شروح الحديث

دروس في الحديث

 

دروس في الحديث

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 قال شيخنا رحمه الله – :

أخرج الإمام مسلم – رحمه الله – في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال :

(( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا ))  قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله  

قال : (( أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ))

فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله

فقال : (( أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله ))

قالوا : بلى يا رسول الله  

قال : (( فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض أﻻ ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم : أﻻ هلم فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك فأقول : سحقاً سحقا ))

 

*- فيه فوائد :

1- قوله : (( أتى المقبرة ))

هذا فيه مشروعية زيارة القبور وبيان هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم عن زيارة القبور في أول اﻹسلام من أجل أن يقطع أعمال الجاهلية وتعلقاتهم الوثنية

ثم لما ثبت الإيمان في قلوبهم وتيقنوا فساد الجاهلية وتعلقاتها الشركية أذن لهم في زيارة القبور الزيارة الشرعية وعلل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم :

(( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ))

 

نعم فاﻹنسان قد تشغله الدنيا وتنسيه نهايته المحتومة ومنقلبه ويزين له الشيطان الخلود في ملاهي الدنيا وزخارفها

وقد تطغيه نفسه الأمارة بالسوء المضي والإصرار على باطلها حتى يهجم عليه الموت فجأة من غير استعداد وتهيؤ للرحيل مع طول السفر وشدة الغربة وهول المطلع وخشونة المضجع

ولأنه صلى الله عليه وسلم حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم وبعثه الله رحمة للعالمين وأول العالمين أمته صلى الله عليه وسلم فقد حثنا على زيارة القبور ﻻ لاستعادة ذكريات أصحابها وﻻ للتبرك بهم وﻻ لدعوتهم بأن يغيثونا أو يمدونا

ولكن لنتذكر الآخرة ونأخذ من رؤية مصارعهم عبرة وعظة لعلنا نتذكر أو نخشى وزيارة القبور مشروعة مسنونة لكن بشروط منها :

أ- أن ﻻ تكون بسفر وشد رحل ، لقوله صلى الله عليه وسلم : (( ﻻ تشد الرحال إﻻ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ))

ومعنى ذلك تحريم شد الرحال والسفر من بلد لقصد بقعة بعينها للتقرب إلى الله بذلك غير هذه المساجد الثلاثة

ولذا فإن من أراد زيارة المدينة النبوية فعليه أن ينوي بذلك زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه حتى يكتب له أجر الزيارة

ثم إذا دخل المدينة فإنه يشرع له السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما في قبورهم

ب- أن يسلم على أهل القبور ويدعو لهم وﻻ يدعوهم وﻻ يصلي في المقبرة وﻻ يتصدق فيها أو يذبح ولو كان للفقراء والمساكين ﻷن ذلك من الذرائع المفضية إلى الغلو ثم الشرك والعياذ بالله

وﻻ يتشبه بأهل الجاهلية في تعداد مآثر موتاهم وتعداد أشرافهم المقبورين فهذا مما أبطله اﻹسلام وحذر منه ، قال تعالى : {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر]

وإذا كانت زيارة القبور مشروعة للرجال فهي ممنوعة للنساء لقوله صلى الله عليه وسلم :

(( لعن الله زوارات القبور ))

وذلك لكثرة جزعهن ورقة طباعهن فيخشي من الوقوع في محذورات عظيمة من النياحة وغيرها ولذا سد الباب من باب سد الذرائع

2- قوله : (( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ))

في رواية أحمد : (( سلام عليكم ))

وفيه دلالة أن السلام على اﻷموات مثل السلام على اﻷحياء في تقديم المبتدأ على الخبر حيث قدم السلام وهو مبتدآ على الخبر ويقدم الدعاء على المدعو له فإن السلام متضمن الدعاء

ومثله قول الله تعالى : {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود : 73]

 

وﻻ ينافي هذا ما أخرجه أبو داود في باب كراهية أن يقول :

عليك السلام  من كتاب اﻷدب عن أبي جري الهجيمي ( بالتصغير في كليهما )

قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : عليك السلام يا رسول الله فقال :

(( ﻻ تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى ))

لأن معناه أن هذه الصيغة تختص بالموتى وأما السلام عليكم فمشترك

فتبين بقوله : (( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ))

أن السنة في السلام على اﻷحياء واﻷموات تقديم المبتدأ وهو ( السلام ) على الخبر وهو ( عليكم )

وبحديث أبي داود أنه يجوز في تحية الموتى تقديم الخبر وليس بمتحتم

والسلام : اسم من أسماء الله وضعه الله بين الناس ليحيي به بعضهم بعضا فيتحقق بينهم السلام والأمن والطمأنينة وتحصل المحبة بينهم  

كما قال صلى الله عليه وسلم : (( أﻻ أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم : أفشوا السلام بينكم ))

وهو من الدعاء فمن سلمت عليه فإنك تدعو الله أن يسلمه الله من جميع ما يخافه ويخشاه

 

3- وقوله : (( عليكم ))

استعمل كاف الخطاب لأن الموتى الذين يسلم عليهم يسمعونه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح مرفوعاً :

(( ما من مسلم يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إﻻ رد عليه السلام من قبره ))

وقد ورد أن أرواح الموتى على أفنية القبور وأنهم يعلمون بمن يزورهم ويسلم عليهم ويستبشرون بذلك فيبشر بعضهم بعضاً بقدوم من يأتيهم للسلام عليهم من اﻷبناء والأقرباء الصالحين ﻷنهم ينتفعون بدعاء الصالحين لهم

وفي حديث أنس رضي الله عنه :

(( أن الميت حين يقبر يسمع خفق نعالهم إذا ولو عنه مدبرين )) يعني بعد الدفن

4- وفي قوله : (( دار قوم مؤمنين ))

دليل على أن مثل هذا اللفظ في لغة العرب التي نزل بها القرآن وتكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح وأعلم من نطق بها من الخلق من الألفاظ المشتركة

وأنها على الحقيقة في كل ما أطلقها القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم عليه وكذلك العرب

وهذا يعني إبطال التقسيم البدعي الظالم اللغة بين حقيقة ومجاز ذلك التقسيم الباطني الذي عطلوا به أعظم ما نزل به القرآن وهو أسماء الله وصفاته

فصرفوا ألفاظها عن ظاهرها بدعوى المجاز وافتروا على الله الكذب وألحدوا في أسمائه وصفاته

ومعنى الكلام أن قوله عليه الصلاة والسلام : (( دار قوم مؤمنين )) على ظاهره وهم اﻷموات المقبورون

 

*- ومن فوائده :

5- إذا علمنا أن لغة العرب ليس فيها مجاز وأن ألفاظها على الحقيقة ولو وجد أكثر من نوع بلفظ واحد أن ذلك من المشترك اللفظي

فمن باب أولى القرآن الذي نزل بلغة العرب يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم وكذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من  الظلمات إلى النور أنه ﻻ مجاز في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما هو على الحقيقة على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم

وأكدنا على هذا ﻷن طوائف من أهل الضلال دخلوا من باب المجاز في اللغة ثم في القرآن إلى إبطال دﻻﻻت القرآن على أصول خطيرة من عقائد اﻹسلام فضل بسببهم أمم ﻻ يحصيهم إﻻ الله

وما صاحب باطل إﻻ ويدخل من هذا الباب ليروج باطله

 

6- وفي قوله : (( دار قوم مؤمنين ))

يعني أهل اﻹسلام ﻷن اﻹيمان إ ذا أفرد بالذكر دخل فيه الإسلام وإذا اقترن بالإسلام في الذكر كان للإسلام معنى وللإيمان معنى

ففي اﻹفراد مثل هذا الحديث ومثل قوله تعالى : {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}  [التغابن:11]  يعني دخل في الإسلام كله باطناً وظاهراً

ومثل اقترانه بالإسلام حديث سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن اﻹسلام والإيمان والإحسان فبين أن اﻹسلام اﻷعمال الظاهرة شهادة أن ﻻ إله إﻻ الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً

وبين أن اﻹيمان هو العمل الباطن أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم اﻵخر والقدر خيره وشره

