تفسير القرآن

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الأول 

قال شيخنا رحمه الله – :

قال تعالى : {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}  [البقرة : 1 – 5]

 

خمس آيات في أول أطول سورة في القرآن بين الله وحدد صفات المفلحين وهم من فازوا بنجاتهم وسلامتهم في الدنيا والآخرة فأما في الدنيا فسلموا من السيف وعصموا دماءهم وأموالهم بالتزامهم بهذه الصفات قال صلى الله عليه وسلم : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ﻻ إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إﻻ بحقها … )) الحديث

 

وقال تعالى : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة : 29]

وأيضاً سلموا من عقوبات الله التي ينزلها بمن حاد عن صفات المفلحين وأجمل سبحانه ثم فصل في هذه الصفات

فأجمل بقوله :{ لِلْمُتَّقِينَ } وأصل التقوى في اللغة مشتق من التوقي وهو طلب الوقاية مما يضر أو يؤلم ، قال الشاعر :

وكن كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى .

وقد فسرها بعض السلف بقوله :

( هو الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل ) .

ثم فصل صفاتهم فقال : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}

والغيب : كلما غاب عنك وحجب وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم اﻵخر وبالقدر خيره وشره )) .

 

الدرس الثاني :

 قال شيخنا رحمه الله – :

قد سبق أن الله أجمل صفات المفلحين ثم فصلها ، فأجملها بقوله : {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وهذا يعني أن المهتدي بهذا القرآن هم المتقون ومعنى ذلك أن العبد كل ما كان أتقى لله كان اهتداؤه بالقرآن أكمل وأتم ، وهذا يدل على فضل التقوى وأنها سبب الاهتداء بهذا الكتاب العظيم .

والاهتداء هنا يشمل الهدايتين فهو اهتداء اﻹرشاد والتعليم وهذا مثل قوله تعالى {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة : 185]

وأيضاً هو هداية التوفيق كما في قوله تعالى : {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } [فصلت : 44]

وقد خص الله المتقين بهداية القرآن ؛ ﻷن قلب العبد كالأرض فإن كانت طيبة قبلت الماء وأنبتت العشب الكثير ، وإن كانت سبخة فلا تمسك ماءاً وﻻ تنبت كلأً كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوب العباد في الانتفاع بما جاء به من العلم والهدى  .

وكذلك قول الله تعالى : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف : 58]

فإذا كان القرآن هو أصفى الكلام وأعلاه وأحسنه وأقومه احتاج إلى محل صاف وطاهر وخالص وهو قلوب المتقين

فالمتقون هم الذين طهرت قلوبهم وزكت نفوسهم وأعمالهم وطابت سرائرهم فقبلها الله ﻷن الله طيب ﻻ يقبل إﻻ طيبا فهداهم بالقرآن وانتفعوا به ويبين ذلك صفاتهم التي بينها في هذه الآيات ، وإذا كان ذلك كذلك تبين لك سر عدم انتفاع كثير من الناس بالقرآن إما بالإعراض عنه قراءةً وعملاً وإما بهجر تلاوته وعدم تدبره واستبداله بالتافه من الأمور قراءة أو عملاً ،  فالله المستعان .

 

الدرس الثالث :

قال شيخنا – رحمه الله – :

فقوله : {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}

وهذا الأسلوب يفيد الحصـر فلكون القرآن : { لَا رَيْبَ فِيهِ }  فمن الضـروري انحصار الهداية العامة الشاملة فيه ، ومعنى ذلك أن هداية القرآن ﻻ تقتصـر على ناحية من نواحي الحياة بل هي شاملة لجميع نواحي الحياة وليس الدنيا فقط بل الآخرة قال تعالى : {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء : 9]

وقال سبحانه : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا }  [الشورى : 52]

فهدايته شاملة عامة للعقائد والعبادات واﻷخلاق والآداب والمعاملات وسواء كانت مع الله أو مع أهله أو مع الناس وسواء كانوا مسلمين أو كفار قال سبحانه : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام : 38]  على أحد التفسيرين .

وقال تعالى : {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان : 33]

وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة : 50]

وقال تعالى وتقدس : {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}  [آل عمران : 83]  

وفي قوله بعد ذلك :  {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي يقرون بكل ما أخبر الله به عن نفسه وملائكته وكتبه ورسله واليوم اﻵخر والقدر خيره وشره وغير ذلك مما أخبر الله به من أمور الغيب

ونص على اﻹيمان بالغيب ﻷن اﻹيمان بالمشاهد المحسوس ليس بإيمان فالمحسوس ﻻ يمكن إنكاره إﻻ في المغالطات وفي دين السوفسطائة الذين ينكرون الحقائق

ومن اﻹيمان بالغيب تتفرع جلائل اﻷعمال كالخوف والخشية والإنابة والحب لله والتعظيم له ، وترتدع النفوس عن شهواتها ونزواتها وتنصرف عن طاعة الشيطان فيما يملي ويوسوس لها

 

الدرس الرابع :

قال شيخنا – رحمه الله – :

 بعد أن ذكر اﻹيمان بالغيب في صفات المتقين الذين يهتدون بهذا الكتاب العظيم ثنى بذكر أعظم فرائض اﻹسلام وقواعده العظام فبين أن من صفات المتقين أنهم يقيمون الصلاة ويشمل ذلك الفرض والنفل .

