه مع ذلك مخلوق ضعيف ينسى قال الله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (2)  والله تعالى لعلمه بحال هذا المخلوق الضعيف حفه بلطفه ففتح له باب التوبة وباب الرجاء فتقبل توبته ما لم يغرغر وما لم تطلع الشمس من مغربها كل ذلك لتظهر عناية الله عز وجل بهذا المخلوق الذي ينسى ويغفل وتغلبه شهوته وطمعه فإن الله قد أباح لآدم عليه الصلاة والسلام الجنة كلها وبقيت شجرة واحدة فطمع أن يخلد في الجنة لما أقسم له إبليس فنسي أن الله نهاه عنها وغلبه طمعه .

13- أن الله تعالى ألهم آدم عليه الصلاة والسلام التوبة وأوحى إليه ما يتوسل به إلى الله تعالى ليقبل توبته ثم بعد ذلك لما عرض توبته بل الله عز وجل منه التوبة فتاب عليه فكانت فضائل عظيمة ونعم متتابعة :

*- ألهمه التوبة ولم يجعله يتمادى .

*- أوحى إليه بالكلمات التي يتوسل بها إلى الله عز وجل كما قال تعالى : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (1) .

وهو مشتمل على أنواع من التوسلات :

أنهمـا توسلا باسم الرب سبحانه وتعالى ، ودائماً في دعاء الأنبياء إنما يدعون الله بالرب لأن اسم الرب مشتمل على ربوبيته الله لخلقه العامة والخاصة فيناسب أن تدعوا في حال طلبك باسم الرب .

*- ثم قبل الله سبحانه وتعالى منه التوبة .

*- الاعتراف بالذنب ، والاعتراف بالذنب من أسباب غفران الذنب وهذا مثلما في حديث سيد الاستغفار : (( … أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عليّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي ، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ … )) (2) أي أعترف وأقر بذنبي ، ومن اعترف بذنبه على سبيل الندم ومحاسبة النفس عليه والإقلاع عنه فإن الله سبحانه وتعالى يقبل هذا المقر بالذنب إذا كان بهذه الصفة ، وآدم عليه الصلاة والسلام لما قال : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} هو متراجع عن الذنب نادم عليه ومتحسر .

*- افتقارهم إلى الله عز وجل: { وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي ليس لنا إلا أنت فهذا فيه غاية الافتقار وإظهار الفاقة والفقر إلى الله عز وجل وإذا انكسر القلب إلى هذا الحد فإن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة التائب وندمه وانكساره .

*- تفويض الأمر إلى الله : { وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا} أي : من يغفر الذنب إن لم تغفره أنت .

14- ورد في هذه الآيات اسم الله الكريم ( التواب ) ورد بصيغة المبالغة :

*- إما لكثرة توبته على عبده مهما تكرر منه الذنب وتنوع فإن الله يغفر الذنوب جميعاً قال تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) . وفي الحديث : (( … يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة …. )) .

بل أعظم من ذلك يبدلها حسنات قال تعالى : {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (2) .

 وكما في صحيح مسلم – رحمه الله – من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال : (( أذنب عبدٌ ذنباً . فقال : اللهم اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له ربا يغفر الذنبَ ، ويأخُذُ بالذنبِ . ثم عاد فأذنبَ . فقال : أي رب اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنباً . فعلم أن له ربا يغفرُ الذنبَ  ويأخذُ بالذنبِ . ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا . فعلم أن له ربا يغفرُ الذنبَ ، ويأخذُ بالذنبِ . اعمل ما شئت فقد غفرت  لك )) (3) .

*- وإما لكثرة من يتوب عليهم فإن كل بني آدم خطاء إلا من عصم الله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

نسأل الله أن يلهمنا وإياكم والمسلمين التوبة وأن يجعلها في الوقت الذي يقبله الله             عز وجل ، فإن التوبة لها شروط كما ذكر العلماء :

*- أن يكون الدافع لها والقصد وجه الله تعالى .

*- أن تكون في الوقت الذي يقبلها الله فيه ، أي قبل أن تغرغر الروح ؛ لأن الروح إذا بلغت الحلقوم وكشف الحجاب فلا تنفع التوبة لأن الغيب أصبح مشاهد .

*- وأن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها ؛ لأن الشمس إذا رجعت من مغربها ترجع من باب التوبة فتغلقه فلا تنفع التوبة حينئذ .

*- والندم على الذنب قال صلى الله عليه وسلم : (( الندم توبة )) .

*- الإقلاع عن الذنب .

*- إرجاع الحقوق إلى أهلها .

*- العزم على ألا يعود إليه مرة أخرى وهو يستطيع .

قال تعالى : {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ( الآية 38 ) .

الهدى نوعان :

*- هداية إرشاد وتعليم .

*- هداية توفيق .

فقوله تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} فدل هذا على أن الهداية من الله وحده جل وعلا سواءً كانت هداية أرشاد أو توفيق ؛ لأن هداية الإرشاد إنما هي من كتبه المنزلة ورسله الذين أرسلهم فهي من الله ، فالناس قبل بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام ونزول الكتب لا يعرفون الهدى ، وهذا فيه رد على الذين يقولون أن هداية الإرشاد يملكها كل أحد فإن الناس قبل إنزال الكتب وإرسال الرسل لا يعرفون شيئاً .

وفيه رد على الذين جعلوا العقل المصدر الأول للتلقي والتكليف ، فلا شك أن هذا القول خطأ وضلال ؛ لأن الأصل هو الكتاب والسنة ، فقبل الكتاب والسنة كان العقل ضالٌ يعبد الأصنام ، ولما قيل لعمرو بن العاص رضي الله عنه (1) : كيف كان يخفى عليك أمر الإسلام ؟ قال : هوّن عليك يا ابن أخي لقد عشنا مع رجال أحلامهم كالجبال الراسية فغيبنا عقولنا اعتماداً على عقولهم فلما غابوا عنا نظرنا فإذا هو الحق .

قوله تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً}أي إذا أرسلت الرسل وأنزلت الكتب بعد هذا يتبين من يهتدي ومن يضل .

إذا اهتدى الإنسان بهداية الله عز وجل فله السلامة في المستقبل والأمن على الماضي    قال تعالى : { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) لأن بعض الـمفسرين يقول : لا خوف عليهم في المستقبل ولا هم يحزنون على الماضي .

ومنهم من قال : أنه يحزن على ما يترك من الأولاد الصغار القُـصّر والنساء فيحزن عليهم فالله تعالى يطمئنه على ما ترك خلفه فالله خليفة كل مؤمن ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( والله خليفتي على كل مسلم )) فقد استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا الحي القيوم مالك الملك سبحانه وتعالى له ملكوت السماوات والأرض يجير ولا يجار عليه  لا إله إلا هو .

فالله هو الكافي لمن اتبع هداه واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن بما جاء به وعمل بذلك عملاً يقبله الله عز وجل على وفق شريعته عز وجل .

وهذه الآية تفيد على وجه الخصوص أن من تعبد لله بشيء لم يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو باطل غير مقبول فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على هذه القضية في كل خطبة يقول : (( إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )) .

فإذا أراد العبد السلامة والنجاة والقبول فليكن على هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، ولما جاء الثلاثة النفر يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا الخير ولكن عندما جاءهم شيء من النزعة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أَنَسَ ابْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال : جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ , قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَداً . وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَداً . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ : (( أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟   أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي )) (1) .

فالمقصود أن يكون التعبد لله وقبول الهدى على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } (2) فهذا هو القسط أن يكون الناس على هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كل أمة على هدي نبيها .

فإذا قام ميزان الكتاب قام القسط والعدل وطمأنينة الناس وإذا اختل هذا الميزان اختلت حياة الناس واضطربت .

وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ( البقرة 39)

1- الكفر هنا نوعان :

– النوع الأول : كفر تكذيب ، فمن كذب الخبر فهو كافر (1) .

– النوع الثاني : كفر استكبار ، فمن استكبر على الخبر فهو كافر ، وهذا مثل كفر إبليس قال تعالى : { إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (2) .

وأما قول من قال : أن الكفر نوع واحد وهو كفر التكذيب أو الجحود فهو قول باطل فإن إبليس لم يكن يجحد وجود الله فقد قال الله عنه أنه قال : {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (3) فهو مقر بأن الله جل وعلا هو الرب ، فكيف يقال أنه لا يجود كفر إلا كفر الجحود ؟

وقالوا أيضاً : أن كفر الاستكبار إنما هو دليل على كفر الجحود فالجحود موجود في النفس ، كيف هذا والله يقول عن فرعون : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً             وَعُلُوّاً} (4) فهذه القضية الآن يروج لها وقد أُلف فيها كتب باطلة مخالفة لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل السنة والجماعة فانتبهوا بارك الله فيكم لهذا .

وهناك نوع آخر من الكفر وهو الاستكبار على الأمر .

2- قوله : {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} الآيات :

– وإما أن تكون آيات كونية ، مثل السماوات والأرض والشمس والقمر الدالة على عظمة خالقها وعلى وجوده واقتداره وعلمه وحكمته وتدبيره للخلق وأنه لا قيام لمخلوق من المخلوقات إلا بالله ، وكثير من الكفار مذعنون بهذه الحقيقة لا يكابرون فيها ، قال الله عز وجل : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (1) وآيات كثيرة دالة على هذا .

– إما أن تكون آيات شرعية هي آيات الأنبياء الكتب المنزلة بالأمر والنهي .

ولابد من الإيمان بالآيات الكونية والشرعية فمن آمن بواحدة منها وكفر بالأخرى فلا ينفعه إيمانه .

والآيات الشرعية يعجز الخلق أن يأتوا بمثلها خاصة القرآن وما فيه من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة والحكم الباهرة والأسرار التي لا تنتهي ، فالبشر عاجزون على الاتيان بمثل أقصر سورة منه ، فقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا ، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا .

والتحدي لا زال قائماً وكل من حاول أخزاه الله فقد حاول بعض المتمردين على الله والزنادقة ولكن أخزاهم الله في الدنيا ولهم في الآخرة ما يستحقون .

3- قوله : {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} لا تأتي في وصف الموحدين الذين يستحقون النار ثم يخرجون منها وإنما تأتي في وصف من يدخلون النار فلا يخرجون منها .

4- قوله تعالى : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}  دل هذا على خلود أهل النار .

وهنا سؤال : هل الخلود أبدي لا نهاية له ؟ وأن النار لا نهاية لها وأنها أبدية ؟ أم أن الخلود مؤقت ثم بعد ذلك تنتهي النار ؟

الجواب : الله تعالى ذكر في القرآن الكريم في ثلاث آيات التخليد الأبدي لأهل النار وذلك في ثلاث سور : 

– الآية الأولى : في سورة النساء قال عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} (1) .

– والآية الثانية : في سورة الأحزاب قال سبحانه : {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (2) .

– والآية الثالثة : في سورة الجن قال تبارك وتعالى : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (3) .