ومثل قول الله تعالى : {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}[الحجرات:14]

ففرق بين اﻹيمان والإسلام فدل ذلك على معنى في اﻹيمان ﻻ يوجد في اﻹسلام عند الاقتران

وكذلك اﻹسلام إذا أفرد دخل فيه الدين كله مثل قوله تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}  [آل عمران:19]

وإذا اقترن بالإيمان كان للأعمال الظاهرة والإيمان للأعمال الباطنة

فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث :

(( السلام عليكم دار قوم مؤمنين )) يعني : أهل اﻹسلام الذين آمنوا باطناً وظاهراً

ونكتفي بهذه الفائدة لعظيم أهميتها وخطورتها في العقيدة اﻹسلامية

 

 

قد طلب أحد الأحبة أن نتكلم عن القبور في اﻹسلام وما يتعلق بها  

بمناسبة الكلام في مسائل زيارة القبور والسلام عليها ، لذلك سنجعل درس اليوم إن شاء الله عن هذه المسائل

كما للأحياء بيوت ومساكن فإن للأموات أيضاً بيوتاً ومساكن

وبيوت اﻷموات ومساكنهم القبور

ولذا قال صلى الله عليه وسلم : (( ﻻ تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة )) أخرجه أحمد ومسلم

ومعنى ذلك أن القبور ﻻ يقرأ فيها القرآن وأيضاً ﻻ يصلى إليها لقوله صلى الله عليه وسلم :

(( ﻻ تجلسوا على القبور وﻻ تصلوا إليها )) أخرجه أحمد ومسلم أيضاً

فالقبور ليست مكاناً لقراءة القرآن وﻻ للصلاة وقد أشتد النكير على الذين اتخذوا القبور مساجد فقال صلى الله عليه وسلم :

(( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ))

متفق عليه من حديث ابن عباس وعائشة

وفي حديثها : (( يحذر ما فعلوا )) يعني يحذر أمته من هذا الفعل  

وأخرجه مسلم عن أبي هريرة  وأحمد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهم جميعاً

وقد الحق العلماء بالمنع الصدقة وذبح الذبائح عند القبور ولو كانت ﻹطعام المساكين

وهذا يعني أن ما أحدثه الناس اليوم في المقابر من توزيع الماء أن ذلك حرام وإحداث في الدين وقد نص العلماء على هذه المسألة كما في فتوى كبار العلماء في بلادنا

وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (( ﻻ تجلسوا على القبور ))

بيان أن للأموات حرمة كحرمة اﻷحياء وربما أشد  

لأن الحي يستطيع أن يدفع عن نفسه وبيته الضرر والاعتداء

وأما الميت فلا يستطيع ذلك فحرم المشرع انتهاك حرمته

وفي الحديث : (( كسر عظم الميت ككسره حي ))

ومن يقول أن كسر عظم الحي اعتداء ليس بحرام

فتأكدت حرمة الميت في جسده وفي بيته ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم  لمن مشى على القبور بنعاله : (( يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك )) أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي

 

*- وهنا مسألة :

وهي إذا تعارضت مصلحة الحي مع مصلحة المقابر كالطرق والمساكن والمساجد فما هو المقدم وما هو الحل

والجواب :

إذا كانت مقبرة عامة للمسلمين فتقدم مصلحة المقبرة على مصلحة اﻷحياء وﻻ يحل الاعتداء على المقبرة من أجل مصلحة اﻷحياء

لأن حرمة الأموات في هذه البقعة سبقت وحظهم فيها متقدم وﻻ أعلم في هذا خلافاً

وإن بني مسجد أو بيت على هذه القبور فيجب هدمها والصلاة في المسجد باطلة

وإن كان قبراً مفرداً بعيداً من مقابر المسلمين

وتحققت الضرورة للحي بحكم الحاكم الشرعي جاز نقل القبر إلى المقابر ولكن ﻻ يكون ذلك إﻻ بحكم الحاكم الشرعي ( قاضي المسلمين )

وأما إن كان مسكن الحي أو المسجد متقدمان على المقبرة فإن القبور تنبش وتنقل إلى مكان آخر

 

والقبر ﻻ يجصص ( يعني استعمال الجص وهو يشبه الجبس مع اﻷسمنت اﻷبيض كانوا يستعملونه كما نستعمل اﻷسمنت اﻵن ) ويلحق به البلاط والرخام  

لأن  هذا إسراف وتبذير وإتلاف للمال في غير منفعة وأيضاً هو مظهر من مظاهر الغلو في القبور وساكنيها وهو ذريعة لعبادتهم من دون الله كما يحدث اﻵن ومن قبل اﻵن في شتى البلاد التي ضاع فيها التوحيد ودرست أعلامه

ولا حول  ولا  قوة إلا بالله

 

وﻻ يبني على القبور لنفس السبب السابق

ولو تذكر المسلم الحرص الشديد ممن غلو في القبور والمقبورين وحرصهم على بناء القباب والعكوف عندها وما يحصل هناك من مظاهر الشرك لتيقن أن منع ذلك هو منع لشر عظيم وفساد كبير

وﻻ توقد في المقابر السرج ( يعني اﻷنوار ) وإنما تستعمل عند الحاجة للدفن في الليل

وسبق بيان شدة تحريم بناء المساجد على القبور أو الصلاة إليها

 

وإذا مات الميت فيحسن تغسيله وتكفينه ثم الصلاة عليه وحمله إلى المقبرة وﻻ يشرع نقل الميت من البلد الذي مات فيه إلى غيره إﻻ أن يكون في بلد كفار وﻻ يوجد مقابر للمسلمين فينقل إلى أقرب بلد للمسلمين فيه مقابر

والسنة التعجيل بالدفن إﻻ لحاجة

وإذا أدخل إلى القبر فإنه يدخل رأسه أوﻻً ويوجه إلى القبلة وتحل عنه اﻷربطه ولكن ﻻ يكشف عن وجهه وﻻ غيره

والسنة في قبور المسلمين اللحد لقوله صلى الله عليه وسلم :

(( اللحد لنا والشق لغيرنا ))

وصفة اللحد أن يحفر القبر طوﻻً ويوسع فيه ثم يعمد إلى جهة القبلة فيحفر للميت ما يسعه ثم يوضع فيه

ويسن أن يرفع القبر عن اﻷرض بمقدار الشبر ويسنم وفائدة ذلك حتى يعرف أنه قبر فلا يداس لشدة التحذير من ذلك  

وأيضاً حتى إذا نزل المطر ﻻ ينزل إلى داخل القبر

نسأل الله لنا ولكم حياة طيبة في صحة أبدان وقوة إيمان وأن يتوفانا وهو راض عنا ويجعلنا ممن يختم له بخاتمة السعداء برحمته وهو أرحم الراحمين

 

وقوله صلى الله عليه وسلم : (( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )) :

وإذا كانت الحياة تنتهي بالموت والانتقال إلى القبور فلماذا قال :

(( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )) ما وجه الاستثناء

في ذلك أقوال :

*- اﻷول : أنه امتثال لقول الله تعالى : {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24]

*- والثاني : إنا لاحقون بكم في الإيمان لقوله تعالى : {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف:9]

وهذا بالنسبة له صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلمه الله بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر  وأما بالنسبة لغيره فالاستثناء على وجهه

*- الثالث : أن هذا الاستثناء ليس عن شك ولكنه للتحقيق ومعناه التفويض إلى الله ، وهو مثل قول الله تبارك وتعالى : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] فالاستثناء هنا للوجوب والتحقق وليس للشك

 

وقوله صلى الله عليه وسلم : (( وددت أنا قد رأينا إخواننا )) :

وددت : أي تمنيت وأحببت

وهذا يدل على جواز تمني لقاء الفضلاء والعلماء وأهل الخير والصلاح

وإخواننا هي أخوة الإيمان كما قال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]

وقال تعالى عن المـشركين الذين أمر بقتالهم : {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}  [التوبة:11]

وهي أخوة ﻻ تنفصم إﻻ بالردة عن اﻹسلام والعياذ بالله حتى لو حصل قتال بين المسلمين لقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}