ولم يقل يصلون وﻻ قال يؤدون ولكن قال يقيمون وذلك ﻷن اﻹقامة تشمل اﻷداء وزيادة فاﻷداء عمل الجسد وحركاته وأما إقامتها فأول ما تتضمن صلاة القلب والروح وخشوعهما .

قال تعالى عن عباده الصالحين : {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}  [الأنبياء : 90]

وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أول ما يفقد الناس من دينهم الخشوع في الصلاة .

ويشمل أيضاً جميع شروطها وأركانها وواجباتها على ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بين لنا شروطها قوﻻً وعملاً .

وأقامها لنا قوﻻ وعملاً ثم قال صلى الله عليه وسلم : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) .

والصلاة من أعظم روافد العقيدة ودعائم اﻹيمان وﻻ دين لمن ﻻ صلاة له وبهذا نطقت الآيات والأحاديث وأجمع السلف الصالح رضي الله عنهم .

 بل إن العجيب أنه ﻻ يوجد دين ولو كان باطلاً ودجلاً إﻻ وفيه صلاة بوجه أو بآخر .

ولعظمة هذه الفريضة كررت في اليوم خمس مرات فرضاً ﻻ تسقط إﻻ بالموت أو بغياب العقل غياباً كلياً ﻻ يبقى معه إدراك وأما مع الإدراك فلو قطع أو حرق فلا تسقط الصلاة بحال .

والسر العظيم في ذلك أنها تطهير للقلب والبدن وروح لهما وهل يبقى قلب أو جسد بغير روح ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (( وجعلت قرة عيني في الصلاة )) .

 وقال صلى الله عليه وسلم : (( أرحنا بالصلاة يا بلال )) .

وقال صلى الله عليه وسلم : (( أرأيتم لو أن نهراً غمراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ؟ )) قالوا : ﻻ يبقى من درنه شيء . قال : (( فكذلك الصلوات الخمس يمحوا الله بهن الخطايا )) أخرجه البخاري ومسلم .

بل العجيب أن بشرط واحد من شروط الصلاة وهو الوضوء والطهارة تتساقط الذنوب من الجوارح مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، بل في الصلاة تستر واحتشام وزينة ، قال تعالى : {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}  [الأعراف : 31] يعني عند كل صلاة  

والمرأة تغطي جميع بدنها في الصلاة إﻻ الوجه والكفين إذا لم تكن بحضرة رجال أجانب فإذا كانت بحضرة رجال أجانب وجب عليها أن تغطي جميع بدنها حتى الوجه والكفين .

ولما سألت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتصلي المرأة في إزار وخمار ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (( نعم إذا سترت قدميها )) .

 

 

الدرس الخامس  :

 قال شيخنا رحمه الله – :

ثم ذكر سبحانه من صفات المتقين : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}

ففي قوله : {رَزَقْنَاهُمْ } تنبيه وتذكير أن كل ما بأيدي الخلق هو من الله تعالى خلقا وإيجاداً وتيسراً وتسخيراً ، قال تعالى : {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ : 22]

وقال تعالى : {لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}  [الرعد : 16] وآيات كثيرة تبين أن الخلق جميعا ﻻ يملكون ﻷنفسهم وﻻ لغيرهم رزقاً وﻻ نفعاً وﻻ ضراً

ولذلك لم يكلف الله الخلق برزق أنفسهم وﻻ غيرهم وإنما كلفهم بعبادته وطاعته

قال تعالى : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه : 132]

وقال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات : 56 ، 57]

وقال تعالى مخاطباً من يعبد غيره : {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت : 17]

وقوله : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}

{وَمِمَّا} ومن ما ، ومن تحتمل أن تكون للتبعيض وأن تكون للبيان فإذا كانت لتبعيض فيعني أنهم ينفقون بعضا مما رزقهم الله .

وبالتالي يرد سؤال وهو : هل يجوز للمسلم أن ينفق ماله كله في طرق الخير كما فعل أبو بكر رضي الله عنه ، أو أن ذلك ﻻ ينبغي ؟

والصحيح جوازه لكن بشرط أن ﻻ يترتب عليه ترك واجب كالإنفاق على الأهل ومن تجب نفقته أو ارتكاب محذور وهو أن ﻻ يصبر فيسأل الناس ويتكففهم ، فإن ترتب على إنفاقه في الخيرات ذلك فلا يجوز ﻷن الواجب مقدم على النافلة .

وإذا كانت للبيان فيعني ذلك أنهم ينفقون في الواجبات كالزكاة المفروضة والنفقات الواجبة وأيضا في التطوع والقربات .

وعلى كل حال فإذا كان هذا مدحا فإنه يعني ذم الشح والبخل الذي يمنع من بذل المال وإنفاقه فيما يجب كالزكاة وغيرها وفي المستحبات ﻷن العبد ليس له من ماله اﻻ ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأمضى وأما ما عدا ذلك فليس ماله ولكنه يجمعه لغيره

 

الدرس السادس :

 قال شيخنا رحمه الله – :

 ومن صفات المتقين المهتدين بالقرآن : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}

والواو هنا ليست للاستئناف ولكنها للعطف فهذه اﻷوصاف في هذه الآية مع ما سبقها من أوصاف للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة … الخ

ونقول هذا ﻷن بعض المفسرين يقولون : أن الواو للاستئناف وأن ما بعد الواو صفات لطوائف غير الطائفة اﻷولى ، وبالتالي يقولون أن قوله تعالى : {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} هي في حق من آمن من غير أهل الكتاب كمشركي العرب وغيرهم .

وأن قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}   هي لمن آمن من أهل الكتاب .