وقد أجمع أهل السنة والجماعة – بعد خلاف يسير كان في عهد الصحابة ثم انتهى – أجمعوا على أهل النار خالدين فيها أبدا لا يخرجون ولا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها ، نسأل الله تعالى أن يجيرنا وإياكم منها .

5- هذا الأسلوب العظيم الحكيم وهو أن الله تعالى يقرن بين الترغيب والترهيب فإنه جل وعلا لما ذكر الذين يهتدون وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ذكر بعد ذلك الذين يكذبون وأنهم من أصحاب النار هم فيها خالدون .

قال تعالى : { يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } ( الآية -40 ) .

1- سورة البقرة كما هو معلوم بدأت بأن قسم الله عز وجل الناس إلى ثلاثة أصناف : 

– الصنف الأول : مؤمنون موقنون ينتفعون بالقرآن ويتبعون هدى الله ويؤمنون بالغيب ويعملون الصالحات أولئك هم المفلحون .

– والصنف الثاني : الذين كفروا بالله وكذبوا الرسل وما جاءوا به وعاندوا أمر الله وهؤلاء الكفار الصرحاء هم أصحاب النار  .

– والصنف الثالث : أظهروا الإسلام علانية وأبطنوا الكفر لأغراض شتى ، فمنهم من يظهر الإسلام رغبة في الدنيا ومنهم من يظهره خوفاً من القتل وهذا الصنف أخبث أصناف الكفار ، ولذلك كشف الله أستارهم وبين أعمالهم وأطال الحديث عنهم كما في سورة البقرة وغيرها من السور التي بين الله تعالى فيها أعمالهم وأخلاقهم وصفاتهم وبين الأعمال التي من عملها فهو منهم حتى يُعرفوا ويُـحذروا ؛ لأن خطرهم شديد فهم مع المؤمنين يصلون معهم ويعاشرونهم ويدخلون معهم المساجد ويتسمون بأسمائهم ، بل وأحياناً يزعمون أنهم هم المصلحون وفي الحقيقة أنهم مفسدون : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} (1) ثم بعد ذلك أمر بعبادته سبحانه وتعالى .

وحذر من الشيطان ومكره وكيده وبين سبحانه وتعالى أن الشيطان هو العدو الحقيقي وأن عداوته لا تنتهي حتى يقف في أتباعه خطيباً في نار الجحيم كما قال تعالى : {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .

والله جل وعلا لم يترك عباده هملا فأنزل الإنسان إلى هذه الأرض ليكون فيها خليفة كما اقتضت حكمته ذلك ، وأنزل الشيطان ليكون فتنة للإنسان .

ومع هذا لم يتركهم هكذا بمجرد أن أخرج آدم من الجنة ورأى الشقاء والتعب وبذلك تتحقق عنده عداوة الشيطان فلم يتركهم لهذه الحقيقة التي عايشها آدم معايشة ذاتية بل تكفل الله عز وجل أن يبين من طريقه سبحانه وتعالى طريق الهداية حتى يتبعها من أراد السلامة والنجاة وأراد العودة إلى الجنة ومن أعرض عنها فمعنى ذلك أنه سلك سبيل الشيطان فلا أسف عليه .

بعد هذا تبين للخلق كلهم انقسام الخلق إلى الأقسام الثلاثة وما هو المطلوب من الجميع وما أسباب الانحراف وما سبيل الجناة .

بعد هذا جاءت القضايا الخاصة ، فالقضية الكبرى أنه أهل الكتاب يدعون دعاوى عريضة بأنهم هم أهل الكتاب وأنهم أتباع الرسل وأن العالم كله في ضلال وأنهم هم المهتدون ، فجاءت المخاطبة لهؤلاء الذين عندهم شيء من الحق فعندهم كتب أنزلها الله على الرسل من السماء ورسل بعثهم الله فيهم ، فجاء الخطاب لهم ، فالسورة هذه مدنية ومعلوم أن مكة لم يكن فيها يهود ولا نصارى ، وبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أصبح المجتمع فئات :

– الفئة الأولى : المسلمون .

– والفئة الثانية : طائفة بقيت على دين الجاهلية والكفر ولكنها بقيت متخوفة من الدين الجديد ولم تستسلم لله عز وجل ولم تنقد فبقيت على دينها فلما ظهر أمر الإسلام وبدأت انتصاراته في بدر خافوا على أنفسهم أو طمعوا في الدنيا فأظهروا الإسلام وبقوا على عقائدهم في الباطن .

– والفئة الثالثة : أهل الكتاب الموجودين في المدينة وهم اليهود كانوا ثلاث قبائل :

– بنوا النظير .

– وبنوا قينقاع .

– وبنوا قريظة .

وأجدادهم كانوا من ذرية هارون عليه الصلاة والسلام وكانوا في بني إسرائيل هم حفظة التوراة ولما رأوا ما حل ببني إسرائيل من استيلاء الكفار عليهم وتهديم بيت المقدس وقتلهم وتشريدهم ارتحل هؤلاء الذين هم من ذرية هارون عليه الصلاة والسلام والذين هم علماء بني إسرائيل وخيارهم لما وجدوا في التوراة أن نبياً سيبعث في آخر الزمان من بني إسماعيل وأن مولده مكة ومهاجره إلى المدينة ارتحلوا إليها ليكونوا في البلد الذين سيكون مهاجراً للنبي صلى الله عليه وسلم ليكونوا أول المؤمنين به ومن جنده وأنصاره وحزه لكونهم أعلم الناس به هذا السبب الذي جعل اليهود ينزلون المدينة ولكن لما ذهب الأجيال التي تعلم هذا وتؤمن به وجاء أجيال حرفت وغيرت وبدلت وارتكبوا ما ارتكب غيرهم من بني إسرائيل من المفاسد والآثام من أكل أموال الناس بالباطل وتحريف الكتاب ليوافق أهواءهم وتسلطهم على الناس والتحكم في رقاب الخلق فغيروا وبدلوا في أحكام الله عز وجل فبالتالي تطبعوا بخلال وخصائص من الحقد على الأمم الأخرى غير اليهود والتعالي عليهم والكبر .

فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت هذه الصفات الذميمة قد تمكنت من نفوس اليهود وأطبقت عليهم وأصبحت هي دينهم وأخلاقهم ومذهبهم ، فيتلون التوراة ولا يعملون بها سوءا بالنسبة لتشريعاتها وأحكامها لليهود أو فيما يتعلق بإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وامتثال أمر الله لهم بإتباعه ونصرته والإيمان به ، هكذا كانت أخلاق علمائهم وكبرائهم وأهل المعرفة فيهم والقيادة والتمكن .

واليهود في المدينة كانوا يتميزون عن العرب ؛ لأن العرب أمة أمية لم يقرأوا كتاب ولا بعث فيهم نبي قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلا إسماعيل عليه الصلاة والسلام وليس له كتاب وإنما هي بقايا عند العرب من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام توارثوها من غير كتاب ، فكان اليهود يتطاولون على العرب بأنهم هم أهل الكتاب وأنهم أحباء الله وأبناءه وأن الله خصهم بما خصهم به لمكانتهم وأنهم سادة البشرية ، مع أنهم في الحقيقة لم يؤمنوا بالرسل ولم يتقيدوا بالشرائع التي جاءت بها الرسل وإنما اتبعوا أهواءهم وحرفوا وبدلوا حتى في حال وجود الرسل العظام مثل موسى عليه الصلاة والسلام وعيسى وداود وسليمان عليهم الصلاة والسلام .

واستمروا في التكذيب والعناد فأعرضوا كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعرفوه كما يعرفون أبناءهم ، بدأ الله تعالى بالكلام مع هذه الفئة في آيات بلغت قرابة المائة آية في سورة البقرة يتحدث رب العالمين فيها عن بني إسرائيل عما أعطاهم  وما أنعم به عليهم وما أخذ عليهم من العهود والمواثيق وعن معاندتهم للرسل وما فعلوه مع موسى عليه الصلاة والسلام .

فهذه المناسبة للحديث عن بني إسرائيل أن الله تعالى لما رسم خط البشرية كاملاً بدأ يتكلم عن فئة تعايش النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وتأثر في الأحداث ومجرى التاريخ بطريقة لا يقبلها رب العالمين ، هي نتاج أخلاق ساذجة مشى عليها هذا الصنف من البشر وهو العناد والمكابرة وطمس الحقائق ورد الحق كما أخر الله عنهم : { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (1) .

فمن خلال هذه الآيات :

*- أن الله تعالى يقررهم بالدين الحق .

*- أن الله تعالى يكشف للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته حال هذا الجنس من البشر حتى يكونوا على حذر واستعداد لمواجهتهم .

*- أن الله تعالى يكشف التلبيس والتدليس الذي يتعاطونه مع الناس .

*- أن الله تعالى يتهددهم ويتوعدهم ، وهذا أشد عليهم من ضرب السيوف ، فلما يسمعون تهديد الله لهم كما في قوله : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} تكاد تنخلع قلوبهم من شدة الرعب ؛ لأنهم يعلمون أن هذا هو الحق وأن الله سبحانه هو الذي يتكلم بهذا الكلام .

فبدأ ربنا عز وجل بمخاطبتهم وتذكيرهم بأنهم ينتسبون إلى نبي كريم وهو إسرائيل عليه الصلاة والسلام فإن إسرائيل هو يعقوب وهذا بإجماع المفسرين .

فإبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام ولد له إسحاق وولد لإسحاق يعقوب وجاء من يعقوب يوسف وإخوته ثم بنوا إسرائيل هم بنوا أبناء يعقوب وكان عددهم اثنا عشر ولداً .

فيذكرهم الله تعالى بأجدادهم الكرام أئمة الخير والفضائل فلا ينبغي أن يكونوا مكذبين لآبائهم ولا معاندين لهم ولا كافرين بهم ؛ لأنهم إذا كفروا بالله أو كفروا بعيسى                 أو كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنما هم يكفرون بإبراهيم عليه الصلاة والسلام وإسحاق ويعقوب ؛ لأن يعقوب لما جاءه الموت قال لأبنائه : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) فجعلوا إسماعيل الذي هو عمهم أباً لهم ؛ لأنهم أسرة واحدة .

فهذا الذي يليق بالذرية الصالحة التي تريد أن تكون على منهج آبائها الكرام فالله تعالى لما قال : {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} إنما يذكرهم بهذا الأصل ، وهذا ينفع مع إنسان كريم يريد الخير والصلاح والإصلاح ، أما من يريد الفساد والإفساد فلا تنفعه الذكرى .

فكان هذا من باب إقامة الحجة عليهم وتقريعهم إذا كفروا وتوبيخهم بأنكم قد اتخذتم منهجاً وديناً غير منهج ودين آبائكم .

قال تعالى : {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} النعم على الخلائق كثيرة جليلة لا تعد ولا تحصى : {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وقال تعالى : {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } (2) وبنوا إسرائيل خصهم الله بنعم زيادة على هذا .

والإنسان لا يستطيع أن يؤدي شكر نعم الله عليه ، ولكن بمجرد أن يؤمن ويذعن لله عز وجل ويقيم دين الله فهذا أدى شكر جميع النعم وزاد ، ولذلك يجعل الله له جزاءً نعم غير منتهية أبد الآبدين ، وبالمقابل فإنه إذا كفر حاسبه الله عز وجل على جميع النعم التي يعلمها والتي لا يعلمها ؛ لأنه يعذبه عذاباً أبدي لا نهاية له .

وقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل بنعم خاصة بهم ، منها :

*- جعلهم من سلالة الأنبياء ، التي يفتخرون ويتطاولون بها على البشر .

*- أن الله أنقذهم من الأقباط في مصر الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب .

*- أن الله أذاق عدوهم الذل والهوان وهم ينظرون فشفى صدروهم .

*- أن الله فضلهم على العالمين من أهل زمانهم فلا أحد أفضل منهم زمن طاعتهم لله تعالى ، فإن قوله تعالى : {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ليس على عمومه إلى آخر الزمان بل في فترة طاعتهم لله ورسله ، أما بعد أن انحرافهم فهم أفسق خلق الله جل وعلا .

*- أن الله أنزل لهم الكتب السماوية الكريمة التوراة والإنجيل والزبور .

*- ما أعطاهم من النعم الدنيوية كالمن والسلوى وتفجير الماء من الحجر ، فقد كان حجراً يحملونه معهم فإذا أرادوا الماء أنزلوه فتفجرت منه العيون فـيشربون ويسقون فإذا قضوا حاجتهم منه رفعوه فلا ينزل منه شيئاً .

قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} العهود التي أخذها الله عز وجل على بني إسرائيل ، عهود خاصة وعهود عامة .

فالعهود الخاصة :

*- ما ذكرهم به موسى عليه الصلاة والسلام : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} (1) فكانت الأنبياء تسوسهم إذا مات نبي قام نبي ويوحى إليه ولكن على نفس شريعة موسى عليه الصلاة والسلام ،ولكن ينزل عليه الوحي إذا اختلفوا في أمر واضطربت الأمور كما في سورة البقرة قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) .

*- ومنها أن الله اشترط لدخولهم في رحمته التي وسعت كل شيء وحصول الفلاح لهم أن يتبعوا النبي الأمي قال تعالى : {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) .

*- ومنها أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويتبعوا الرسل ويعزروهم ( يناصروهم )  : {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (1) .

وفي قوله : {أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} بيان لعظم الصلاة في دين الله وأنها شرط لنجاة العباد سواءً على الأمم السابقة أو هذه الأمة .

وقوله تعالى : {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أي إذا وفيتم وفىّ الله ، والله سبحانه وتعالى أكرم من أن يخلف وعده أو ينقض عهده سبحانه لا إله إلا هو .

أما إذا خالف بنوا إسرائيل وعاقبهم الله فإن هذا يكون من باب العدل وليس من باب الظلم فالله تعالى لا يظلم أحداً .

وقوله تعالى : {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ } أي : أن الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن أثبتا نبوة أنبياء بني إسرائيل جميعاً موسى عليه الصلاة والسلام وغيره ، فلا يليق بكم أن تقابلوا هذا التصديق من القرآن بالكفر به .

وأيضاً في قوله : { مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ  } أي : أن في كتبكم وصف الـقرآن ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم فأنتم تعرفوه كما تعرفون أبناءكم ، وهذا الرسول الذي جاء مصدق لما معكم وموافقاً له ، فكيف ترفضونه وهو مصدقاً لكتبكم ؟ فكأنكم تكذبون كتبكم في هذه الحالة .

وقوله : {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } كلمة :{أَوَّلَ} أحدثت عن المفسرين إشكال قديماً إلى العصر الحديث ، فكيف يقول اله تعالى : {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } مع أنه قد كفر قبلهم أمم منهم قريش وبعض القبائل العربية التي رفضت الإسلام .

وقد نقل الحافظ ابن كثير – رحمه الله – قول أبي العالية وغيره أن المراد بقوله تعالى :{أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي من بني إسرائيل لأنهم أول الإسرائيليين الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فإن كفروا فيكونوا أول من كفر من بني إسرائيل والباقين تبع لهم ، فيكون عليهم تبعة عظيمة فهم الذين سنوا لبني إسرائيل الكفر ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً .

ومما قيل في قوله تعالى : {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } لأن عندكم وصفه فلستم كالعرب أمة أمية  فإذا كفرتم وعندكم الكتاب فتكونوا أول من كفر به ممن عنده علمه ووصفه ، فالجناية عليكم أعظم وتتحملون وزر من يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من العرب المتأثرين بكم القائلين لو كان نبياً حقاً لاتبعه أهل الكتاب فتسنون سنة الكفر لمن بعدكم .

ويمكن أن يقال أن قوله تعال : {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } من باب قول الإنسان : إذا كان هذا حق فأنا أول من يؤمن به مع أنه ليس أول من يؤمن به كما في قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (1) مع أنه وجد قبله مسلمين ، فالأولية هنا ليست أولية الزمان ولا أولية المكان ولكن أولية الاعتقاد والاقتناع .

قوله : { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} .

نبههم الله تعالى إلى خصلة عندهم وهي تكالبهم على الدنيا وأنهم إنما يعيشون من أجلها ففي سبيل المال وفي سبيل مطامع الدنيا ممكن يكفروا بالحق بعدما تبين : { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} الرشاوى يأخذونها على الأحكام ، وكذلك يكفرون بالحق من  أجل بقاء مكانتهم عند العرب ، ومعلوم أنهم لو آمنوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لآتاهم الله أجرهم مرتين ، ولو كرمهم الله فهذا هو التكريم .

واليهود اشتروا بدين الله وبالحق – الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم – ثمناً قليلاً من أجل أن يمجدهم العرب ، فإن هذا التمجيد ليس له وزن ولا اعتبار ، فلا ينخدع بهذا إلا المغرور المعجب بنفسه وهذا هو حال اليهود .

قوله : {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} من يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً هل هو متقي لله ؟ ومن يشتري بآيات الله مدح الناس وثناءهم هل هو متقي لله ؟ ومن يشتري بآيات الله حطام من الدنيا زائل كالرشوة وغيرها هل هو متقي لله ؟

هذه الأفعال ليست من تقوى الله ، بل هي نقمة الله وغضب الله ، فالله سبحانه وتعالى يحذر بني إسرائيل من مخالفة أمره وارتكاب معاصيه من أجل أن يصلوا إلى شيء من حطام زائل ، إما من ثناء وكلام الناس أو متاع الدنيا الزائل وحطامها الزائل .

 قال تعالى : {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (الآيات 42 46) .

1- يحذر الله تعالى اليهود من مسلك هو من خصائصهم وهو أنهم يأتون إلى كلمة من الحق ثم يلفونها بالباطل ليلبسوا على الناس .

فمن تلبيسهم على الناس أنه قد ورد في التوراة صفات لأنبياء كاذبين يظهرون على مر الزمان ، وورد في نفس الوقت الأمر بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم واتباعه وأن يكونوا من أنصاره فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للناس : هذا من الكذابين الذين حُذِّرنَا منهم في التوراة فلبسوا على الناس .

{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} يقولون أن هذا نبي ولكنه ليس لنا ولكنه للعرب خاصة فيؤمنون بأنه نبي ولكن لا يؤمنون بأنه نبي مرسل إلى الناس كافة كما هو في التوراة وكما أُخِذَ عليهم العهود والمواثيق أن يؤمنوا به وأنه نبي إلى الثقلين ، فيلبسوا الحق بالباطل فلا ينكرون نبوته بل ينكرون نبوته لهم ، فيؤمنون بجزء من الحقيقة ويكفرون بجزء ومن ذلك ما ذكره الله عز وجل بعد آيات من قوله : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } (1) .

ومن تلبيسهم أنه كانوا يأخذون من الأحكام ما يوافق أهواءهم ويتركون ما لا يوافقها ومن ذلك عقوبة رجم الزاني (1) لا يعملون بها مع أنه مكتوبة عندهم في التوراة .

ومن تلبيسهم كذلك أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد .

ومن تلبيسهم أيضاً قولهم : أن التوراة والإنجيل والقرآن شيء واحد ، وهذا ليس بصحيح فإن التوراة التي أنزلت على موسى والإنجيل الذي نزل على عيسى وإن اتفقت أصولها مع القرآن إلا أنها تختلف تماماً في التشريعات والقضايا الفرعية .

ومن التلبيس والتدليس أنهم يقولون أن اليهودي مؤمن وأن النصراني مؤمن ويقولون أن اليهودية والنصرانية دين الله ، والحق أن اليهودية والنصرانية التي هم عليها ليست من دين الله في شيء ؛ لأن الدين عند الله الإسلام ، ولما قالوا إن إبراهيم منهم قال الله تعالى : {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) فقول الله تعالى في هذه الآية : {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يدل على أنهم مشركون فالذين يقولون : عزير ابن الله ويقولون : المسح ابن الله ، قد أشركوا شركاً لم يشرك به مثلهم ، ولذلك كان الإمام أحمد إذا مر به النصراني يغمض عينيه ويقول : إنهم قد سبوا الله مسبة ما سبه أحدٌ مثلهم .

ومن هنا نعلم خطر الدعوة المشبوهة الداعية إلى تقارب الأديان وأنها دعوة ماكرة خبيثة ، هي من فعل اليهود وأذنابهم ومنظماتهم الـسرية في سبيل طمس الحقائق والتلبيس على خلق الله وهذا شأنهم كما وصفهم الله هنا بقوله : {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} .

فمن تلبيسهم أنهم يقولون : أن الأديان كلها سماوية وأنها من عند الله وأن الإنسان إذا جاء يوم القيامة بأي دين منها فهو ناجٍ عند الله ، وهذا القول كفر .

والصحيح أنه لا نجاة عند الله إلا بالإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعد بعثته صلى الله عليه وسلم لا يُقبل من أحد إلا دين الإسلام ، حتى لو كان موسى عليه الصلاة والسلام حياً ما وسعه إلا أن يتبع محمد صلى الله عليه وسلم لما بعث قال صلى الله عليه وسلم : (( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ )) أخرجه مسلم (1) .

 وقوله : {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} إذا حشروا ممن عنده علم بالكتاب وقال : أن البشارة بمحمد قد وردت في كتبكم قالوا : نعم ولكنه نبي للأميين وليس لنا ، وهذا منهم تلبيس للحق بالباطل .

وإذا صفا لهم الجو كتموا الحق وقالوا : هو كذاب ، فالله تعالى ينهاهم عن هذا وعن  هذا .

وقوله : {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تفعلون هذه الأفاعيل الخبيثة والخصال الشنيعة عن علم ودراية فلستم تجهلون حقيقة الأمر ، بل لأن قلبوكم قد امتلأت حسداً وحقداً وكبراً وحباً للرئاسة والزعامة فخفتم أن تُسلبوا الرئاسة والصدارة إذا آمنتم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فظننتم أنكم بهذه ستبقون في مكان الرئاسة والزعامة ، مع أن الذي يقلب الأمور ويصرفها هو الله تعالى فلن يُبقي على زعامتكم الخبيثة الفاسدة المبنية على الكذب والتلبيس والتدليس وحب الدنيا ، بل سيكشفه سبحانه وتعالى كشف بيان وفي نفس الوقت سَيُدِيل عليكم الدولة ويسلط رسوله عليكم ، وهذا الذي حدث فإن الله قد سلط رسوله عليهم فقتل منهم من قتل وأجلى من أجلى فلم يبق لهم كيان ولم تقم لهم قائمة ، بينما لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لحصل لهم الأجر مرتين مثلما حصل لعبدالله بن سلام رضي الله عنه  .