 

وقوله : أو لسنا إخوانك يا رسول الله ؟

قال : (( أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ))

سؤال الصحابة y وجوابه لهم ﻻ يعني أنهم ليسو ا إخوانه بل هم إخوانه ويزيدون على اﻷخوة بالصحبة فهم إخوان وزيادة  

والصحبة منزلة ﻻ يبلغها أحد بعمل مهما عمل وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء

والصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ولو ساعة ومات على اﻷسلام ولو تخلل ذلك ردة

 

والصحابة كلهم عدول بتعديل الله ورسوله لهم وحبهم إيمان وبغضهم نفاق والواجب على من جاء بعدهم الترضي عنهم وحبهم وتوليهم وعدم الخوض فيما حصل بينهم في زمن الفتنة

مع الاعتقاد أنهم كلهم أئمة مجتهدون من أصاب منهم له أجران ومن أخطأ له أجر

قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]

 

وقوله في من لم يأت بعد من أمته : (( إخواننا ))

دليل للقاعدة أن المتأخر من أمة إذا وافق متقدمها في الاعتقاد والعمل أنه منهم وأن الخطاب الموجه للمتقدم موجه للمتأخر وﻻ فرق وهذه القاعدة شواهدها في القرآن كثيرة  كقوله تعالى موبخاً اليهود الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما فعله أسلافهم : {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة:50]

وآيات كثيرة معلومة

قوله : فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟

فقال : (( أرأيت لو أن رجﻻ له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم أﻻ يعرف خيله ))

وهذا يعني أنه ﻻ يعرفهم على التعيين وإنما يعرفهم على الوصف كما في قوله في الرواية الأخرى : (( سيما ليست لغيركم ))  يعني علامة خاصة بكم

 

ثم بين هذه العلامة بقوله صلى الله عليه وسلم : (( فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء ))

والغرة : بياض الوجه

والتحجيل : بياض القدمين واليدين من الوضوء

وهذا لأن الجزاء من جنس العمل فكما طهروا هذه اﻷعضاء لله في الدنيا وحسنوها لطاعته فإن الله يجازيهم بأن يجعلها زينة لهم يوم القيامة من بين الخلائق

وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنهما يطيلان الغرة والتحجيل ويقول أبو هريرة لما سئل عن ذلك : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

(( تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ))  

 

والوضوء كان مشروعاً في اﻷمم السابقة ويدل على ذلك حديث جريج العابد وفيه أنهم لما اتهموه بالزنا دعا بماء فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم طعن في جنب الغلام بأصبعه وقال : (( يا غلام من أبوك ؟ )) فقال : (( فلان الراعي )) 

 

وكذلك قصة سارة زوج إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع الجبار وفيه أنها توضأت وصلت ثم دعت الله فأنقذها الله من الجبار

وهذه الأحاديث في الصحيح

 

ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خصها الله بالغرة والتحجيل في وضوئها ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :

(( سيما ليست لغيركم )) وهو في صحيح مسلم

 

قوله صلى الله عليه وسلم : (( وأنا فرطهم على الحوض ))

الفرط هو : السابق يعني أنه سبقهم إلى الحوض فهو ينتظرهم عند حوضه صلى الله عليه وسلم

والنبي صلى الله عليه وسلم له حوض يوم القيامة يصب فيه ميزابان من نهر الكوثر الذي أعطاه الله في الجنة وعدد آنيته كعدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يضمأ بعدها أبداً

واﻹيمان بالحوض من مسائل الاعتقاد التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من الصحابة عشرون صحابياً وأجمع على اعتقاده أهل السنة والجماعة ولم ينكره إﻻ أهل الزيغ والضلال من المعتزلة والخوارج

 

وترد أمة محمد صلى الله عليه وسلم الحوض عليه صلى الله عليه وسلم يعرفهم بسيماهم التي سبق ذكرها وهو الغرة والتحجيل وفيهم منافقوا هذه الأمة الذين يظهرون اﻹيمان ويبطنون الكفر ولكن ﻷنهم كانوا في الدنيا يخادعون المؤمنين ويوهمونهم أنهم منهم وليسوا منهم خدعهم الله في ذلك الموطن فاقتربوا من الحوض حتى عرفهم النبي صلى الله عليه وسلم بسيما أمته ثم حيل بينهم وبينه ؛ ﻷنهم في الحقيقة ليسوا من أمته صلى الله عليه وسلم ولكنهم كانوا يخادعون أمته في الدنيا فمكر الله بهم كما كانوا يمكرون  

 

والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على حوضه يذود الناس ويبعدهم عن حوضه كما يذاد البعير الضال وذلك أن لكل نبي حوضاً يوم القيامة

فكل أمة تتبع نبيها وتشرب من حوضه ومن لم يكن مؤمناً ومتبعاً لنبي فلا يرد حوضاً من تلك الأحواض وأكبر أحواض اﻷنبياء هو حوض نبينا صلى الله عليه وسلم  

 

وقوله صلى الله عليه وسلم : (( أﻻ  ليذادن  رجال  عن  حوضي  كما  يذاد  البعير  الضال  أناديهم  أﻻ هلم ))

وهذا يعني أنه عرفهم على التعيين أو على الوصف فظن أنهم من أمته المؤمنين فلذلك يناديهم ويدعوهم فيؤخذ بهم ناحية الشمال فأقول :

(( أصحابي أصْحابي ))

وفي رواية : (( أُمتي أمتي ))

وفي رواية : (( إلى أين ؟ )) فتقول الملائكة : (( إلى النار والله ))

ويقال له : (( إنهم غيروا وبدلوا ))

وفي رواية : (( إنهم رجعوا القهقرى ))

أي نكصوا عن اﻹيمان وشرائع اﻹسلام

وهذا يدل على خطورة التغيير والتبديل واﻹبتداع واﻹستحسان في دين الله ما لم يأذن به الله

فكيف بمن يتبع هواه أو يتبع من يعظمه في تحليل الحرام وتحريم الحلال وتبديل شرائع الله

ولذلك قال حذيفة رضي الله عنه – وهو صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم الصحابة بالفتن – لما قيل له : متى يعلم الرجل أنه قد أصابته الفتنة ؟ قال :

( إذا رأيت اليوم حلاﻻً ما كنت تراه بالأمس حراماً فأعلم أن قد أصابتك الفتنة )

نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن

 

وإذا أخذ بهم إلى ذات الشمال يقال له : (( إنهم قد بدلوا بعدك ))

وهذا يعني أنه صلى الله عليه وسلم بعد موته ﻻ يعلم ما تحدثه أمته وتعمله من بعده وهذا يكشف ضلال ودجل الصوفية ومن شايعهم وتأثر بهم

من دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر احتفاﻻتهم ويشاركهم بنفسه وأن هذا مما لبسه عليهم الشيطان الذي أطاعوه من دون الله فأحدثوا في دين الله ما لم يأذن به الله

وقوله : (( فأقول سحقاً سحقا ))

أي : بعداً في مكان سحيق وكيف ﻻ يكون كذلك وهو قعر جهنم : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء:145]

ودعاؤه صلى الله عليه وسلم عليهم بذلك لأنه قد ظهر أمرهم وأنكشف حالهم وأنهم أعداء لله ولدينه ورسوله وليسوا أولياء فإنما أولياؤه المتقون كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم :

(( يلحد رجل في الحرم عليه  نصف  آثام العالمين  يزعم  أنه مني  وليس مني إنما أوليائي المتقون ))

فليست الأمور بالدعاوى ولا بالمظاهر وإنما بالحقائق واﻷعمال قال صلى الله عليه وسلم :

(( إن الله ﻻ ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ))

فهو يتبرأ منهم أحوج ما يكونون إلى شفاعته صلى الله عليه وسلم : {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]

فقد عاشوا في الدنيا في الكذب والتمويه والنفاق والخداع حتى ماتوا على ذلك فبعثهم الله عليه : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]

نسأل الله بمنه وكرمه أن ﻻ يكلنا إلى أنفسنا وأن يهدينا سواء السبيل

وبهذا انتهى الكلام على هذا الحديث الشريف العظيم

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه

 