وهذا خطأ والصحيح أنها كلها صفات للمتقين من آمن من العرب وغيرهم ومن آمن من أهل الكتاب .

وقوله {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}  يعني القرآن وما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من السنة ؛ ﻷن السنة وحي من الله قال تعالى : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم : 3 ، 4]

وقال تبارك وتعالى : {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل : 44]

وقال تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران : 164]

والكتاب : القرآن

والحكمة : السنة

واﻹيمان المنجي هو الاعتقاد بالقلب والعمل بالجوارح فهم يعتقدون اعتقاداً جازماً ﻻ يخالطه شك وﻻ ريب بصدق ما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم وأنه الحق من ربهم ويعملون وفق هذا اليقين فيرجون الله ويخافونه ويخشونه ويخلصون القلوب والأعمال له ويحبونه ويعظمون …… ويقومون بما أوجب عليهم من عبادات باللسان والجوارح طلباً لمرضاته وخشية عقابه

وقوله : {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} وهذا يتضمن اﻹيمان بجميع الأنبياء السابقين إجماﻻً وتفصيلاً ، فمن ذكره الله باسمه أو وصفه يؤمنون به على التعيين ، وما عداهم يؤمنون بهم إجماﻻً وان الله قد بعث أنبياء ورسل ﻻ يعلمهم إﻻ هو سبحانه وأنهم جميعاً قد أدوا الأمانة وبلغوا رسالة ربهم ونصحوا ﻷممهم ، قال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل : 36]

وقال تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر : 78]

وقال تعالى : {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء : 165]

وقال عز وجل : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}  [الإسراء : 15]

والرسل عليهم الصلاة والسلام عددهم ثلاثمائة وبضعة عـشر صح بذلك الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم وقد سمى الله منهم في القرآن خمسة وعشرين ، وأما اﻷنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا يعلم عددهم إﻻ الله ، واﻷحاديث الواردة في عدد اﻷنبياء كلها ضعيفة وضعفها شديد .

ويشمل اﻹيمان بما أنزل من قبلك الكتب التي أنزلها الله على اﻷنبياء السابقين وما ذكره الله منها نؤمن به على التعيين ، فنؤمن بالتوراة واﻷنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى ، فالتوراة أنزلها الله على موسى واﻷنجيل على عيسى والزبور على داود وقيل في صحف موسى أنها التوراة وقيل إنها غير التوراة ، واﻷقرب أنها التوراة .

 

الدرس السابع :

 قال شيخنا رحمه الله – :

وقوله تعالى : {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} والآخرة هي ما بعد الدنيا وتشمل في الجملة ما بعد الموت ومفارقة الحياة .

وخصها بالذكر مع أنها تدخل في الغيب الذي سبق ذكره ؛ لأنها مما غاب عن أهل الدنيا خبره ومشهده وﻻ علم لهم بشيء من أمرها وأحوالها إﻻ من طريق الوحي فقط فهو علم ﻻ يدخل في التجربة وﻻ يمكن الوصول إليه إﻻ من طريق السمع فقط الذي يأتي من عند الله .

واﻹيمان باليوم اﻵخر يعني اليقين الجازم الذي ﻻ يخالطه أدنى شك أو ريب فيما أخبرنا به ربنا عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من سؤال القبر وفتنته للمؤمن والكافر وما يتبع ذلك من نعيم القبر لمن رضي الله عنه وعذابه لمن سخط عليه ، وقد دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان .

ويشمل أيضاً البعث والنشور ومواقف القيامة وأهوالها وشدتها ثم الحساب والميزان والحوض والصراط وفصل الله القضاء بين العباد وانقسام الناس إلى فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير ويشمل الشفاعة و خروج أقوام من النار بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين .

ثم دخول الجنة ومنازل أهلها وما فيها من النعيم المقيم وكذلك النار وما فيها من العذاب اﻷليم ، اللهم نجنا برحمتك منها ، وهذا كله في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مفصل تفصيلاً كأنه رأي العين .

وقد أنكر اليوم اﻵخر وما فيه طوائف :

*- فمنهم من قال : ﻻ بعث وﻻ نشور ولكنها أمثال مضروبة للعوام وأمثالهم وهذا دين الفلاسفة .

*- ومنهم من قال : أن المعاد خاص بالأرواح دون الأجساد وهم طوائف من اليهود والنصارى وبعض الفلاسفة .

*- ومنهم من قال : أن الأجساد التي كانت في الدنيا ﻻ تعاد ولكن الله ينشئ أجساداً غيرها ، وهذا قال به بعض أهل الضلال من المتكلمين .

*- ومنهم : من أنكر البعث واليوم اﻵخر : {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}  [الجاثية : 24] : وهؤلاء هم الدهرية ومنهم مشركوا العرب

فالمؤمنون بالغيب يستشعرون مشاهد يوم القيامة وما قبله من القبر وما بعده من الجزاء .

واﻹنسان ﻻ ينتفع بسمعه وبصره إذا فقد اﻹيمان بالغيب والإيقان بالآخرة فاﻹيمان بالغيب عامة وباليوم اﻵخر خاصة يدفع المؤمن إلى السعي في خلاص نفسه ومحاسبتها أشد المحاسبة وتفقد أعماله الظاهرة والباطنة ، وأيضاً يوجد في نفسه الطمأنينة والسكينة بأن ما أصابه من ضرر أو ظلم فمآله له خير إذا أحسن التعامل معه وفق أوامر ربه .