ولكن الله طمس بصائرهم والسبب أنهم كانوا يكتمونه وهم يعلمون ويلبسوا على الناس وهم يعلمون فلذلك أعمى الله  عز وجل بصائرهم  وأضلهم : { فَلَمَّا  زَاغُوا  أَزَاغَ   اللَّهُ    قُلُوبَهُمْ } (1) .

وقوله : {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (الآيات 43 45) .

قوله : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – : استدل بها بعض الأئمة على وجوب صلاة الجماعة .

وقد رد ذلك بعض العلماء بأن الدلالة فيها ليست صريحة ، وهذا لا يعني أن صلاة الجماعة ليست بواجبة ، ولكن هذا اللفظ بذاته لا يساعد على هذا المعنى الذي ذهب إليه بعض الأئمة .

وأما صلاة الجماعة فقد دلت أدلة كثيرة من الكتاب والسنة على فرضيتها مبسوطة في كتب السنة كما في الصحيحين وغيرهما .

وقوله : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } .

– من المفسرين من يقول : أن اليهود كانوا يأمرون من أسلم وبينهم وبينه رحم وقرابة بأن يثبت على دين محمد صلى الله عليه وسلم وأن دينه الحق ، مع أنهم هم لا يفعلون هذا ولا يتبعون محمد صلى الله عليه وسلم فيقول الله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} أي مع أنكم تتلون الكتاب وتعرفون صفة النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي هذا قصة الغلام اليهودي الذي كان يحتضر فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال له : (( يا غلام : قل لا إله إلا الله محمد رسول الله )) فنظر الغلام إلى أبيه كأنه يستشيره لأن والده كان من أحبار اليهود وعلمائهم ، فقال له أبوه : أطع أبا القاسم ، فشهد الغلام شهادة الحق وأسلم ثم مات ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يقول : (( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار )) .

– ومنهم من يقول : أن اليهود كانوا يأمرون أتباعهم بما تأمرهم به التوراة من الطاعات والبر وإنفاق الأموال  بالصدقات وهم لا يفعلون هذا .

والآية تشمل هذا كله .

قوله : {أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي أليس عندكم عقول تمنعكم من فعل ما يضـركم ؟ ؛ لأن العقل يحجز الإنسان من أن يفعل شيئاً يضره .

وقوله : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } أي حتى تتجاوزا هذه المشقة والثقل الذي يحصل من هذه التكاليف تستعينوا بالصبر والصلاة .

فالصبر كما سمعنا في خلاف العلماء منهم من عبر عنه بشيء عام يدخل فيه الصيام وغيره ، ومنهم من عبر عنه بالصيام ، وليس هناك تعارض بين الأمرين .

إلا أن الذين يقولون أن الصبر بمعناه الأعم فقولهم أوفى فما دام أن اللفظ يحتمل المعنى الأعم فهو أولى أن يُفسر به كلام الله عز وجل .

فالله تعالى أمر بالاستعانة بالصبر ؛ لأن النفوس لا تقوى على المشقة إلا إذا صبرت على المكاره وصبرت على الشدائد وصبرت على الطاعات ، فالطاعة تحتاج إلى مكابدة فمثلاً الذي يقوم يصلي لله يسجد ويركع في آخر الليل وهو مرهق متعب هذا ليس بالأمر السهل ، قال بعض السلف – رحمه الله – : جاهدت نفسي عشرين سنة على قيام الليل ثم استمتعت به عشرين سنة .

فلا تأتي متعة إلا بعد الصبر والمصابرة والمجاهدة ، مجاهدة النفس والهوى والشيطان الشيطان الذي يترصد للإنسان فيسعى ليصرفه عن أعمال الخير من قيام الليل وغيره  ولذلك اخترع الشيطان وأولياءه من شياطين الإنس للعباد ما يشغلهم أول الليل ويرهقهم حتى لا يستيقظون للصلاة في آخر الليل .

فلابد من الاستعانة بالصبر والصلاة مع الاحتساب بأن ينوي ما عند الله تعالى حتى يُثمر الصبر ويُعطي نتيجته ، وقد ورد في الأثر : ( الصبر رأس الأمر ) فلا يمكن               أن يحصل للإنسان فلاح في الدنيا أو في الآخرة من غير الصبر ، فإن الطاعة لا تكون  إلا بالصبر ، وترك المعصية لا يكون إلا بالصبر ، وإذا نزلت أقدار الله المؤلمة فلا تُطاق إلا بالصبر ولا تهون إلا بالصبر ، فلا تدخل الجنة إلا بالصبر ؛ لأنها حفت بالمكاره        ولا تنجو من النار إلا بالصبر ؛ لأنها حفت بالشهوات .

فائدة : الصبر يشمل الصبر على الطاعات ، والصلاة هي أعظم الطاعات ، فلماذا أعاد ذكر الصلاة ؟

الجواب : أعاد الله تعالى ذكر الصلاة تنويهاً بشأنها تعظيماً لقدرها .

قوله : {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} هل الضمير عائد إلى الصلاة لأنه آخر    مذكور ؟ أم هو عائد على هذه الوصية بكاملها ؟

الجواب : من قواعد اللغة العربية أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور فإن قلنا هذا فإن الصلاة شأنها عظيم لا يستطيعها إلا الخاشعون ، قال تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) والخشوع هو روحها ولبها ، فلا تنظر إلى كثرة المصلين بل انظر إلى من يقيمها ويعطيها حقها ومستحقها ، ولذلك ورد أن أول ما ينزع من الناس الخشوع حتى أنك تدخل المسجد الجامع فلا تكاد تجد فيه خاشعاً ، وهذا قد يكون منطبق على أكثر الناس في هذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله .

والخشوع في معناه الأعم الأكبر : هو الخضوع والتواضع لله عز وجل خضوع القلب وتواضعه لله وحضوره حيث يأمره الله عز وجل ، فإذا حضر في هذا المكان تذكر أن الله تعالى ينصب وجهه تلقاء وجه المصلي وأن الله سبحانه وتعالى يكون في هذه المنزلة بالنسبة للمصلي حتى ينصرف المصلي عن قبلته بأن يلتفت أو يشتغل بغير الصلاة فيقول الله : (( أإلى خير مني )) فيتركه الله تعالى .

فإذا تذكر هذا خشعت الجوارح ولا شك ؛ لأن الجوارح مُلْكٌ للقلب فإذا خضع القلب خضعت الجوارح .

أما قضية سكون الحركات أو التماوت في الصلاة فقد كرهها كثير من السلف ؛ لأنها مدعاة إلى الرياء السمعة وليست هي المقصودة بالمقصود حضور القلب وخضوعه في الصلاة من تكبيرة الإحرام إلى التسليم .

 

وأما فوائد الصلاة فكثيرة منها (1) :

– أنها تُسلم النفس من الهلع والجزع ، قال الله تعالى : {إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ } (2) فالصلاة تحفظهم من هذه الخلال .

– أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، قال الله عز وجل : {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (3)  .

– أنها جالبة للرزق ، قال الله عز وجل : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}  (4) .

قال تعالى : {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} .

الله سبحانه وتعالى خاطب بني إسرائيل يذكرهم بنعمه كما مر في الآية التي سبقت حيث قال فيها : {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وهنا قال :  {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} .

تفضيلهم على العالمين من أحد وجهين :

*- الوجه الأول : أنه فضلهم بكثرة الأنبياء والرسل فيهم ، وهذا لا يماثلهم فيه أمة من الأمم ، فمن أنبياءهم العظام : يعقوب وأبناءه يوسف وإخوته كلهم أنبياء عليهم الصلاة والسلام .

ثم الأنبياء العظام الذين أرسلهم الله بعد ذلك : موسى وهارون ويوشع بن نون وداود وسليمان وأيوب وعيسى بن مريم عليهم الصلاة والسلام .

فالأنبياء في بني إسرائيل مثل العلماء في هذه الأمة من كثرتهم ، كان كلما مات نبي قام نبي ، وأحياناً يوجد أكثر من نبي في وقت واحد ، حتى أنه سيأتي معنا في تفسير قوله تعالى : { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (1) أنهم في يوم واحد قتلوا ثلاثمائة نبي وهذا يدل على كثرة الأنبياء فيهم .

*- الوجه الثاني : أن الله فضلهم على أهل زمانهم كما نقل الحافظ ابن كثير – رحمه الله –  كلام أئمة التفسير في ذلك .

لماذا فضلهم الله على أهل زمانهم ؟

لأنهم كانوا هم أهل الطاعة وأهل الإيمان والتوحيد لما كان فيهم موسى وهارون ، وأما غيرهم فكانوا وثنيون كالقبط قوم فرعون ، والعماليق الذين كانوا في أرض فلسطين كانوا وثنيون أيضاً .

فالتفضيل لهم خاص بزمان طاعتهم واستقامتهم ، والدليل على ذلك أنهم لما عصوا وتمردوا مسخهم الله قردة وخنازير فأهانهم إهانة لم تحصل لأمة من الأمم .

فالتفضيل لهم ليس مطلق ولكنه مقيد :

– إما أنه مقيد بزمانهم .

– وإما أنه مقيد بحال طاعتهم توحيدهم واستقامتهم على أمر الله .

– وإما أنه مقيد بوجود الأنبياء والرسل فيهم .

فلا يصلح أن يتطاولوا على الأمم بهذا ؛ لأنهم الآن لا أنبياء فيهم فيفضلوا الأمم بذلك وليسوا أهل طاعة بل هم الآن أخبث من الوثنيين .

قال تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (الآية 48) .

هذا اليوم ليس لبني إسرائيل فقط بل كل مخلوق وارد هذا اليوم ، ولذلك هول الله    عز وجل أمره وعظم شأنه وذكره بأوصاف تدل على شدة الأمر في ذلك اليوم .

وهنا لما ذكره قال تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْماً} جاء به منكراً ليدل على تعظيم الله تعالى لذلك اليوم ، فيوم القيامة أهواله كثيرة :

– فهو طويل المسافة ، مقداره خمسون ألف سنة يقف فيها الإنسان وقوفاً طويلاً عاري الجسد حافي القدمين لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يجلس .

– وفي هذا اليوم يغضب الله جل وعلا غضباً لم يغضب قبله مثله .

– وفي هذا اليوم لا أحد يستطيع أن يتكلم ، ففصحاء الدنيا قد أخرست ألسنتهم : {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} (1) والذين يأذن الله لهم هم الأنبياء فقط ، ولا يتكلمون إلا بكلمة واحدة : (( اللهم سلّم )) .

– والأرض في هذا اليوم تزلزلت .

– والجبال دكها الله دكا وجعلها هباءً منبثاً .

– والبحار والنهار أصبحت نار مؤججة .