 قال شيخنا رحمه الله – :

أخرج اﻹمام أحمد – رحمه الله – عن معاذ رضي الله عنه قال :أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعـشر كلمات  قال : (( ﻻ تشرك بالله شيئاً وإن قتلت وحرقت  وﻻ تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك  وﻻ تتركن صلاة مكتوبة متعمداً فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله  وﻻ تشربن خمراً فإنه رأس كل فاحشة  وإياك والمعصية فإن بالمعصية حل سخط الله عز وجل وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس  وإذا أصاب الناس موتان وأنت فيهم فاثبت  وأنفق على عيالك من طولك  وﻻ ترفع عنهم عصاك أدباً وأخفهم في الله ))

 

وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً معنوياً

فقد رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه ولفظه :

(( أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خلال ﻻ تشركوا بالله شيئاً وإن قطعتم أو حرقتم أو صلبتم  وﻻ تتركوا الصلاة متعمدين فمن تركها متعمداً فقد خرج من الملة  وﻻ تركبوا المعصية فإنها سخط الله  وﻻ تشربوا الخمر فإنها رأس الخطايا كلها ولا تفروا من الموت وإن كنتم فيه ولا تعص والديك وإن أمراك أن تخرج من الدنيا كلها فاخرج  وﻻ تضع عصاك عن أهلك وأنصفهم من نفسك ))

 

وأخرجه الطبراني كما في المجمع والضياء وغيرهما وإسناده حسن

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه وفيه : (( وﻻ تنازع اﻷمر أهله وإن رأيت أنك أنت ))  وأخرجه الطبراني وإسناده حسن  

وعن أميمة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها  وفيه : (( ولا تفرن من الزحف فمن فعل ذلك باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ، وﻻ تزدادن في تخوم أرضك فمن فعل ذلك يأتي به يوم القيامة على رقبته من مقدار سبع أرضين )) وأخرجه الطبراني وإسناده قابل للتحسين ففيه رجل وثقه البخاري وغيره وضعفه الجمهور

ويشهد له حديث أم أيمن عند أحمد ولكنه مختصر جداً

وهو عند عبد بن حميد مطولاً وفيه انقطاع

 

 

شرح الحديث   :

قوله : ( عن معاذ ) : هو معاذ بن جبل رضي الله عنه

ورد في فضائله أنه أعلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالحلال والحرام

وورد أنه يبعث يوم القيامة أمام العلماء برتوة : يعنى بدرجة  

وهذا يدل على إمامته للعلماء الذين هم ورثة اﻷنبياء وتقدمه عليهم

وكان رضي الله عنه إذا لقي الرجل من إخوانه أخذ بيده ويقول :

( تعال بنا نؤمن ساعة )

فيجلسان يتذاكران الحلال والحرام

وهذا على اعتقاد أهل السنة والجماعة أن اﻹيمان اعتقاد وعمل

ومن الاعتقاد اعتقاد تحريم ما حرم الله ورسوله وتحليل ما أحل الله ورسوله  

وأما العمل فظاهر وهو العمل بالحلال والحرام كما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

 

فالمؤمن الحقيقي وقاف عند أحكام الله وحدوده

فيحل ما أحل الله ورسوله ويحرم ما حرم الله ورسوله وما أشكل عليه توقف فيه

حتى يتبين أمره عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم :

(( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه أﻻ وإن لكل ملك حمى أﻻ وإن حمى الله محارمه ))

متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما

وقد كان السلف يتركون أبواباً من الحلال خوفاً من الوقوع في الحرام  

 

وكان معاذ رضي الله عنه قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على الملازمة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدنيه ويتعهده ويخصه بوصاياه لما يرى فيه من اﻷهلية لحمل العلم وتبليغه وأمانته على ما حمل ومن ذلك :

حديثه أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال : يا معاذ  

فقال : لبيك رسول الله وسعديك  فكرر ثلاثاً ثم قال : (( أتدري ما حق الله على العباد …  )) الحديث متفق عليه

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم له :

(( يا معاذ والله إني ﻷحبك أوصيك يا معاذ ﻻتدعن في دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ))

ومن ذلك حديثه الطويل قال :

كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماَ قريباَ منه ونحن نسير فقلت : يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار  

قال : (( لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسـره الله عليه :

تعبد الله ولا تشرك به شيئاً …. )) الحديث

ثم بين له أبواب الخير وجوامعه وهو حديث جامع أخرجه الترمذي وغيره

 

إذاً فهذا الحديث الذي نتدارسه اليوم وما بعده هو من ضمن ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه

ولكنه لم يخصه به بل وصى به غيره كما ذكرنا سابقاً في شواهد هذا الحديث ولو لم يرد إﻻ عن معاذ فلا يعني ذلك أن هذا خاص بمعاذ ؛ ﻷن الخصوصية ﻻبد لها من دليل

وأيضاً أن هذه الوصية مما هو ﻻزم لكل الخلق وفرض عليهم سواء استجابوا وعملوا بمقتضاها أو لم يعملوا

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم ووصيته في مثل هذه القضايا أمر ووصية لكل الأمة  

 

قوله : (( أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات ))  

وكما ذكرنا سابقاً فوصايا النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص بها أحداً دون أحد

فأبو هريرة رضي الله عنه يقول : (( أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم … )) الحديث وذكر جملة من الوصايا

وأبو ذر رضي الله عنه يقول أيضاً : (( أوصاني خليلي … )) الحديث ثم يذكر جملة كبيرة من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم 

وأبو الدرداء رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنهما وكثير من الصحابة y يوصيهم بأسمائهم ثم تلك الوصايا كلها وغيرها هي وصايا لأمته قاطبة صلى الله عليه وسلم

 

وقوله : (( بعشر كلمات ))

وهذا هديه صلى الله عليه وسلم في التعليم والتوجيه سواء لعامة الناس أو لخاصتهم تقليل الكلام وعدم اﻹكثار منه إﻻ بقدر الحاجة واستعمال جوامع الكلم

وقد أعطاه الله جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً

 

وجوامع الكلم : هو الكلام القليل المشتمل على المعاني الكثيرة العظيمة  

وسنته القولية صلى الله عليه وسلم كلها أمثلة حية شاهدة على ذلك

والسبب في ذلك أن كثرة الكلام يمل وطوله ينسي بعضه بعضاً مهما كان بليغاً ونافعاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه دينه فلا يمكن أن يمل السامع أو يثقل عليه في الفهم والاستيعاب

وكان الرجل يأتيه من البادية ويقول له :

قل لي في اﻹسلام قوﻻً ﻻ أسأل عنه أحداً بعدك

فلا يزيده على كلمتين وهما :

(( قل آمنت بالله ثم استقم ))

وتتأملها فإذا هاتين الكلمتين ﻻ تغادران من دين الله شيئاً ﻻ باطناً ولا ظاهراً  ولا واجباً مطلوباً ولا محرماً ممنوعاً

ويأتيه اﻵخر فيقول :

إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فدلني على عمل أتمسك به وأدخل الجنة … الحديث

وهكذا هو في هديه في الكلام تعليماً وتوجيهاً

 

وفي خطب الجمعة وغيرها من خطبه صلى الله عليه وسلم كما يقول الصحابي الذي أتى وافداً إليه قال :

فصلينا معه الجمعة فخطب خطبة بليغة كلمات طيبات مباركات تفهم وتحفظ عنه وينقلها السامع إلى قومه فينفعهم الله بها لأنها طيبات ومباركات وكان يقول حاثاً على التزام هديه القويم في ذلك :  (( إن قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنة من فقهه ))  فكل ما كان الخطيب أفقه كانت خطبته أقصر لموافقته لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فينال من طيب وبركة الاقتداء به كما كانت خطبته صلى الله عليه وسلم طيبة مباركة

 

وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :

(( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد الكلام كسردكم وإنما كان يتكلم كلاماً لو أراد العاد أن يعده لعده ))

وتقول أيضاً : (( كان إذا تلكم بالكلمة أعادها ثلاثاً ))