ثم ختم سبحانه وتعالى هذه اﻷوصاف بقوله : {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}

فالمتقون الذين اتصفوا بتلك الصفات على هدى من ربهم فعلمهم أصيل ﻻ يأتيه الباطل من بين يديه وﻻ من خلفه تنزيل من حكيم حميد ونالوا هداية الله لهم بتوفيقهم باطناً وظاهراً لسلوك سبيل نجاتهم وسبب سعادتهم فأفلحوا فازوا بما طلبوا ونجوا مما خافوا وهربوا ، نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل

 

 الدرس الثامن  :

 قال شيخنا رحمه الله – :

قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة ]

هذا أول نداء في القرآن وفي ضمنه أول أمر في القرآن  وقد قال بعض العلماء أن سورة البقرة تشتمل على ألف أمر وهذا أولها .

فأما النداء فهو للناس كافة ؛ ﻷن الله قد بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للناس كافة قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف : 158]

وقد أخذ الله الميثاق والعهد على جميع اﻷنبياء من آدم إلى عيسى بأن إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ويتبعوه قال تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) } [آل عمران]

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : (( …. وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة )) وليس فقط بنو آدم بل بعث إلى الجن واﻹنس .

فنداء الله في هذه للآية للناس موافق لكون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم وخطاب القرآن موجه لهم جميعاً ، ونداء الله للناس كافة ﻷن اﻷمر الآتي بعد هذا النداء وهو قوله : {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} شامل لجميع الناس ﻷن الناس إنما خلقوا للعبادة قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) } [الذاريات]

فناسب أن يناديهم جميعاً لهذا اﻷمر العظيم الذي خلقهم جميعاً ﻷجله

 

الدرس التاسع  :

 قال شيخنا رحمه الله – :

والعبادة التي خلق الله الخلق من أجلها مبنية على غاية الحب والتعظيم مع غاية الذل والخشية قال تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة : 165]

وقال تعالى : {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة : 150]

وأمثال ذلك مما يبين حقيقة ما خلق الخلق من أجله وتحقيق عبوديته على الوجه الذي يحبه ويرضاه .

وقوله : {الَّذِي خَلَقَكُمْ} وهذا بيان لبعض صفات الرب الذي يجب على الخلق عبادته فكما أنه ﻻ خالق لهم إﻻ هو فيجب أن ﻻ يعبد إﻻ هو .

فتوحيد الربوبية ( وهو اعتقاد أنه ﻻ رب سواه يخلق الخلق ) مستلزم بالضرورة توحيد العبادة ( وهو أن ﻻ يعبد الخلق أحداً سواه ) .

وهذا التلازم بين هاتين القضيتين كررها ربنا في كتابه تكريراً ﻻ يمكن حصره إﻻ بمشقة ، ونوع التعبير عنها بأنواع من البيان حتى اتضحت أعظم من وضوح الشمس في وسط النهار ليس دونها حجاب وشملت القرآن من أول آية فيه إلى آخر آية ، فأول آية : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فربط بين الربوبية والألوهية في الذكر ، وآخر الآيات في القرآن : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)}

وبين أول القرآن وآخرة تنوعت أساليب القرآن في الربط بين الربوبية والألوهية وعقل العقلاء أن الرب : {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } [الأعلى : 2 – 4]

هو الذي يستحق العبادة دون من سواه وأنه ﻻ أحد يستحق شيئاً من العبادة إﻻ أن يكون رباً خالقاً مدبراً رازقاً محيياً مميتاً فلا غرابة أن يكون أول أمر في القرآن مبنياً على تقرير هذا اﻷصل العظيم .

وقوله : {خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تذكير بأن خلقه ليس مقصوراً عليكم وحدكم وبالتالي فعبوديته ليست خاصة بكم بل كل الإنس والجن معنيون بهذا الخطاب التكليفي قال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }  [البقرة : 183]

وقال تعالى : {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة : 43]

وقال تقدست أسماؤه : {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}  [النساء : 131]

وقال : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}  [آل عمران : 97] يعني من ترك فرضه الحج مع الاستطاعة .

وأمثالها في كتاب الله مما بين الله أنه كما خلق الخلق جميعاً وحده فقد أمرهم جميعاً بعبادته فمنهم من آمن ومنهم من كفر وﻻ يظلم ربك أحداً

وفي قوله : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بيان الحكمة من هذا اﻷمر الذي كلف به الخلق وهي تحقيق التقوى وهذا يعنى أن التقوى مرتبة عالية ومنزلة سامية وأن الخلق ﻻ ينالونها إﻻ بعمل عظيم يناسب مقامها ، قال تعالى عن الجنة التي عرضها كعرض السماء واﻷرض : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}  [آل عمران : 133]

وقال فيمن يستحق معيته بالنصر والتأييد والتمكين والتوفيق : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل : 128]

وقال : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة : 194]

وآيات كثيرة تدل عظيم منزلة التقوى وعواقبها الحميدة نسأل الله أن يجعلنا من المتقين  

 

الدرس العاشر :

 قال شيخنا رحمه الله – :  

وفي قوله : {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أيضاً أنه ذكرهم بمن قبلهم ليعلموا أن الذي أمات من قبلهم وهو الذي خلقهم أنه سيميتهم كما أمات من قبلهم وليفكروا فيمن مضى قبلهم كيف كانوا وعلى أي اﻷمور مضوا من إهلاك من أهلك وأسباب هلاكهم وليعلموا أنهم يبتلون كما أبتلي من قبلهم وأن مآلهم كمآلهم سواء بسواء مؤمنهم كمؤمن من سبق وكافرهم ككافرهم  

قوله :  {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}

 وهذا تذكير بعظيم نعمه على خلقه وبدأها بذكر اﻷرض لكونها أول نعمة يباشرها المخلوق ويستمتع بها وﻻ قرار وﻻ بقاء له بدونها وقد وصف الله اﻷرض بأوصاف تدل على تلك المنافع التي أودعها الله فيها وهيأها لخلقه فوصفها بأنها فراش وبأنها ذلول وبأنها مهاد وبأنها كفات ، وهذه اﻷوصاف تدل على المنافع المتعددة للأرض .