– والسماء تشققت وتفطرت .

– والكواكب تكورت واختل نظامها وضرب بعضها ببعض .

– والشمس تدنو من الخلائق حتى تكون على مقدار ميل ، قال بعض العلماء : الميل ميل العين الذي يتكحل به الناس .

فكل ما ازداد الإنسان في هذه الدنيا عصياناً لله كلما ازداد عذابه في ذلك اليوم ، وكلما خفت ذنوبه ومعاصيه كلما خف عذابه وألمه في ذلك اليوم ( كما تدين تُدان ) .

وهذا العذاب البلاء عام ، بعده تأتي القضايا الخاصة :

– المتكبرون يُحشرون في صورة الذر يطأهم الناس بأقدامهم ، ففي الدنيا ترفعوا على الناس واستكبروا عليهم وفي الآخرة جعلهم الله تحت أقدام العباد .

– أكلة الربا تملأ بطونهم حجارة ويوضعون تحت أقدام الخلق في الذهاب والإياب .

– ما نع الزكاة يُطرح في أرض قرار فإن كان صاحب إبل يؤتى بها تدوسه بأقدامها وتنهشه بأسنانها ، وإن كان صاحب بقر أو غنم فَيُؤتى بها أوفر ما كانت قرون وأظلاف تدوسه بأظلافها وتنطحه بقرونها ، فهو على هذا الحال طيلة يوم القيامة خمسون ألف سنة .

– وأهل الزنا توقد لهم التنانير ويوضعون فيها وتوقد عليهم النار من أسفلها .

نسأل الله السلامة والعافية ونسأله جل وعلا لطفه بنا في ذلك اليوم العظيم .

فهذا اليوم ليس خاصاً ببني إسرائيل كما ذكرنا ، ولكن الله تعالى يُذّكر بني إسرائيل بنعمه التي أنعم بها عليهم في الدنيا ، ويحذرهم العذاب الأليم الذي ينتظر كل عاص لله في ذلك اليوم العظيم يوم القيامة وما فيه من أهوال وشدائد .

فعلى كل البشر أن يتقوا الله وأن يستعدوا لذلك اليوم ويُقدموا على الله بما ينجيهم في ذلك اليوم وهي تقوا الله ، قال عز وجل : {وَاتَّقُوا يَوْماً}  وأوضح معنى قاله العلماء للتقوى هو : أن تلازم طاعة الله وأن تبتعد عن معصية الله مع الإيمان بالله .

وقوله :  {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} هذا المعنى على إطلاقه يكون في حق الكفار فلا تنفعهم شفاعة الشافعين وليس لهم من ينصرهم ولا من يدفع عنهم العذاب .

وإذا أردنا أن نذكر ما يخص المسلمين منها فالمقصود لا تقبل شفاعة أحد إلا بإذن الله تعالى للشافع أن يشفع ، قال تعالى : {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } (1) ، ورضاه سبحانه وتعالى عن المشفوع له ، قال تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } (2) .

وهذا قطع ليأس المبتدعة الذين يعتمدون على الأوهام والخيالات في تعاملهم مع موقف القيامة والحشر والنشر فإنهم يزعمون أن أولياءهم الذين يعبدونهم من دون الله سيشفعون لهم ، وقولهم هذا مثل قول بني إسرائيل تماماً فبنوا إسرائيل قالوا : {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (3) وقالوا : نحن أبناء الأنبياء ، ولا يمكن أن الأنبياء يرضوا أن أبناءهم يدخلون النار فهم سيشفعون لنا ولن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، فجاء المبتدعة من هذه الأمة – عباد القبور وعباد الأولياء الذين يتعلقون بالبدوي وابن علوان – وقالوا : نحن مُريدو الأولياء وأحبابهم ولا يمكن أن الولي يرضى بأن مريديه يدخلون النار ، فنفس التعبير ؛ لأن هذا الدين جاء من عند اليهود حيث بثوه بين عوام المسلمين وضلالهم البعيدون عن العلم والمعرفة فانتشرت هذه العقيدة من هذا الباب ، ثم أصبحت تسري في الناس كما تسري النار في الهشيم ؛ لأن الشيطان ودعاة الباطل يغذونها ويُروج لها من أعداء الله الكافرين والمنافقين الزنادقة حتى تبقى هذه الأمة تتخبط في الضلال والعمى والجهل فيكثر فيها الشرك فيصبح حالها كحال اليهود ، فإذا وصلوا إلى هذه الحالة فإنهم لا يستطيعون الانتصار على اليهود ، وهذا ما يريده اليهود أن يبقى المسلمون منشغلين بالطواف حول القبور والأضرحة يدعون الأموات ويستغيثون بهم لا يفكرون في جهاد أعداء الله اليهود فيعيش اليهود سالمين مرفهين .

فالله سبحانه وتعالى قطع على المبتدعة هذه العلائق وهذه الوشائج : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} (1) ولا ينفع عند الله عز وجل يوم القيامة : {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (2) .

والقلب السليم هو : القلب الخالي من الشرك لأن الإنسان إذا لقي الله وقلبه خالي من الشرك فمهما عظمت ذنوبه وتنوعت إذا شاء الله غفرها ولو عذبه فإنه يعذبه ثم يرده إلى الجنة ولو طالت فترة عذابه في النار ، وقد يقبل الله فيه شفاعة الشافعين فيدخل الجنة من غير عذاب ، ولكنه لو لقي الله بشائبة من الشرك وقلبه متعلق بغير الله فلا يشفع فيه أحد ولا تنفعه شفاعة الشافعين ولا يرضى الله أن يشفع فيه أحد قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (3) .

قال تعالى : {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } ( الآية 49) .

هذه الآية تدل على ما كان عليه بنوا إسرائيل من الذل والمهانة عند أهل مصر ( القبط ) وقد كان دخول بني إسرائيل إلى مصر في زمن يوسف عليه الصلاة والسلام ، وقيل كان عددهم سبعون رجل وفي مدة أربعمائة سنة في الفترة ما بين يوسف وموسى  عليهما الصلاة والسلام تكاثروا حتى أصبحوا بمئات الألوف ، حتى قيل أن الذين خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام أكثر من ستمائة ألف وهم المقاتلة فقط غير النساء والذرية .

والحافظ ابن كثير – رحمه الله – ذكر هنا أن تسلط فرعون وقومه عليهم هي الرؤيا التي رآها فرعون : أنه رأى ناراً تخرج من قبل بيت المقدس وأنها دخلت بيوت القبط وحرقتهم ولم تمس بني إسرائيل ، وفسرها الكهان بأن مولود يولد من بني إسرائيل يكون زوال ملك فرعون على يده .

فظن هذا الخبيث – فرعون – أنه سيرد أمر الله فأمر بقتل الذكور من بني إسرائيل فقتلوا الذكور واستبقوا النساء .

وذكر بعض أئمة التفسير أنه لما كثر بنوا إسرائيل وكانت نسبة المواليد فيهم عالية جداً خاف القبط أن يكثر بني إسرائيل فيغلبوهم على أرضهم .

فالمقصود أن بنوا إسرائيل عاشوا في ذل ومهانة لا يعلمها إلا الله حتى أن القبط يأخذون المولود الذكر من يد والديه فيذبح وهم ينظرون وتؤخذ البنت وتسخر في الخدمة هذا غاية الذل والمهانة ، فبقوا على هذا الحال حتى بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام فكانت نجاتهم على يديه عليه الصلاة والسلام .

وقوله : {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} .

عندما أمر الله موسى عليه الصلاة والسلام أن يخرج ببني إسرائيل من مصر خرج بهم ليلاً فشعر بهم فرعون : {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} (1) .

خرجوا في أعداد مهولة فمن المفسرين من قال : أن عددهم كان بالملايين وأن الذين كانوا يركبون الخيل عددهم مليون غير المشاة ، فساروا حتى وصلوا أصبح البحر أمامهم كما قال تعالى : {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (2) .

فتأمل الثقة بالله من هذا النبي الكريم فهو يمشي بأمر الله على نور من ربه ، متأكد من عدم إدراك فرعون وقومه لهم .

وقد قيل أن يوشع بن نون(1) قال لموسى : أين أمرت ؟ قال موسى : أمرت بهذا        الطريق . قال : ما كذبت ولا كُذبت ، فنزل بفرسه إلى البحر فخاض فيه ثم رجع إلى موسى فقال : إلى أين أمرت ؟ قال موسى : إلى هذه الوجه . فقال : ما كذبت ولا كُذبت . إلى أن أمر الله موسى عليه الصلاة والسلام أن يضرب البحر بعصاه فضربه فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقاً ؛ لأنهم كانوا اثنا عشر سبطاً والبحر محجوز كالجبال من يمين ومن شمال وجعله الله كالشبابيك ليرى بعضهم بعضاً ويكلم بعضهم بعضاً وليطمئن كل سبط على الآخر .

فلما استكمل خروج بني إسرائيل من الجانب الآخر ودخل فرعون وجنوده واستكمل دخولهم أطبق الله عليهم البحر .

فانظر إلى هذا النصر العظيم لأولياء الله تعالى نصرهم بضربة واحدة في البحر وجعله يابساً جافاً ليس فيه لزوجه ولا طين ولا بقيا من الماء ، قال تعالى : {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} (2) . وهذا يدل على قدرة الله الباهرة ، حيث رأى قوم موسى هذا بأعينهم .

وقد حصل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما غزا الفرس وكان بينه وبينهم النهر فقطع الفرس الجسور والممرات فقالوا للمسلمين اركبوا النهر إلينا فدعا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فمشى بمن معه فوق الماء وذلك في زمن زيادة نهر دجلة وأمواجه كالجبال مع ذلك لم تبتل أخفاف إبلهم ولم يفقدوا من متاعهم شيئاً ، وهذه الكرامة من الله تعالى أبلغ حيث مشى سعد بن أبي وقاص ومن معه فوق الماء .

وكذلك العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه لما غزا البحرين حصل له مثلما حصل لسعد بن أبي وقاص ومن معه ولم يفقدوا من متاعهم شيئاً .

ومما لقي بنوا إسرائيل من فرعون من العذاب والجبروت قالوا : لا نصدق أن فرعون قد مات ، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه فعندما رأوه أيقنوا أنه قد هلك .

وهذا فيه نعم عظيمة على بني إسرائيل :

*- نصر الله تعالى لأوليائه بما شاء عز وجل : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ }(1) فقد نـصر نوح عليه الصلاة والسلام بالماء ونصر موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون بالماء ونصر هود بالريح على عاد الذين قالوا : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } (2) قال بعض المفسرين : أن الله لما أمر الدبور أن ترفعهم لم يسمح لها إلا بمقدار خرم الإبرة ومع ذلك كادت أن تحمل الجبال لولا أن الله تعالى منعها إلا بمن أمرها بأخذه ، فقد كانت ترفع الواحد منهم على ضخامة جسمه إلى عنان السماء ثم يهوي كأعجاز نخل خاوية ، ونصر صالح بالصيحة ملك صاح من السماء فخمدوا جميعاً كنفس واحدة ، وهكذا ينصر الله أنبياءه وأولياءه بما شاء سبحانه وتعالى ، فلو أحسن المسلمون التعامل مع الله عز وجل لنصرهم .