فقول معاذ رضي الله عنه في هذا الحديث :

(( أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات ))

موافق لهديه صلى الله عليه وسلم في التعليم والبيان

 

فإذا أراد الموفق من الدعاة أو الخطباء أو المحاضرين أو المعلمين أن يبارك له في دعوته وتعليمه وأن ينجح في مهمته وأن يلقى له القبول ويربي مدعويه تربية صالحة صحيحة فسبيل ذلك التزام هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم

ولكن يا أسفا فغالب الوعاظ والخطباء والمعلمين وغيرهم جعلوا همهم كثرة الكلام وزخرفته وتشقيق العبارات واستعمال غرائب اللغة حتى يملوا حديث أنفسهم ويملوا السامعين لهم

وهذا ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحدث في آخر الزمان :  ألا وهو فتح الكلام وخزن العمل  ، حتى أنك تجلس أحياناً مع عامي ﻻ يحسن وضوءه وصلاته وتسمع ما يبهر سحبان وائل من فصاحة وطلاقة في الكلام وكثرته  فتقول متعجباً  : إن لم يكن هذا ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح الكلام وخزن العمل فمتى وأين يكون ؟

 

فإذا انتقلت إلى ما يطلق عليه زوراً وسائل التثقيف المجتمعي فحدث وأعجب من كثرة الجرائد والمجلات وما دبج في صفحاتها التي ينوء بحملها العصبة أولوا القوة ولكنه غثاء ليس فيه غناء منزوع البركة ﻻ بارد وﻻ كريم مضيع للأعمار وقتال للأوقات

ولكن ما الحيلة وإنما صنع هذا الهراء والباطل ليلبي حاجات ملحة ودعوات متتابعة من أصحاب اﻷعمار واﻷوقات وهم يبحثون ويشترون بأموالهم ما يضيعون به الوقت فثقلت عليهم أوقاتهم وأعمارهم حتى بحثوا بأنفسهم عما يضيعها فيبحث أحدهم بضلفه عن حتفه وعند هذه الأحوال المؤلمة حقاً يحق لك أن تتمثل بقول اﻷول :

ﻻ يهمنك دم ضيعه أهله

 

ولكن اﻷمر كما يقول الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه :

(( إنكم – يعني أصحابه – في زمان قليل قراؤه كثير فقهاؤه …. وسيأتي زمان كثير قراؤه قليل فقهاؤه …… ))

فكأنه يتكلم ويصف زماننا هذا وما واﻻه والله المستعان

 

فاللهم فقهنا في كتابك وسنة نبيك وارزقنا الاستقامة على ذلك حتى نلقاك وأنت راض عنا وﻻ تكلنا إلى أنفسنا فنهلك

اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا ومن شر الشيطان وشركه

 

 

الوصية الأولى :

قال صلى الله عليه وسلم : (( ﻻ تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت )) .

وفي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن معاذاً أراد سفراً فقال : يا نبي الله أوصني

قال : (( اعبد الله ﻻ تشرك به شيئاً ))

قال : يا نبي الله زدني

قال : (( إذا أسأت فأحسن ))

قال : يا رسول الله زدني

قال : (( استقم وليحسن خلقك )) أخرجه ابن حبان والطبراني والحاكم

 

وفي حديث معاذ الآخر قال : أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال : (( لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسره الله عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئاً …… )) الحديث أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم

وهذه الوصية هي مراد الله من خلقه قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56]  أي : يوحدوني ﻻ يشركون بي شيئاً

وهذا المراد بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]  وقد سبق الكلام عليها في درسنا  في التفسير

 

ويقول تعالى : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]

وقال تعالى  : {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[الأنعام:151]

وآيات كثيرة في كتاب الله تؤكد هذا اﻷصل الذي خلق الله الخلق من أجله

 

وذلك أن هذا حق الله على عباده كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ :  (( أتدري ما حق الله على العباد …. حق الله على العباد أن يعبدوه وﻻ يشركوا به شيئاً ….. )) الحديث

وإذا كان هذا هو أعظم الحقوق فإن الإخلال به هو أعظم الظلم وأشنع الذنوب

ولما نزل قول الله تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :  أينا لم يظلم نفسه  فقال صلى الله عليه وسلم : ((  إنه ليس كما تقولون ألم تسمعوا قول الله تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ))

 

ولما سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم ؟  قال صلى الله عليه وسلم : (( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ……. )) الحديث

نعم هو أعظم الظلم وأشنع الذنوب أن يخلق الله الخلق ويرزقهم ويعافي أبدانهم ويدفع عنهم اﻵفات ثم يشركون معه في عبادته من ﻻيملك لنفسه وﻻ لهم ضراً وﻻ نفعاً وﻻ موتاً وﻻ حياةً وﻻ نشوراً أو ينكرون حقه ويتمردون على أمره

 

وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلمأصحابه أيرضى أحدكم أن يشتري غلاماً بماله ثم يقول له هذا عملي فاعمل وأد إليّ فكان يعمل ويؤدي إلى غيره فقال ليس منا من يرضى ذلك فكذلك العبد الذي يخلقه الله ويرزقه ثم يأمره الله بعبادته فيجعل عبادته وعمله لغير خالقه

وإذا كان هذا اﻷمر بهذه الخطورة فإن تحقيق هذا اﻷصل يحقق لصاحبه اﻷمن في الدنيا والآخرة والاهتداء في الدنيا والآخرة كما في اﻵية التي سبقت

 

فأما أمن الدنيا فسلامته في نفسه وماله لقوله صلى الله عليه وسلم :

(( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ﻻ إله إﻻ الله وأن محمداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إﻻ بحقها وحسابهم على الله ))

وأما في الآخرة فسلامتهم من النار ودخولهم الجنة

قال تعالى : {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]  

ويحصل لهم بتحقيق هذا اﻷصل دخول جنة الدنيا التي من لم يدخلها ﻻ يدخل جنة الآخرة أﻻ وهي حلاوة اﻹيمان ولذته وطعمه

قال صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة اﻹيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء ﻻ يحبه إﻻ لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ))

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً ))

وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ﻻ تشرك بالله وإن قتلت وحرقت ))

لأن إشراكك بالله سيكون مآله دخول النار ووقوع العذاب الذي ﻻ نهاية له والذي ﻻ تطيقه الجبال وﻻ السماوات واﻷرض

بينما عذاب الدنيا لو حصل فسينتهي وتنتهي آلامه ويعقبه النعيم المقيم

فمن يشتري عذاب وتحريق الخلد الأبدي الذي ﻻ يخف وﻻ ينتهي بل يزداد بتعذيب ساعة تنتهي برحمة وراحة أبدية ؟

 

وهذه الحقيقة الكبرى لما تحققها عباد الله المصطفين اﻷخيار هان عليهم ما يلقون في سبيلها فقتل اﻷنبياء كما قال تعالى : {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة : 87]

وعذب المؤمنون فقص الله علينا القصص في كتابه ﻷخذ العبرة فقص الله قصة أصحاب اﻷخدود حيث خدت لهم اﻷخاديد في أفواه السكك والطرقات وأججت فيها النيران فمن رجع عن دينه وإﻻ ألقي فيها فوقعوا راضين بعذاب الدنيا للسلامة من عذاب اﻵخرة

  

ولما  شكا  أصحاب  النبي  صلى الله عليه وسلم  إلى  رسول  الله  صلى الله عليه وسلم  ما  يلقون  من  تعذيب  المشركين  وقالوا : ألا تدعوا وتستنصر لنا  غضب وقال :  (( قد كان الرجل ممن كان قبلكم يؤتى به فينشر ما بين مفرق رأسه إلى ما بين رجليه ﻻ يرده ذلك عن دينه  وكان الرجل يمشط بمماشط الحديد المحمى في النار ما بين لحمه وعظمه ﻻ يرده ذلك عن دينه …. )) الحديث

 

فهانت على المؤمنين نفوسهم لله لما يعلمون من شدة عذاب الله لمن أشرك بالله فإنه يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار فيغمس في العذاب غمسة ثم يخرج فيقول : هل مر بك نعيم قط ؟ هل رأيت نعيماً ؟ فيقول : وعزتك يا رب ما مر بي نعيم قط .