فهي مهيأة وموطأه ليستقر المخلوق عليها استقراراً كاملاً في نومه وراحته وفي طلبه لرزقه فيها وسيره في مناكبها فهي مستودع أرزاق الخلائق ومستقر أجسادهم بعد الموت إلى أن يبعثهم الله ليوم ﻻ ريب فيه .

وﻻ ينافي ذلك وجود الجبال الوعرة لكون تلك الجبال من لوازم استقرار اﻷرض وثباتها فهي أوتاد للأرض حتى ﻻ تموج وتضطرب فيفقد المخلوق الاستقرار والانتفاع بها .

وكذلك وجود البحار فهو من ضرورات صلاح اﻷرض لمعاش المخلوق سواء بالسير فيها وقطع المسافات عبرها أو من خلال استخراج الرزق منها من أسماك وغيرها .

ثم قال :  {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}  كما في قوله تعالى : {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ : 12]

والسماء للأرض بمنزلة السقف للبيت قال تعالى : {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء : 32]

وقال تعالى : {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات : 47] أي بقوة

 وهذا يدل على سعتها وهو مشاهد فقد أحاطت بالأرض من جميع جوانبها وهي دالة على عظمة من خلقها ورفعها : {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد : 2]

فعظمة خلقتها تدل دﻻلة واضحة على عظمة خالقها وقوته وقدرته وعلمه وحكمته ، وتدعوا المخلوق الذي يعايش ضعفه وفقره وجهله إلى الخضوع والمهابة مع اﻹجلال والتعظيم لهذا الخالق العظيم الذي تفرد بهذا الخلق العظيم المشاهد فكيف بما غاب وهو أعظم وأكبر

 

الدرس الحادي عشر  :

 قال شيخنا رحمه الله – :         

قوله تعالى : {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} والسماء هنا يراد بها العلو ، فكل ما علاك وأظلك فهو سماء ، وذلك ﻷن السحاب المسخر بحمل الماء يكون سماء للأرض لكونه يعلوها ويظلها ، وإنزال الله للماء بقدر كما قال تعالى : {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون : 18]

{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الزخرف : 11]

و : { بِقَدَرٍ } في هذه اﻵيات يعني أنه بقدر سابق وأنه بمقدار محدد ﻻ يزيد عليه وﻻ ينقص موافق للقدر السابق بعلم وحكمة ، وتذكير الله للخلق بهذه النعمة العظيمة واستدﻻله بها على وجوب عبادته وحده ؛ ﻷن بالماء حياة جميع المخلوقات وتحقق منافعهم وهذا أمر علمه بالضرورة التي ﻻ تحتاج إلى تدليل .

ومع هذا الافتقار للماء وضرورته التي ﻻحياة لمخلوق بدونه يتيقن الخلق جميعا أنهم لو اجتمعوا على أن يوجدوا ويخلقوا قطرة واحدة من الماء ما استطاعوا .

وتظهر قدرة الله وتدبيره لخلقه في إنزاله المطر عند عجزهم وشدة افتقارهم في لحظات ، ففي حديث أنس أن رجلاً دخل يوم الجمعة المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال الرجل : يا رسول الله هلكت اﻷموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا .

فهلكت اﻷموال لما منع الله المطر فلم تنبت اﻷرض وانقطعت السبل أي سبل الرزق فلا أرض تزرع وﻻ ماشية ترعى وحياتهم بين هاتين النعمتين وما يتفرع عنها من تجارة أو صناعة ، ثم إن الخلق يتيقنون أنه إن نزل المطر فلا قدرة للمخلوقين على إيقافه مهما اجتمعوا والله سبحانه يرفعه كما أنزله بقدرته في لحظات ، ففي القصة السابقة أن المطر استمر من الجمعة إلى الجمعة فدخل ذلك الرجل أو غيره من باب المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم  يخطب فقال : يا رسول الله هلكت اﻷموال وانقطعت السبل فأدع الله يمسكها عنا .

فسبب الحياة قد يجعله الله سبب الهلاك ليظهر لعيان المخلوقين عجزهم وافتقارهم وأنه ﻻ حيلة وﻻ قدرة لمخلوق في جلب سبب الحياة وﻻ في دفع ضرره .

فأين الأصنام والأنداد التي اتخذت من دون الله من أولياء أو شياطين إنهم لن يغنوا الخلق من الله شيئاً ، ولذلك قال : {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }  

فقد تيقنتم أنهم أعجز وأقل شأنا من أن يغنوا عنكم شيئاً ، إذاً فالرشد والبصيرة أن توحدوا وتخلصوا العبادة لله الذي بيده وحده خلقكم وخلق أرزاقكم وإغاثتكم عند حاجتكم وضرورتكم وأيضا دفع الشرور والضر عنكم تبارك الله رب العالمين .