*- عظيم صنع الله عز وجل لأوليائه كيف أخرجهم من طاغوت فرعون ثم أغرقه أمام أعينهم وهذا أشفى لصدورهم وأذهب لغيظهم .

*- أن إهلاك فرعون وجنوده بهذه الطريقة فيها الإذلال والخزي الذي لم يحصل لمن قبله ، فقد كان متكبراً جباراً حتى قال : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} (1) فأمضى الله تعالى المياه من فوقه وجعله عبرة للمعتبرين .

*- أن الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام بعد أن أهلك فرعون وقومه إن يرجع ببني إسرائيل إلى أرض مصر فأورثهم الله أرضهم وديارهم .

 

قال تعالى : {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ *  ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (الآيات 51 – 54)

الشرح :

يعدد الله عز وجل في هذه الآيات النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل وفي نفس الوقت يعدد مساوئهم ومخازيهم ، فربنا تعالى لما أنعم عليهم بتلك النعمة العظيمة وهي إخراجهم من تحت تسلط فرعون وقومه وظلمهم .

فكان الواجب على بني إسرائيل أن يشكروا الله تعالى على هذه النعمة العظيمة ولكنهم بعد أن خرجوا من البحر طلبوا من موسى عليه الصلاة والسلام أن يأتيهم بكتاب من عند الله فيه الحلال والحرام ، فموسى عليه الصلاة والسلام سأل الله أن يعطيه لبني إسرائيل يعملوا بأوامر الله ويحلوا الحلال ويحرموا الحرام ، فواعده الله ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر كما في سورة الأعراف قال تعالى : {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (1) .

قال بعض المفسرون : أن الأربعين ليلة هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، ويذكرون تفاصيل في زيادة العشر الليالي ، ولكن لم يرد فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أخبار بني إسرائيل .

فمنهم من يقول : أن موسى عليه الصلاة والسلام صام الثلاثين ليلة كلها ليلاً ونهاراً وبعد أن انتهى منها تسوك لمناجاة ربه فعتب الله عليه ذلك وأمره أن يصوم عشرة ليالي أخرى حتى يذهب أثر ذلك السواك ؛ لأن الله تعالى يرضى أن تظهر آثار العبادة على العبد ولذلك كان خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ؛ لأنها أثر الطاعة وكذلك الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك ، وأما أثر المعصية فهو بغيض عند الله ، فالزناة يخرج من فروجهم القيح والصديد ويسقون هذا القيح والصديد ؛ لأن فعلهم قبيح عند الله فكان جزاءهم بهذه العقوبة الشنيعة .

المقصود أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام لما زاده الله عشراً تأخر على بني إسرائيل قالوا : ذهب موسى يبحث عن ربه فضل ، وقد كان معهم حلية استعاروها من                  آل فرعون عند خروجهم من مصر فأخذوه كغنيمة وخرجوا به معهم فكانت كميات هائلة ، فأوقد هارون عليه الصلاة والسلام ناراً وقال لهم : ألقوه في النار ؛ لأنه مال حرام أخذتموه بطريقة غير صحيحة .

وكان معهم رجل يدعى السامري رأى فرس جبريل عليه الصلاة والسلام حينما نزل ليثبت موسى عليه الصلاة والسلام ويتتبع فرعون ليهلكه فقبض السامري قبضة من أثر الفرس يبطن في نفسه سريرة سوء ، فلما ألقى هارون الحلي في النار قام السامري وألقى القبضة وصنع منها العجل ، فيقال (1) : أنه خرج عجل حقيقي ، ويقال : بل عبارة عن صورة فقط من الحلي الذي أخذوه ولكنه عمل فيه بطريقة هندسية معينه بحيث يدخل الريح من جهة ويخرج من الأخرى فيحدث صوت في جوفه كأنه صوت الخوار ، وقد ذكر الله ذلك بقوله تعالى : {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (1) أي : أن موسى نسي أن هذا إلهه ولذلك ذهب يبحث عنه فضل .

وهارون عليه الصلاة والسلام نبي يوحى إليه وإن كان موسى أفضل منه فأنكر عليهم هارون ذلك كما قال تعالى : {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (2) .

 

فائدة من قصة السامري وإبطانه سريرة السوء :

أن الإنسان الذي يبطن في نفسه سريرة سوء – والعياذ بالله – تخونه السريرة السيئة أحوج ما يكون إليها ، ولذلك على الإنسان أن يصفي سريرته ويراقب ربه ويكون على حذر من سرائر السوء ، وقد ذكر العلماء أن من أسباب سوء الخاتمة إبطان سرائر السوء كأن يكون في قلبه شيءٌ من النفاق أو الغل على الإسلام والمسلمين أو بغض شيء من شريعة الله أو بغض النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك يظهر عند نزع الروح أحوج ما يكون الإنسان إلى تثبيت الله فيتخلى الله عنه ويكله إلى سريرة السوء فيخرج على خاتمة السوء والعياذ بالله فعلى المسلم أن يحذر من سريرة السوء وأن يكون على أحسن الظن بالله عز وجل وبدينه وبرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله عند ظن العبد فإن ظن العبد بربه خيراً كان عند ظنه وإن ظن بربه سوءً وكله الله إلى ظنه .

ولما كلم موسى عليه الصلاة والسلام ربه وأعطاه التوراة كتبها الله تعالى له في ألواح وأخبره أن قومه عبدوا العجل فرجع وهو غضبان مما صنع قومه من عبادة العجل ومحاولة قتل هارون كما قال تعالى : {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1) فجمعوا بين جرائم كبرى متعددة عبادة العجل ومحاولة قتل هارون عندما نهاهم عن عبادة العجل واستمرارهم على هذا الغي .

فموسى عليه الصلاة والسلام لما رأى ما فعل قومه غضب ومن شدة الغضب ألقى الألواح فتكسرت ، فيقال : أن الألواح كان فيها علم كثير رفعه الله لما تكسرت ولم يبق لهم إلا علمين علم الحلال والحرام فقط .

ثم أخذ موسى عليه الصلاة والسلام العجل فسحله وذراه في اليم ليري الذين عبدوه  أنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ومن باب أولى أنه لا يستطيع أن يجلب لغيره نفعاً                 أو يدفع عنه ضراً .

فيقال أن الذين أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته ذهبوا يشربون من ماء البحر الذي ألقى موسى العجل فيه ، وهذا يدل على إصرارهم واستكبارهم وعنادهم وعتوهم نعوذ بالله من شرهم .

ثم إنهم لما ندموا على هذا الفعل وتحركت في نفوسهم رغبة التوبة شرط الله عز وجل عليهم لقبول توبتهم هذا الشرط العظيم وهو أن يقتلوا أنفسهم أي يقتل بعضهم بعضاً وقوله عز وجل : {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } عبر عن ذلك بقتل النفس لأن المؤمنين كالجسد الواحد وكالنفس الواحدة : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا )) فإذا قتل المؤمن أخاه فكأنما يقتل نفسه ؛ لأن الأمة المؤمنة كالجسد الواحد فلذلك قال : {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } .

ثم بعد هذا اختلف المفسرون في الطريقة التي قتلوا بها أنفسهم :

فمنهم من يقول : أنه جردوا السيوف وأصبح الإنسان منهم يقتل من لقي لا يبالي لقي والداً أو ولداً أو أخاً أو قريباً وهكذا .

ومنهم من يقول : أنهم طائفتان :

الطائفة الأولى : الذين عبدوا العجل .           

والطائفة الثانية الذين لم يعبدوا العجل .

فأُمر الذين عبدوا العجل أن يربطوا أنفسهم ( يحتبوا ) ويجلسوا مستسلمين ويأتي الذين لم يعبدوا العجل فيقتلونهم بالسيوف والخناجر .

فالحاصل أنهم امتثلوا لأمر الله رغبة في التوبة وحصلت لهم هذه العقوبة الشنيعة بأيدهم ، وألقيت عليهم الظلمة حتى لا يتحرّج الواحد منهم في قتل والده أو ولده فاقتتلوا حتى قُتل منهم في هذه الساعة التي نزل عليهم فيها حكم الله سبعون ألف ثم ضجوا إلى الله تعالى بالبكاء وموسى عليه الصلاة والسلام بالدعاء فرفع الله عز وجل عنهم البلاء .

فانظر إلى هذه العقوبة الشنيعة التي عاقبهم الله بها ، لكن إذا نظرت إلى الذنب العظيم الذي فعلوه وجدت أنها عقوبة عادلة في حقهم ، فقد تركوا عبادة الله وعبدوا عجل صنعوه بأيدهم بل وصل بهم الحال إلى محاولة قتل نبي الله هارون عليه الصلاة  والسلام .

ثم انظر من ناحية أخرى إلى عظيم فضل الله تعالى ومنته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى رفع عنهم هذه الآصار والأغلال ، فمهما أذنب العبد فإنه إذا تاب إلى الله تعالى توبة صادقة بشروطها فإن الله تعالى يقبل توبته ولا يكلفه شيئاً يضره في نفسه أو جسده أو حتى ماله إلا أن يكون من لوازم التوبة أن يخرج من ماله زكاة تأخر عنها أو حقوق واجبة ، فيجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة وأن نعبد الله عز وجل كما يحب سبحانه وتعالى وما شرع على لسان رسوله وأن نترك عنا الأهواء واستحسان ما يخالف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الذي أدى ببني إسرائيل إلى الوقوع في هذا الذنب العظيم تركهم الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه واتباع الأهواء وما يمليه شياطين الإنس والجن بعضهم إلى بعض ، وهذا الآن وللأسف الشديد يقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم يترك البعض سنته محمد صلى الله عليه وسلم ويتبعون محدثات الأمور التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) فكثير من الناس الآن تركوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه وعملوا المحدثات التي هي ضلال ، ومن ذلك بدعة المولد التي يروج لها عبر وسائل الإعلام المختلفة هل فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ؟

وهل فعلها أصحابه رضي الله عنهم ؟

الجواب : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا فعله أصحابه ، فكيف يكون خيراً والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم من بعده ؟ إذاً هي محدثة ، والمحدثة هي : التي حدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أصحابه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندهم الهدى .

وبدعة المولد الغالب عليها الشرك الأكبر كما في قصائدهم التي يرددونها في المولد النبوي يرفعون فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزلة الله أو يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم من دون الله أو بالأولياء ، فلا فرق بينهم وبين الذين عبدوا العجل ، فأهل المولد عبدوا البـشر وبنوا إسرائيل عبدوا العجل ، فحقيقة الأمر واحدة فهذا شرك وذاك شرك .