هذا وهو أنعم أهل الدنيا أنسته غمسة في عذاب اﻵخرة كل نعيم الدنيا

 

الوصية الثانية [7] :

قال صلى الله عليه وسلم : (( وﻻ تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ))

ويؤكد هذه الوصية أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما تزوج امرأة فأمره أبوه أن يطلقها فسأل ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( أطع أباك )) أخرجه أحمد بإسناد صحيح

وفي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : أتى أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي يريد أن يجتاح مالي قال : (( أنت ومالك لأبيك إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أموال أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئا )) أخرجه أحمد من طرق كثيرة وكلها صحيحة  

وقد ورد عن عدد من الصحابة بأسانيد صحيحة  عن أم المؤمنين عائشة وجابر وابن مسعود وفيه قصة طويلة وسمرة رضي الله عنهم جميعا

فهذه اﻷحاديث وغيرها تدل على عظيم حق الوالدين على ولدهما

ولعظيم حق الوالدين قرن الله برهما وحقهما بحقه سبحانه في أعظم حقوقه وهو توحيده في آيات كثيرة

فقال سبحانه : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء : 36]

وقال تعالى : {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}  [الأنعام:151]

وقال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] وآيات كثيرة تؤكد هذا المعنى وتدل على عظيم هذا الحق

 

وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً الكثير ومن ذلك اﻷحاديث التي ذكرناها هنا قبل قليل ومن ذلك :

قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟

قال : (( الصلاة على وقتها )) قال قلت : ثم أي ؟ قال : (( ثم بر الوالدين …. )) الحديث أخرجه البخاري ومسلم  

وفي رواية : (( الصلاة في أول وقتها )) وإسنادها صحيح

وفي المقابل فإن عقوق الوالدين من أعظم الكبائر عند الله لما سأل ابن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم ؟ قال : (( أن تجعل لله نداً وهو خلقك )) قلت : ثم أي ؟  قال : (( عقوق الوالدين ))

وفي الحديث اﻷخر قال صلى الله عليه وسلم :

(( ألا أخبركم بأكبر الكبائر اﻹشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور … ))

وعقوق الوالدين سبب في الحرمان من الجنة ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم :  (( ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : مدمن خمر ، والعاق ، والديوث الذي يقر في أهله الخبث )) أخرجه أحمد وغيره

 

وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم :  (( ثلاثة ﻻ يقبل الله منهم يوم القيامة صرفاً وﻻ عدﻻً : عاق  ومنان  ومكذب بالقدر )) أخرجه الطبراني وغيره بإسناد حسن

 

ومكانة الوالد عند الله بمكان رفيع ومن ذلك أن دعاءه لولده مستجاب ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم :

(( ثلاث دعوات مستجابات ﻻ شك فيهن : دعوة الوالد على ولده ودعوة المسافر ودعوة المظلوم )) أخرجه أحمد وأصحاب السنن إﻻ النسائي

وفي رواية عند ابن ماجه : (( ودعوة الوالد لولده ))

وفي حديث أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم  :

(( ثلاث دعوات ﻻ ترد : دعوة الوالد لولده ودعوة الصائم ودعوة المسافر ))

 

فنسأل الله أن يرزقنا وجميع المسلمين البر وأن يجعلنا من أهله

 

 

الوصية الثالثة :

قال صلى الله عليه وسلم :

(( وﻻ تتركن صلاة مكتوبة متعمداً فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ))

وفي حديث أميمة رضي الله عنها : (( فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ))

وفي حديث عبادة رضي الله عنه : (( فمن تركها متعمداً فقد خرج من الملة ))

وفي حديث جابر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : (( بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة )) أخرجه مسلم

وفي حديث بريدة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي بإسناد صحيح

 

ومسألة كفر تارك الصلاة دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة والتابعين

– فأما كتاب الله فآيات كثيرة  منها :  

 قول الله تعالى عن قتال المشركين : {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}  [التوبة:5]

وقال تبارك وتعالى : {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}[التوبة 11]

وقال سبحانه في جواب الكافرين في النار لمن سألهم من المؤمنين : {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} [المدثر]  وغيرها من الآيات

 

– وأما السنة فما ذكرنا من اﻷحاديث وغيرها كثير

– وأما إجماع الصحابة y فقد نقله عنهم عبد الله بن شقيق حيث قال :

لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعدون ترك شيئاً من اﻷعمال كفر إﻻ الصلاة

وأما إجماع التابعين فقد نقله محمد بن نصر في كتاب الصلاة  

ويؤيد حديث معاذ في كفر من ترك صلاة واحدة متعمداً قوله صلى الله عليه وسلم :

(( من ترك صلاة العصر حبط عمله )) أخرجه البخاري وأحمد والنسائي عن بريدة رضي الله عنه

ومعلوم أنه ﻻ يحبط العمل إﻻ الكفر والشرك وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في من تعمد أن يترك الصلاة حتى تكون الشمس بين قرني الشيطان قال صلى الله عليه وسلم :

(( تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى تكون بين قرني شيطان فيقوم ينقرها أربعاً ﻻ يذكر الله فيها إلا قليلاً ))

أخرجه مسلم عن أنس رضي الله عنه وفيه قصة تدل على فقه هذا الحديث وسأذكرها للفائدة :

قال العلاء بن عبد الرحمن ( الراوي عن أنس ) أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر وداره بجنب المسجد فلما دخلنا عليه قال : أصليتم العصر ؟ فقلنا له : إنما انصرفنا الساعة من الظهر . قال : فصلوا العـصر فقمنا فصلينا  فلما انصرفنا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( تلك صلاة المنافق … )) الحديث

وهذا كله كما هو واضح وبين فيمن تركها عمداً من غير عذر وأما أهل الأعذار فلا يشملهم هذا الوعيد

 

والصلاة أول ما يحاسب به العبد من عمله ففي حديث أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم :

(( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله )) أخرجه الطبراني في اﻷوسط والضياء وهو حديث صحيح

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : (( أول ما يحاسب به العبد الصلاة …. )) أخرجه النسائي وغيره بإسناد صحيح

 

الوصية الرابعة :

قال صلى الله عليه وسلم : (( وﻻ تشربن خمراً فإنه رأس كل فاحشة ))

الخمر كل ما خامر العقل أي غطاه وحجبه عن اﻹدراك وعطله عن الوعي قال صلى الله عليه وسلم : (( كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ))  أخرجه مسلم وأحمد من حديث ابن عمر

وفي الحديث المتواتر قال صلى الله عليه وسلم : (( كل مسكر حرام )) رواه اثنا عشر صحابياً عن النبي صلى الله عليه وسلم

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم :

(( كل مخمر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً فإن تابَ تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال صديد أهل النار ومن سقاه صغيراً ﻻ يعرف حلاله من حرامه كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال )) أخرجه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح

وفي حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما الذي أخرجه أحمد والترمذي وحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم :

(( من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاًفي رواية : ( يوماً )فإن تابَ تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن تابَ تاب الله عليه  فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً  فإن تابَ تاب الله عليه  فإن عاد الرابعة لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال ))

 

وفي رواية في حديث عبدالله بن عمرو : ( في الثلاث اﻷولى )

قال : (( فإن مات دخل النار ))

وفي آخره قال بعد الثالثة :

(( فإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة : عصارة أهل النار ))

 

وفي الحديث المتواتر قال صلى الله عليه وسلم : (( من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد الثانية فاجلدوه فإن عاد الثالثة فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه ))

رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عـشرة من الصحابة

وفي المستدرك قال عن نفر من الصحابة ولم يذكر عدداً  

فهذه اﻷحاديث وغيرها كثير تدل دﻻلة قاطعة ﻻ تقبل تأويلاً أن الخمر مما حرم الله على عباده بل من أعظم المحرمات وتحريمها ثابت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم وإلى أن يرث الله اﻷرض ومن عليها