 

الدرس الثاني عشر :

 قال شيخنا رحمه الله – :

قال الله تعالى وتقدس :

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران : 7]

هذه اﻵية العظيمة تدل على عناية الله بخلقه وأن نعمه عليهم ليست مقصورة على خلقهم وإيجادهم وتسهيل سبل معاشهم من بسط اﻷرض ورفع السماء وإنزال الماء وإخراج الثمار بل إن النعمة الحقيقية هي هدايتهم إلى سبيل نجاتهم وفوزهم في الدنيا والآخرة ولذلك : {أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} الذي حياة القلوب ونورها قال تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى : 52]

وقال تعالى : {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال : 24]

 والمقصود بالكتاب القرآن وهذا يعني أن القرآن كلامه ﻻ كلام غيره وأنه منه بدأ وإليه سيعود كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان يسرى على القرآن بليلة فيرفع وﻻ يبقى منه آية ﻻ في المصاحف والسطور وﻻ في الصدور .

واﻹيمان بالكتاب والكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من أصول اﻹيمان كما مر معنا سابقاً .

ثم بين الله أن هذا الكتاب الذي هو القرآن مقسوم إلى قسمين : {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ومنه : {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}

 وأن المحكم : {أُمُّ الْكِتَابِ} يعني أصله ومرجعه وأن هذه القسمة للامتحان والاختبار ليثبت أهل العلم واﻹيمان وينكشف أهل الزيغ والفساد .

والمحكم من اﻹحكام والإتقان والتوثيق حتى يمتنع تطرق الخلل إليه فهو واضح متقن ليس فيه تناقض وﻻ تعارض وﻻ كذب في خبر وﻻ جور في حكم .

وبهذا الوصف فالقرآن كله محكم قال تعالى : {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود : 1]

والمتشابه يعني أنه يشبه بعضه بعضا في حسن البيان فكل آياته كاملة البلاغة كما يصدق بعضه بعضا فهي كاملة الجودة واﻹحكام والاخبار وغير ذلك .

وبهذا المعنى فالقرآن كله متشابه قال تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر : 23]

وقال تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء : 82]

ويأتي اﻹحكام والتشابه من حيث وضوح المعنى أو خفائه فعلى هذا فالقرآن فيه محكم : أي واضح ﻻ يحتاج إلى بيان وتفسير مثل قوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وأمثالها فمعناه واضح ﻻ يحتاج إلى بيان ومثل قوله : {أَقِمِ الصَّلَاةَ} ومثل قوله : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}  [النساء : 36] وأمثالها مما هو واضح ﻻ خفاء في معناه وﻻ يحتاج إلى تفسير

والمتشابه ما يحتاج إلى تفسير وبيان وهذا موجود في القرآن ويدل على وجوده هذه الآية التي نفسرها .

 

الدرس الثالث عشر :

 قال شيخنا رحمه الله – :

قال الله تعالى وتقدس :

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}  

تبين من خلال هذه اﻵية الكريمة أن حكمة الله اقتضت أن قسم سبحانه كلامه إلى محكم ومتشابه ابتلاءً للناس واختباراً ، ولكن مع ذلك ﻻبد أن يتيقن المؤمن أن كلام الله ﻻ يخالف بعضه بعضاً وﻻ يناقض بعضه بعضاً ؛ ﻷنه من لدن عليم خبير حكيم قال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء]

وإن شبه لغير الراسخين في العلم أن في القرآن اختلافاً أو تعارضاً فذلك يرجع إلى اﻷسباب التالية :

السبب الأول : قصور العلم .

السبب الثاني : قصور الفهم .

السبب الثالث : تقصير في التدبر .

السبب الرابع : سوء في القصد فلا يوفق للجميع بين الآيات التي ظاهرها التعارض ورد المتشابه إلى المحكم

وعليه قسم الله الناس في المحكم والمتشابه إلى قسمين :

فالقسم اﻷول : الذين في قلوبهم زيغ ، أي : ميل عن الحق ، وهوﻻء صنفان :

الصنف الأول : أصحاب شبهات .

والصنف الثاني : أصحاب شهوات .

فأصحاب الشبهات وهم اﻷخطر يجتهدون في ضرب كلام الله بعضه ببعض ويظهرونه أمام الناس بأنه متناقض أو أنه على غير ظاهره الذي يفهمه أهل اللسان الذين نزل القرآن بلغتهم ، فبعضهم يدعي أن للقرآن ظاهراً للعوام والجهلة وباطن للخاصة وأن ظاهره غير مراد للخاصة ، وهوﻻء طوائف أفسدوا على الناس دينهم وعقيدتهم في الماضي والحاضر ، ومن هذه الطوائف :

الباطنية والفلاسفة الملاحدة ومنهم غلاة الصوفية ومنهم غلاة المتكلمين وورثتهم في هذا العصر من العقلانيين وأشباههم .

وطوائف من هؤلاء قالوا أن ظواهر القرآن غير مراد وﻻبد من تأولها بما يتوافق مع العقل فأبطلوا دﻻﻻت الكتاب والسنة على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم وأتوا للناس بما ﻻ يُعرف في كلام الله وكلام رسوله وﻻ في اللغة التي نزل بها القرآن من دعاوى المجاز وغيره فأبطلوا دﻻﻻت الكتاب على أسماء الله وصفاته .