فالذي أدى بهؤلاء إلى الشرك هو الذي أدى ببني إسرائيل إلى عبادة العجل هو إتباع غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهارون عليه الصلاة والسلام لما نهى بني إسرائيل عن عبادة العجل كادوا يقتلونه ، وهؤلاء الذين في زماننا إذا قيل لهم : تعالوا إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : أنتم لا تحبون النبي صلى الله عليه وسلم . ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم حياً لفعلوا كما فعل بنوا إسرائيل مع هارون عليه الصلاة والسلام ؛ لأن أولئك كذبوا هارون عليه السلام وهو حيّ أمامهم وكادوا يقتلونه ، وهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم ميت في قبره ولكنه حيّ معنا بسنته هذه سنته موجودة معنا يقول فيها : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وإياكم ومحدثات الأمور )) فالذي يرفض كلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصريح الواضح لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حياً هل كان سيقبل منه ؟ لن يقبل منه سيفعل مثلما فعل بنوا إسرائيل مع هارون عليه السلام .

فمن كان صادقاً في طاعته للنبي صلى الله عليه وسلم فليأتي إلى سنته ويترك المحدثات ، فمن كان يؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقاً فما الفرق بين أن يكون موجوداً أو غائباً ؟ وهل الصحابة رضي الله عنهم عندما كانوا يخرجون خارج المدينة هل كانوا يعصون النبي صلى الله عليه وسلم ؟ حاشاهم رضي الله عنهم بل كانوا يلازمون هديه صلى الله عليه وسلم ، ولذلك الصحابي الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية وأعطاه كتاب وأمر أن لا يفتحه إلا في موضع كذا وكذا ، فهل الصحابي فتحه قبل ذلك ؟ لا لم يفتحه إلا عندما وصل وادي نخلة وهو مكان بين مكة والطائف .

هذه هي الطاعة الحقيقة سواء كان المسلم الطائع أمام النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة أو غائب عنه .

فهل هذا المولد عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ لا ليس عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم فمن يعمله فعمله مردود عليه قال صلى الله عليه وسلم : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) .

فالمقصود أن بني إسرائيل ما قبل الله توبتهم إلا بهذا الفعل الشنيع وهو أن يقتلوا أنفسهم .

وقوله تعالى : {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (الآية 55) .

وهذا أيضاً من عتوهم وعنادهم حيث قالوا لموسى عليه السلام نحن وإياك من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب فكيف تكون أنت أفضل منا ؟ ويكلمك الله ولا يكلمنا فلابد أن يكلمنا الله مثلما كلمك .

فطلب منهم أن يختاروا سبعين رجلاً منهم ، ويقال : أن اختيار السبعين رجلاً جاء ابتداءً من موسى عليه السلام من أجل أن يذهبوا ليعتذروا إلى الله من فعلتهم الشنيعة وهي عبادتهم للعجل .

فأذن الله له أن يأخذ السبعين رجلاً للقاء الله فلما وصلوا إلى الطور نزلت غمامة على الجبل فأمرهم أن يبقوا مكانهم ودخل موسى عليه السلام إلى الجبل وكان إذا كلمه الله عز وجل نزل عليه نور أضاء جبهته حتى لا يستطيع أحد أن ينظر إليه ، فاقتربوا حتى سمعوا كلام الله تعالى لموسى عليه السلام قالوا : {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } أي لن نذعن ولن نستسلم لك ، وهذا يدل على سوء أدبهم مع الله وشدة عنادهم وتحديهم حيث طلبوا رؤية الله تعالى بمنتهى السفاهة والجهل ، وهذا ما كان لموسى عليه الصلاة والسلام حتى يكون لهم .

وأما النبي العالم ففرق بين طلبه وطلب أولئك السفهاء ، فقد طلب موسى عليه السلام أن ينظر إلى الله وكان في غاية الأدب والتلطف مع الله وإظهار التوسل إلى الله باسم الرب : { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} (1) يقال : أن الله سبحانه وتعالى إنما تجلى للجبل بمقدار رأس الأنملة .

فلا أحد يرى الله تعالى في الدنيا ؛ لأنها دار فانية كل من عليها يموت فلا يليق فيها بمخلوق أن يرى الله فهذه الأجسام والقوى ليس فيها قدرة وليست مهيأة أن ترى الله فهي قوى ميتة زائلة لا يليق أن تنظر إلى الحي القيوم لا إله إلا هو ، أما في الآخر فإن هذه الأجسام تهيأ تهيئة للبقاء الدائم فإما أن تكون في العذاب نعوذ بالله من عذابه وإما في النعيم نسأل الله تعالى من فضله .

وهذه القصة جاء كما في قوله تعالى : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ }(2)  يقال : أنهم ماتوا كنفس واحدة ، وقيل : ماتت طائفة وطائفة تنظر ثم أحيت طائفة وصعقت أخرى وهي تنظر ، والمقصود أنه صعقوا وماتوا موتاً حقيقياً ، وعند ذلك وقف موسى يسأل الله تعالى : {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} . فلم يزل يدعو الله ويلح عليه في الدعاء حتى استجاب الله دعاءه فأحياهم الله تعالى .

 

وفي هذه القصة وما حصل حكمة سواءً عرفناها أم لم نعرفها قال تعالى : {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومن يعاند أمر الله فإن الله قادر على أن ينزل به العقوبة والعاجلة كما فعل ببني إسرائيل .

1- وهذا يدعونا إلى أن نحذر عقوبة الله عز وجل ؛ لأن الإنسان لا يدري متى تنزل غضبة الله فالأمر متعلق بمشيئة الله تعالى فلا حاكم عليه سبحانه وتعالى فهو الحاكم على كل شيء والمهيمن على كل شي وبيده مقاليد الأمور يتصرف بخلقه كيف يشاء سبحانه وتعالى فله أن يعاجل من يستحق العقوبة وله أن يؤخرها سبحانه كما يشاء لا إله إلا هو وفق علمه وحكمته ، فمن الذي يؤمن صاحب العقوبة أن يعاجله الله بالعقوبة كما عاجل أولئك ، فليحذر من يتعاطى معاصي الله من تعجيل العقوبة ولا يغتر بمن يعصي الله والله تعالى يمهلهم فإن الله تعالى له حكمة قد يمهل من يشاء ولكنه أيضاً قد يعاجل من يشاء فقد تكون أنت ممن يعاجلك بالعقوبة .

2- أن عقوبات الله ليست محدودة ولا معدودة ، فالله تعالى يعاقب من يشاء بما يشاء فقد تكون العقوبة صاعقة من السماء أو صيحة أو سوط عذاب أو غرق أو حريق أو تسليط عدو أو يأمر الله تعالى الأرض فتنشق فتبتلع من عصاه ، وهذا كله حدث كما قص الله علينا في كتابه الكريم .

3- أن إمهال العاصي وعدم معاجلته بالعقوبة قد يكون ذلك شراً عليه ليزداد إثماً ويزداد عليه العذاب يوم القيامة ، فإن الفاجر إذا ازداد في فجوره ازداد غضب الله عليه وكلما ازداد غضب الله عليه كانت العقوبة أشد .

4- وفي ضمن هذه الآيات إثبات صفات الله وأسمائه الحسنى ، فمنها :

أ- أن الله تواب رحيم ، فالتواب على سبيل التضعيف وذلك لكثرة من يتوب عليهم فإن كل ابن آدم خطاء ومن يتوب من هؤلاء الخطائين يتوب الله عليه وهم كثير ولله الحمد .

وأيضاً التواب : من أنه يتوب على العبد مهما أذنب كما في الحديث الصحيح عند الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي ﷺ فيما يحكي عن ربه عز وجل قال : (( أذنب عبدٌ ذنباً . فقال : اللهم اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له ربا يغفر الذنبَ ، ويأخُذُ بالذنبِ . ثم عاد فأذنبَ . فقال : أي رب اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنباً . فعلم أن له ربا يغفرُ الذنبَ ، ويأخذُ بالذنبِ . ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا . فعلم أن له ربا يغفرُ الذنبَ ، ويأخذُ بالذنبِ . اعمل ما شئت فقد غفرت لك )) قال عبد الأعلى : لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة : (( اعمل ما شئت )) (1) .

فهذه الأسماء الكريمة للرب سبحانه وتعالى تدل على كمال رحمته وحبه لتوبة التائبين وقبول توبة التائبين فلا يقنط من رحمة الله عبد وهو على هذا الباب باب التوبة والندم فإن باب التوبة مفتوح لا يقفل حتى تخرج الروح من الجسد أو تطلع الشمس من مغربها قال صلى الله عليه وسلم : (( لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا )) (2) .

وكذلك قول الله عز وجل : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (1) .

ب- من الصفات التي تثبتها هذه الآيات صفة الكلام لله عز وجل وأنه صفة من صفات الله سبحانه وتعالى الذاتية ، أي أن الله يتصف بصفة الكلام وصفاً يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى ، وفي قصة موسى في موضع آخر قال تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (2) فهذا تأكيد بالمصدر ليثبت أنه كلام حقيقي وأنه بحرف وصوت مسموع يسمعه من يشاء سبحانه وتعالى وأنه صفة فعل لله عز وجل كما أنه صفة ذات أي أن الله ذاته متصف بأنه متكلم ، وصفة فعل أي أنه متعلق بمشيئته سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء بما شاء سبحانه وتعالى .

وأما قول بعض المبتدعة أن الكلام صفة أزلية أي غير متجددة إنما هي متعلقة بالذات الإلهية فالله متصف بالكلام ولكنه لا يتكلم الآن ؛ لأن هذا من إثبات الحوادث في الله تعالى وهو غير جائز عقلاً عندهم وهذه هي العقول الفاسدة .

أما العقل الصريح فإنه يوافق النقل الصحيح  فأهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه الكريم وما أثبته له النبي صلى الله عليه وسلم على ما يليق بالله عز وجل .

 

قوله تعالى : {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ( الآيات  57 -59 ) .

الفوائد :

1- في قوله : {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً} أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر .

قال القرطبي رحمه الله – : هذا في تغيير كلمة عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود هذا والقول أنقص من العمل بالتبديل والتغيير في الفعل .

2- قال القرطبي : استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبُّد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبُّد بلفظها فلا يجوز تبدليها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله . وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه .

3- في قوله : {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} السجود بمعنى الركوع قاله ابن عباس .

وأصل  السجود : الانحناءُ لمن تعظمه فكل منحن لشيء تعظيماً فهو ساجد قاله ابن جرير وغيره .

قال ابن القيم رحمه الله – : وعلى هذا فانحناء المتلاقين عند السلام أحدهما لصاحبه من السجود المحرم . وفيه نهيٌ صريحٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم .

4- أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجداً وقالوا حطة تغفر لكم خطاياكم فدخلوا الباب يزحفون على استاهم وقالوا : حبة في شعرة . فبدلوا القول والفعل معاً ، فأنزل الله عليهم رجزاً من السماء )) .

قال أبو العالية : هو الغضب . وقال ابن زيد : هو الطاعون .

5- في الصحيحين والترمذي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :     (( الطاعون بقيةُ رجز أو عذابٍ أُرسل على طائفةٍ من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فراراً منه وإذا وقع بأرضٍ ولستم بها فلا تهبطوا عليها )) .

وفي رواية لمسلم : (( الطاعون آيةُ الرجز )) .

6- قال ابن القيم رحمه الله – : وعلى هذا فالطاعون بالرصد لمن بدّل دين الله قولاً وعملاً .