– ففي كتاب الله قال الله تعالى وتقدس : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة]

 

ودلالة الآية على تحريم الخمر من وجوه مختلفة :

الوجه الأول :

أن الله قرنها باﻷنصاب وهي ما ينصب لعبادته من دون الله

واﻷزﻻم وهي القداح التي كانوا يستقسمون بها عند إرادتهم إنفاذ أمر أو تركه فيفوضون لها أمورهم من دون الله

والميسر وهو من أكل أموال الناس بالباطل وهذه الثلاث كلها من كبائر الذنوب بل إن الأنصاب واﻷزﻻم من الشرك الأكبر فقرن الخمر بهذه الكبائر يدل على أنها من كبائر المحرمات ودﻻلة الاقتران حجة عند كثير من العلماء

 

الوجه الثاني :

قوله عن الخمر والميسر واﻷنصاب واﻷزﻻم : {رِجْسٌ} والرجس هو الخبث وأكثر ما يطلق على النجس المحرم

 

والوجه الثالث :

قوله عن المذكورات :   {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}وهذا وﻻ شك أنه مبغوض لله فإن الشيطان عدو لله وﻻ يأتي منه إﻻ الكفر والفسوق والعصيان فإذا كانت المذكورات من عمله تيقن المسلم أنها من أشد المحرمات ومن أخبث النجاسات وأشنع المنكرات

 

 

والوجه الرابع :

قوله : {فَاجْتَنِبُوهُ} وهو أمر يقتضي الوجوب والاجتناب أعم وأشمل من الشـرب أو غيره من الاستعماﻻت فإن الاجتناب يشمل الشـرب ومقدماته وتوابعه ، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :  (( لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها )) أخرجه أبو داود والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما

 

الوجه الخامس :

قوله : {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وضد الفلاح الخسران ومعلوم أن ما يؤدي لفلاح المسلم من اﻷعمال فهو واجب وما يؤدي إلى خسار المسلم فهو محرم فترك المذكورات واجب وفعلها محرم

 

الوجه السادس :

قوله : {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}  فهذا مراد الشيطان من تزيين هذين المحرمين – الخمر والميسر – إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين  وهذا عكس مراد الله فالله يقول : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات:10]  

ويقول تعالى وتقدس : {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( … ولن تؤمنوا حتى تحابوا ))

وهذه مسألة أوضح من أن يتكلم فيها أن ما عاكس مراد الله في عباده المؤمنين وزرع بينهم العداوة والبغضاء أنه من المحرمات

الوجه السابع :

قوله : {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ}

وهذا الوجه أوضح من أن يعلق عليه فمعلوم أن الصلاة أعظم أركان اﻹسلام بعد الشهادتين وأن من ﻻ صلاة له فلا دين له

وذكر الله هو حياة القلوب ومنبع اﻹيمان وأساسه فإذا ضيعه العبد فماذا يبقى له من دينه

 

الوجه الثامن والأخير :

قوله : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}   فهذا تهديد مخيف رهيب ولذلك لما سمعه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صاحوا في الحال بأعلى أصواتهم انتهينا انْتهينا ، خافوا أن ينزل بهم بأس الله قبل أن يتمكنوا من الرد

لكنها قلوب أحياها الله بذكره فهي على وجل من بأس الله  يقول أنس بن مالك رضي الله عنه : (( كنت أسقي أبا طلحة وجماعة الفضيخ وهو خمر من التمر والبسر فسمعنا منادياً ينادي : أﻻ إن الخمر قد حرمت  قال أنس : فوالله ما ردوها إلى أفواههم  وقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها . قال : فقمت إلى مهراس لنا فضربته بأسفلها ))

ولم يتلكعوا ولم يتحذلقوا ويقولوا نغسلها ونستفيد منها في غير الخمر مع قلة اﻷواني عندهم وقلة ذات اليد ولكنه اليقين واﻹيمان الذي باشر القلوب وصدقته اﻷعمال وليس مجرد الدعاوى الكاذبة الفارغة فرضي الله عنهم وأرضاهم

 

 

 

الوصية  الخامسة :     

قال صلى الله عليه وسلم : (( وإياك  والمعصية  فإن  بالمعصية  حل  سخط  الله  عز وجل )) 

فإذا  تذكر   المسلم   أن  الذي  أوجب 

لإبليس  لعنة  الله  وطرده  من  رحمة  الله  أبد  الآبدين   هو  معصيته  لله  واستكباره   عن  أمر  الله   ومعاندته  لله

 وأن  الذي  أخرج  آدم  من  الجنة  التي  لا نصب  فيها  ولا  تعب   وأنزله  إلى  الأرض  دار  التعب  والعناء  والنصب  هو   معصيته  لله   وأكله  من  الشجرة 

فكانت  معصية  إبليس  شبهة   شيطانية  ومعصية  آدم  شهوة  بشرية 

علم   وتيقن   أن  الله   لا  يظلم  أحدا  وإنما  يؤخذ   المخلوق  بجريرته   وذنبه  وإنما  ينال  فضل  الله  ورحمته  بطاعته  والخضوع   لأمره  فلم  يغرق  قوم  نوح   إلا  معصيتهم   وكفرهم   ولم  يهلك  فرعون   إلا  طغيانه  وتكبره   وتجبره   ولم  يهلك  الأمم  التي  قص  الله  قصصهم   في  كتابه   إلا  جرأتهم   على  محارم  الله  وارتكابهم  المعاصي  والمحرمات علم   يقينا   أنه  لن  يخذله   في  عاقبته   إلا  مخالفته  ومعصيته   لله ولا  يظلم  ربك   أحدا 

وليتذكر  قول  الله  تعالى  في  الحديث  القدسي   الذي  أخرجه  الإمام  مسلم  في  الصحيح   : (( … يا عبادي  أنما  هي  أعمالكم  أحصيها   لكم  ثم  أوفيكم  إياها    فمن  وجد  خيرا   فليحمد  الله  ومن  وجد  غير  ذلك  فلا  يلومن  إلا  نفسه  ))

والله  المستعان  ولا حول  ولا  قوة   إلا  بالله 

 

 

 

 

الوصية   السادسة  :

قال   صلى الله عليه وسلم   : (( وإياك  والفرار   من  الزحف  وإن  هلك  الناس  ))

قال  الله  تعالى  : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ  وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [الأنفال:16]

وفي  الحديث المتفق  عليه  عن أبي  هريرة  رضي الله عنه   قال  رسول  صلى الله عليه وسلم : (( اجتنبوا  السبع  الموبقات   ………….   والتولي   يوم  الزحف … ))  الحديث

 

وهو   الفرار  من  المعركة   مع  الكفار   ومن   وجب   وتعين   على  المسلمين   قتاله   كالفئات   الباغية   كالخوارج   وغيرهم   من  المارقين   المفسدين   في  الأرض لما  في  ذلك  من  إدخال  الوهن   في  نفوس   المؤمنين  وبث   الإعتزاز  والنعرة  والتعالي  في  نفوس  الكافرين  والمفسدين   

 

وقد  بين  الله  في  الآية   الكريمة   عقوبة  من  فر  من  الزحف   أي   عند  مواجهة  العدو وأن  ذلك  سبب  في  غضب  الله  عز  وجل  على   من  ارتكب   هذه  الموبقة  وأن  مآله   جهنم  وبئس   المصير 

نسأل   الله  العافية  والسلامة  من  أسباب   غضبه

 

 

 

 

 

 

الوصية  السابعة

قال  صلى الله عليه وسلم   : (( وإذا  أصاب   الناس  مَوتان   وأنت  فيهم  فاثبت ))

والموتان   هو   الموت   العام   نتيجة   الأوبئة   والطواعين   وأمثالها   كالكوليرا   وكورونا    نسأل   الله  لنا  وللمسلمين  السلامة   والعافية  

وقد  ورد  في  شأنها  أحاديث  صحيحة   تبين  ما  يجب   على  المسلم  عند  وقوعها   فمن  ذلك  :