ومنهم طائفة نزلت اﻵيات التي وردت في الكافرين على أهل الذنوب من المسلمين فكفروا المسلمين واستحلوا دماء المسلمين بغير حق .

ومنهم طائفة أبطلت أثر المعاصي على اﻹيمان وقالوا ﻻ يضر مع اﻹيمان ذنب فجرأوا الناس على المعاصي وأوهموهم أنها ﻻ تضر من شهد أن ﻻإله إﻻ الله وأمثال ذلك من شبهات وضلاﻻت أفسدت على كثير من الناس دينهم .

وأما أهل الشهوات فجهدوا في رد دﻻﻻت القرآن عن اﻷحكام التي قررها القرآن فتجدهم يشككون في قضايا مقطوع بأحكامها في كتاب الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم الراسخين وأكثر ما يدندنون حوله الأحكام التي تتعلق بالعفاف ووقاية المجتمع من أسباب الفساد فيشككون في الحجاب وقوامة الرجال على النساء ومسائل الاختلاط والخلوة بين الرجل والمرأة ويدعون أنهم يريدون حرية المرأة وإعطائها حقوقها وأمثال ذلك من الدعاوى الكاذبة الماكرة الفاجرة ، والغرض من ذلك أن تكون المرأة مبتذلة يتمتعون بها كيف شاؤوا حياة حيوانية تتنزه عنها كثير من البهائم .

وآخرو ن منهم تتعلق شهوتهم بالمال وما يتبعه فيبطلون أحكام الله في المال فيحلون الربا والرشا وأنواع من المعاملات التي من خلالها يأكلون أموال الناس بالباطل ومن إتباعهم لشهوات بطونهم وفروجهم إبطال دﻻﻻت القرآن على تحريم الخمر وتوابعه ودعاوى كثيرة يتناعقون بها ﻹفساد أخلاق الناس ودينهم قال تعالى : {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)}[النساء]

 

الدرس الرابع عشر :

قال الله تعالى :

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } [آل عمران]

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} لأن المسارعة تدل على شدة الرغبة وصدق المحبة وقد أثنى الله على خواص عباده بذلك فقال تعالى : {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}  [الأنبياء : 90]

وقال تعالى : {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون : 61]

وقال تعالى : {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران : 114]

وأمر سبحانه بالمسابقة فيما يرضيه فقال تعالى : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ …} [الحديد : 21]

وهذه قاعدة الشرع المطهر وهي الحث على المسارعة والمسابقة إلى أسباب محبة الله وإظهار الرغبة بذلك في مرضاته سبحانه وعظيم ثوابه

ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل العمل قال : (( الصلاة في أول وقتها )) . وذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز تأخير الواجبات عن أول وقتها إﻻ لعذر

وقوله تعالى : {وَسَارِعُوا} و {سَابِقُوا} صيغة مفاعلة وﻻ تكون في الغالب إﻻ من اثنين فأكثر وهذا معناه الحث على أن على المتقين الراغبين فيما عند الله أن يسابق بعضهم بعضاً إلى الجنة بفعل اﻷسباب التي امتدح الله بها المتقين ؛ ﻷن التكاسل والتهاون يدل على ضعف الرغبة أو على عدم اليقين بما وعد الله وهذا يعني أنه ﻻ ينبغي ﻷحد أن يؤثر غيره بما فيه قربة لله ولكن هل يشمل ذلك الواجبات والتطوعات أو هو خاص بالواجبات ؟

والصحيح أن الواجبات ﻻ يجوز اﻹيثار فيها وأما التطوعات والمستحبات فينظر للمصلحة فإن كان اﻹيثار فيه مصلحة فلا بأس .

وفي هذه اﻵيات يأمر الله بالمسارعة فإلى أي شيء إلى أمر عظيم هو منتهى آمال الراغبين وملجأ أنفس الوجلين الخائفين إلى مغفرة من ربكم وجنة  فالله أكبر إنه يدعونا وهو الغني عنا أن نسارع إليه وقد بسط يديه وفتح أبواب التوبة فما أرحمه وما أشد عقوق المتخلفين عن ندائه .

وجمع بين زوال المكروه وحصول المطلوب المرغوب ؛ ﻷن السعادة ﻻ تتم وﻻ تكتمل إﻻ بذلك فزوال المكروه هو المغفرة ومعناها ستر الذنوب والتجاوز عنها كما قال في الحديث القدسي لما يدني عبده ويحاسبه في الآخرة : (( قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم )) ومعنى ذلك : أنه لن يعاقبه على تلك الذنوب وأما حصول المطلوب المرغوب فهو الجنة التي عرضها السماوات واﻷرض وفيها ماﻻ عين رأت وﻻ أذن سمعت وﻻ خطر على قلب بشر .

ثم ذكر الله عظمة الجنة وسعتها فقال : {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} وهذا تشبيه بليغ وقد قيل هذا عرضها فكيف بطولها ومعلوم هندسيا أن الطول أطول من العرض وقيل إن طولها كعرضها ﻷنها داخلة تحت العرش كما في الحديث : (( إذا سألتم الله فأسلوه الفردوس فإنه أعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقها عرش الرحمن )) .