7- في قوله : {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} بيان عظيم منة الله على بني إسرائيل حتى وهم متلبسون بمعصية الله بامتناعهم عن دخول الأرض المقدسة ومعاندتهم لموسى حتى قالوا : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (1) ومع ذلك أنعم الله عليه لما كتب عليهم التيه أنعم عليهم في تلك القفار المدوية بالغمام حتى لا تلهب حرارة الشمس المحرقة أبدانهم ولا تلفح وجوههم .

وهو غمام أبيض كثيف وهو ألطف الغمام وأبرده مع رطوبة وهذا أنفع شيء لصحة الأبدان وأروحه للأرواح .

8- وأنزل عليهم المن وقد ورد في وصفه أنه أبيض من اللبن وأحلى من العسل ولا كلفة عليهم فيه ولا مشقة بل ينزل من السماء من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فيجمعون منه ما يكفي يومهم ولا يدخرون شيئاً إلا ما كان في يوم الجمعة حيث يجمعون ليوم السبت مع الجمعة ؛ لأن يوم السبت يوم عبادة لا يخرجون فيه لعمل ولا كسب .

والسلوى : طائر شبيه بالسماني أو هو السمان يـحـشر إلى منازلهم فيأخذون منه ما يحتاجون لا يستعصي عليهم ولا يحتاجون في أخذه لمشقة ولا كلفة ولا مطاردة .

9- قال المفسرون : إن الله عاقب بني إسرائيل لما ردوا على موسى بذلك الرد القبيح  {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} بالتيه أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة .

روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس وإذ كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لـموسى : من لنا بالطعام ؟ فأنزل الله عليـهم                 المن والسلوى . قالوا : من لنا من حر الشمس ؟ فظلل عليهم الغمام . قالوا : فبم نستصبح ؟ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم ( وقيل : عمود من نار ) . قالوا : من لنا بالماء ؟ فأُمر موسى بضرب الحجر . قالوا : من لنا باللباس ؟ فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان . والله أعلم .

10- في قوله تعالى : {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أن أعمال العباد الصالحة أو الفاسدة إنما هي لهم كما في الحديث القدسي : (( إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) .

وأما الله تعالى فلا تنفعه طاعة الطائعين ولا تـضره معصية العاصين قال في الحديث القدسي : (( يا عبادي : إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضَرّي فتضروني … )) الحديث .

11- في قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} ما ينبغي أن يكون عليه العالم بربه المقر بفضله من أن كل خير فهو من الله تعالى ويجب أن يقابل بالخضوع والتعظيم لله ومن ذلك النصر على الأعداء والتمكين في الأرض فإنه من الله تعالى وحده ، قال سبحانه : {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (1) .

وفي دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة منصوراً حيث دخل متواضعاً قد طأطأ رأسه حتى لامس الركاب تعظيماً لله وتواضعاً له واعترافاً بفضله وتبرؤاً من الحول والقوة هذا بالفعل .

وأما القول فهو الاستغفار والثناء على الله والإحسان إلى خلق الله حيث عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفح وأطلقهم لله عز وجل ولم يقاتل إلا من أصر على قتال المسلمين أو من تجاوز كفره الحد كالذين أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم ومع ذلك فلما تاب بعضهم واستشفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فيهم شفاعة الشافعين وعفا عنهم .

 ودخل صلى الله عليه وسلم على تلك الحال من الخضوع والتواضع وهو يقرأ قوله تعالى : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً }  (1) .

بعكس المتكبرين المتغطرسين الذين يدخلون في غاية الكبر والغطرسة والتعاظم والإفساد والإيذاء وقتل الأبرياء والأخذ بالشبه والعقوبة من غير ذنب حتى يكثروا القتل وسفك الدماء وكأنهم عطاش لا يروون إلا بالدماء وجياع لا يشبعون إلا من الأشلاء وأي أشلاء ؟ إنها أشلاء الأطفال والأبرياء من العجزة والمقهورين الذي لا حول لهم ولا طول ولا قدرة لهم على القتال والدفاع فلا إل إلا الله كم الفرق بين رحمة رب العالمين وقسوة الظالمين .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1– سورة الزمر الآية (15) .

1- سورة العنكبوت الآية (43) .

1- سورة الأعراف الآية (179) .

2- سورة النساء الآية (137) .

3- سورة المنافقون الآية (3) .

4- سورة الصف الآية (5) .

5– سورة فصلت الآية (17) .

1- سورة التوبة الآيات (56 57 ) .

2- سورة التوبة الآية (19) .

3– انظر مصنف ابن أبي شيبة (7/355) .

4– سورة الأنفال الآية (19) .

1- سورة القصص الآية (30) .

2– سورة التحريم الآية (6) .

1- أخرجه الإمام أحمد (1/4 الطبعة القديمة ) .

2- سورة يوسف الآية (55) .

3- سورة النجم الآية (32) .

1- أخرجه الإمام مسلم في كتاب : الإيمان برقم (194) .

2- سورة ص الآيات (71-72) .

1- سورة الأحزاب الآية (72) .

2– سورة الفرقان الآية (44) .

3– سورة الرعد الآية (23-24) .

1- سورة البقرة الآية (169) .

2- سورة التين الآية (4) .

1- سورة فاطر الآية (28) .

2- سورة النحل الآية (125) .

1- سورة الحجر الآيات (28 – 29) .

1- سورة يوسف الآية (100) .

2– مسند أحمد بن حنبل (4/381- الطبعة القديمة ) .

1– سورة الصافات الآية (102) .

2- سورة المائدة الآية (32) .

3- سورة الصافات الآية (106) .

1- سورة النساء الآية (125) .

2- سورة الصافات الآية (103) .

3- سورة النحل الآية (116) .

4- سورة الكهف الآية (50) .

5- سورة سـبأ الآيات (40-41) .

1- سورة الأعراف الآية (12) .

1- سورة طـه الآية (115) .

2- سورة الأعراف الآية (16) .

1- سورة إبراهيم الآية (35) .

1- أخرجه مسلم برقم (2628) من حديث أبي موسى رضي الله عنه  .

2– أخرجه مسلم برقم (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

1– أخرجه البخاري برقم (4202) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وفيه قصة .

1- سورة الأنبياء الآية (69) .

1- سورة القمر الآيات (7-8) .

1- سورة مريم الآية (93) .

2- سورة التحريم الآية (6) .

1- سورة الأنبياء الآية (20) .

2- سورة فصلت الآية (11) .

3- سورة الإسراء الآية (44) .

4– (2 / 306 الطبعة القديمة) .

1– سورة البقرة الآية (30) .

2– سورة ص الآية (24 ) .

1- سورة الأنعام الآية (158) .

1- سورة الأنفال الآية (37) .

2- سورة فصلت الآية (46) .

1- سورة البقرة الآية (30) .

1- سورة فاطر الآية (32) .

2- سورة طـه الآية (115) .

1– سورة الأعراف الآية (23) .

2- أخرجه البخاري برقم (6323) .

1- سورة الزمر الآية (53) .

2- سورة الفرقان الآية (70) .

3- برقم (2758) .

1- كان عمر رضي الله عنه إذا رأى معتوه يقول : أشهد أن الذي خلق هذا وعمرو بن العاص واحد . فكان يضرب بعمر ابن العاص المثل في قوة عقله ورجاحة ذهنه .

1- سورة يونس الآية (62) .

1- أخرجه البخاري برقم (5063) .

2- سورة الحديد الآية (25) .

1- هذا في الأصل والعموم وليس على التفصيل ، فالأخبار قد تكون غير متيقنة حيث أتت من طريق ضعفاء أو في دلالتها مقال ، فالحذر فإن بعض من يتكلم في هذه المسائل د يكفر بما لم يكفر به .

2- سورة البقرة الآية (34) .

3- سورة الحجر الآية (39) .

4- سورة النمل الآية (14) .

1- سورة لقمان الآية (25) .

1- سورة النساء  الآيات (168- 169) .

2- سورة الأحزاب الآيات (64- 65) .

3- سورة الجـن الآية (23) .

1- سورة البقرة الآيات ( 11-12) .

1- سورة إبراهيم الآية (22) .

1- سورة المائدة الآية (64) .

1- سورة البقرة الآية (133) .

1– سورة النحل الآية (18) .

2– سورة النحل الآية (53) .

1- سورة المائدة الآية (20) .

2- سورة البقرة الآية (246 ) .

3- سورة الأعراف الآيات (156- 157) .

1- سورة المائدة الآية (12) .

1- سورة الأنعام الآيات (162 – 163) .

1- سورة البقرة الآية (85) .

1- لما كثر الزنا فيهم أصبحوا يأخذون الزاني ويلطخون وجهه بالدم ويركبونه على حمار ويطوفون به في الطرقات ويشهرون به . فغيروا حكم الله ، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك .

2- سورة آل عمران الآية (67) .

1- برقم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . 

1- سورة الصف الآية (5) .

1- سورة المؤمنون الآيات (1- 2) .

1- يوجد لشيخنا درس بعنوان ( الصلاة خير موضوع ) ذكر فيه أكثر من عشرين كنز من كنوز الصلاة وهو مطبوع يمكن الرجوع إليه والاستفادة منه .

2- سورة المعارج الآيات (19-22) .

3- سورة العنكبوت الآية (45) .

4– سورة طـه الآية (132) .

1– سورة البقرة الآية (87) .

1- سورة النبأ الآية (38) .

1- سورة البقرة الآية (255) .

2- سورة الأنبياء الآية (28) .

3- سورة المائدة الآية (18) .

1- سورة المؤمنون الآية (101) .

2- سورة الشعراء الآية (89) .

3- سورة النساء الآية (48) .

1- سورة الشعراء الآيات ( 53 56) .

2- سورة الشعراء الآية ( 61-62) .

1- يوشع بن نون : فتى موسى الذي خلفه من بعده وهو من أنبياء بني إسرائيل العظام وهو الذي أخرج بني إسرائيل من التيه وأدخلهم بيت المقدس وانتصر على العماليق ، وهو الإنسان الوحيد الذي حبس الله له الشمس يوم الجمعة حتى تم له النصر .

2- سورة طـه الآية (77) .

1- سورة المدثر الآية (31 ) .

2- سورة فصلت الآيات (15- 16) .

1- سورة الزخرف الآية (51) .

1- سورة الأعراف الآية (142) .

1- أخبار بني إسرائيل لا تُصدق ولا تُكذب وإذا رويت فإنما تروى للاعتبار إن كان فيها عبرة ، أو لم تخالف شيء في كتابنا أو في سنة نبينا e .

1- سورة طـه الآية (88) .

2- سورة طـه الآيات (90-91) .

1- سورة الأعراف الآية (150) .

1- سورة الأعراف الآية (143) .

2- سورة الأعراف الآية (155) .

1- برقم (2758) .

2- أخرجه أبو داود برقم (2479) .

1– سورة النساء الآيات ( 17 18 ) .

2- سورة النساء الآية (164) .

1- سورة المائدة الآية (24) .

1- سورة الحج الآية (41) .

1- سورة الفتح الآيات (1-3) .

تفسير آيات من سورة البقرة - من 1 إلى 125