وﻻ يرد على ذلك ما أورده اليهود والنصارى من إشكال أنه إذا كان عرضها السماوات واﻷرض فأين تكون النار فقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم من أورد هذا السؤال من اليهود والنصارى بقوله صلى الله عليه وسلم : (( أرأيت إذا جاء الليل فأين النهار ))

وقوله : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} يفيد أن الجنة موجودة اﻵن وأنها قد هيئت وهذه القضية دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين

واﻵية بينت المستحقين والوارثين للجنة فقال : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}   كما قال في النار : {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران : 131]

والمتقون وصف جامع لخصال الخير وجوامعه من فعل وترك فهي ليست شعار مفرغ من المضمون كما يضن من جهل أمر الله ومراده من خلقه فأحدهم يدعي أنه من المتقين ويغضب إذا لم يوصف بذلك و هو ﻻ يعمل شيئاً من متطلبات التقوى وﻻ يترك شيئاً من نواقضها فكيف ؟ لكن مجرد دعاوى كما قال اﻷول :

والدعاوى إذا لم يقم عليها                                                 بينات فأهلها أدعياء

 

ويقول اﻵخر :

ترجو السلامة ولم تسلك مسالكها                 إن السفينة ﻻ تجري على اليبس

 

ويقول اﻵخر :

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى

                                                  وكن كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

فالتقوى منهج حياة ومسلك نجاة وليس دعاوى وانتحاﻻت فالمتشبع بما لم يعطى كلابس ثوبي زور ، وهذا بيان الله في هذه اﻵيات وغيرها يوضح تلك الحقيقة ويجليها .

فنسأل الله أن يجعلنا وجميع المسلمين من المتحققين بالتقوى العاملين بها

 

ثم ذكر أن المتقين درجتان :  

فالدرجة اﻷولى : هم المحسنون وصفاتهم أنهم ينفقون في السراء والضراء وذكر هنا إنفاقهم ولم يذكر على من ينفقون ليكون ذلك دالاً على العموم فإنفاقهم ليس على جهة وﻻ فئة خاصة بل هي عامة يتتبعون بنفقتهم كل مصارف الخير والبر بغير استثناء قال تعالى : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة : 215]

وقال الرجل : يا رسول الله عندي دينار . قال : (( تصدق به على نفسك )) . قال : عندي آخر . قال : (( تصدق به على ولدك )) قال : عندي آخر . قال : (( تصدق به على زوجتك )) قال : عندي آخر . قال : (( تصدق به على خادمك )) قال : عندي آخر . قال : (( أنت أبصر ))

ولم يذكر ماذا ينفقون لنفس السبب وهو الدلالة على العموم فلا يقـتصر على شيء مما ينفق وينفع :

*- فهم ينفقون من أموالهم ومن جاههم قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اشفعوا تؤجروا )) .

*- ومن قوتهم الصحية البدنية وفي الحديث : (( وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها )) .

 وفي الحديث اﻵخر : (( وفي بضع أحدكم صدقة )) قالوا : أيأتي أحدنا شهوته ويكون فيها أجر ؟ قال : (( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ )) قالوا : نعم . قال : (( فكذلك إذا وضعها في حلال )) .

وفي الحديث اﻵخر قال صلى الله عليه وسلم : (( أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز ما يعمل رجل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إﻻ أدخله الله بها الجنة )) .

قال أحد رواته فعددنا مادون منيحة العنز من رد السلام وتشميت العاطس وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة .

فالله أكبر ما أعظم وأوسع رحمة الله وما أكثر عطائه للمحسنين اللهم اجعلنا منهم برحمتك .

وهذه النفقات منها ما هو فرض واجب : كالزكاة المفروضة على البدن أو في المال فيعطونها طيبة بها نفوسهم يبتغون أجرها وثوابها ويخافون عقوبة منعها وكذلك النفقات الواجبة على الزوجة ولو كانت غنية واﻷبناء والوالدين وما ملكت اليمين ويشمل المماليك من بني آدم وما ملكت اﻷيمان من الدواب واﻷنعام فقد دخلت النار امرأة في هرة حبستها ﻻ هي أطعمتها وﻻ هي أطلقتها تأكل من خشاش اﻷرض ودخل رجل الجنة بكلب سقاه .

ومن النفقات ما هو مستحب ونافلة ويشمل كل وجوه الخير والبر التي يحبها الله ويرضى عن اﻹنفاق فيها : كبناء المساجد واﻷربطة للمحتاجين ودور العلم وحفر اﻷبار وإجراء العيون واﻷنهار لسقي الناس والدواب وإطعام المحتاجين وأمثال ذلك مما يحبه الله ويرضاه .

وحيث أن النفوس مجبولة على حب المال وفي سبيله ترتكب الأهوال وقد تتقحم النار فقد حذر الله من خطر جمعه من طرق تغضب الله وتوقع أصحابه في النار في الآيات التي سبقت هذه الآيات فقال تعالى : { …. لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران : 130 ، 131]

أعقبها بذكر المتقين الذين هم بنقيض صفات أولئك الذين يتقحمون النار بسبب حبهم للمال وحرصهم على جمعه بكل سبيل وﻻ يبالون من أين أخذوه

وهذا في آخر الزمان صفة غالبة في كثير من الناس كما في الحديث : (( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِى الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ مِنَ الْمَالِ بِحَلاَلٍ أَوْ بِحَرَامٍ )) أخرجه الإمام أحمد

ثم إن إنفاق المحسنين ﻻ يقتصر على حالة الغنى والسراء بل يشمل حال عسرهم وضرائهم : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر : 9]  فالإنفاق في حال السراء يحصل من عامة الخلق مؤمنين وكافرين وأما اﻹنفاق وقت الخصاصة والعسر فلا يحصل إﻻ ممن تيقن وأيقن بموعود الله .

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه

دروس في التفسير