ما  أخرجه   البخاري  ومسلم  من  حديث  أسامة  بن  زيد  رضي  الله  عنهما  قال    : قال  صلى الله عليه وسلم  : (( إذا سَمِعْتُمْ بالطَّاعُونِ بأَرْضٍ فلا تَدْخُلُوها، وإذا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بها فلا تَخْرُجُوا مِنْها ))  

ومن  ذلك  ما  أخرجاه  في  الصحيحين   من  حديث  ابن  عباس  رضي  الله  عنهما

أن  عمر بن الخطاب رضي الله عنه  خرج  إلى  الشام  حتى  إذا  كان  بسرغ   لقيه  أمراء  الأجناد  أبو  عبيدة بن الجراح  وأصحابه  فأخبروه  أن  الوباء  قد  وقع  بأرض  الشام

قال  ابن  عباس  فقال  عمر :  ادع  لي  المهاجرين  الأولين    فدعاهم   فاستشارهم  وأخبرهم   أن  الوباء  قد  وقع  بالشام  فاختلفوا ، فقال  بعضهم :  قد  خرجت  لأمر   ولا  نرى  أن  ترجع  عنه  ، وقال  بعضهم : معك  بقية  الناس  وأصحاب  رسول  الله  صلى الله عليه وسلم   ولا  نرى  أن  تقدمهم  على  هذا  الوباء  ، فقال : ارتفعوا  عني

ثم  قال : ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم ، فقال : ارتفعوا  عني ، ثم  قال : ادع   لي  من  كان  هنا   من  مشيخة   قريش  من  مهاجرة  الفتح فدعوتهم   فلم  يختلف  منهم  عليه  رجلان  فقالوا :  نرى  أن   ترجع  بالناس  ولا  تقدمهم   على  هذا  الوباء ، فنادى  عمر  في  الناس  إني  مصبح   على  ظهر   فأصبحوا  عليه ، قال أبو  عبيدة   ابن  الجراح  : أفرارا    من  قدر  الله  ، فقال  عمر : لو  غيرك   قالها يا  أبا  عبيدة  ، نعم  نفر  من  قدر  الله  إلى  قدر  الله  ، أرأيت  لو كان  لك  إبل  هبطت واديا  له  عدوتان  إحداهما  خصبة  والأخرى  جدبة أليس  أن  رعيت  الخصبة  رعيتها  بقدر  الله  وإن  رعيت  الجدبة  رعيتها  بقدر  الله  ، قال : فجاء  عبد الرحمن بن  عوف   وكان  متغيبا  في  بعض  حاجته  فقال : إن  عندي  في  هذا  علما  سمعت  رسول  الله  صلى الله عليه وسلم  يقول  : (( إذا  سمعتم  به  بأرض   فلا  تقدموا  عليه  وإذا   وقع   بأرض  وأنتم  بها  فلا  تخرجوا  فرارا   منه )) قال : فحمد  الله  عمر   ثم  انصرف

فالمؤمن  يجب  أن  تكون  عقيدته  راسخة   في  أنه  لن  يصيبه   إلا  ما  قد  قدره  الله  عليه  وأن  الله  قد  قدر  المقادير   قبل  أن  يخلق  السماوات   والأرض   بخمسين  ألف  عام 

ولا  يمنع   ذلك  الأخذ  بالأسباب  وفي  ذلك  يقول  صلى الله عليه وسلم  : (( لا عدوى  ولا  طيرة  ولا  هامة   ولا  صفر وفر من  المجذوم  كما تفر من  الأسد ))علقه   البخاري  في  الصحيح  مجزوما  به  ووصله  غيره   وهو  حديث  صحيح 

فالواجب  على  المسلم   أن   يؤمن  بالقضاء  والقدر  وأن   يتيقن  أن  ما  أصابه   لم  يكن  ليخطئه   وما  أخطأه  لم  يكن  ليصيبه  رفعت  الأقلام  وجفت  الصحف 

كما  في  حديث  ابن  عباس  رضي  الله  عنهما 

وقد  أفاد  حديث  عبدالرحمن  بن  عوف 

أن  من  خرج  من  الأرض   التي  وقع  بها  الطاعون   والمسلم   إذا  خرج   لحاجة 

ولم  يكن  خروجه   هروبا  من  الوباء   فلا  بأس  وإنما  الممنوع  أن  يخرج  خوفا  من  المرض  فنسأل  الله  لنا  ولجميع  المسلمين   اليقين   والعافية 

 

 

الوصية   الثامنة   والتاسعة   والعاشرة :

قال  صلى الله عليه وسلم   : (( وأنفق على عيالك من طولك ولا ترفع عنهم عصاك أدبًا واخفهم  في  الله ))

وهذه   الثلاث   في  أمر  واحد   وهو  ما  يتعلق   بحقوق   العيال   من  أهل  وذرية 

وهؤلاء  لهم  حقوق  وواجبات  فرضها  الله  عز  وجل   وسيسأل  عنها  ويحاسب  عليها وقد  وردت في  كتاب  الله  الأوامر  والنواهي   فيما  يتعلق  بهذا   الواجب  العظيم 

فمن  ذلك   قول  الله  تعالى  : {  وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ } [طه:132]

وأثنى   الله  على   أنبيائه   عليهم   السلام  لقيامهم   بهذا  الواجب 

فقال  تعالى  :  { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}[مريم ]

وقال  عن  إبراهيم  عليه  السلام  أنه  كان  يدعو   فيقول  :  {  رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]

وحذر   الله   من  فتنة  الأزواج   والأولاد   وأن   إهمال  حق  الله  وما  أجبه   على  عبده  من  أجلهم  يؤدي  إلى  سوء   الخاتمة

قال  تعالى   :  { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ }[التغابن : 14]

 

 

 

وفي  سنة  النبي  صلى الله عليه وسلم  وردت  الأحاديث   بالعناية  بهذا  الواجب  العظيم  أمرا  للأهل  بطاعة  الله ونهيا  لهم  عما  حرم  الله 

 

فمن  ذلك  قوله  صلى الله عليه وسلم  :

(( سبحان  الله   ماذا  أنزل  الليلة  من  الفتن  وماذا  فتح  من  الخزائن   أيقظوا  صواحب  الحجر   فرب  كاسية  في  الدنيا  عارية  يوم  القيامة  ))

أخرجه  الإمام  البخاري  في  الصحيح  من  حديث  أم  المؤمنين  أم  سلمة  رضي  الله  عنها 

 

وفي  جانب  حجزهم  عما  حرم  الله  عليهم  ما  أخرجه  البخاري  ومسلم   من  حديث  أبي  هريرة  رضي الله عنه  قال :  أخذ   الحسن  بن  علي   تمرة  من  تمر  الصدقة  فوضعها  في   فيه   فقال  النبي  صلى الله عليه وسلم : (( كخ   كخ )) ليطرحها  ثم  قال : ((  أما  شعرت   أنا  لا  نأكل  الصدقة  ))

 

وأمر   الآباء   بقوله   صلى الله عليه وسلم   : (( مروا  أولادكم  بالصلاة  وهم  أبناء  سبع   واضربوهم   عليها  وهم  أبناء  عشر  وفرقوا  بينهم  في  المضاجع  ))

أخرجه  احمد وأبو داود  من  حديث  عبدالله  بن  عمرو  رضي  الله  عنهما 

 

وهذا  يدخل  في  عموم  قول  الله  تعالى   : {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ  }[التحريم:6]

 

 

وقوله صلى الله عليه وسلم  : ((  واضربوهم  عليها  وهم  أبناء  عشر  ))

دليل   على  مشروعية  التأديب  لمن  لم  يعمل  بالنصح  والتوجيه  على  أن  يكون  ضربا  للتأديب   وليس  للتعذيب  فإن  كفت  الكلمة  فلا  يستعمل  الضرب  وإن  احتيج  إلى  الضرب  فيكون  ضربا   للتأديب   وليس  للتعذيب  وفي  الحديث  قال  صلى الله عليه وسلم  : (( علقوا  السوط  حيث  يراه  أهل  البيت  فإنه  أدب  لهم  ))

أخرجه  الطبراني  في  الكبير   وغيره  من  حديث  ابن  عباس  رضي  الله  عنهما 

وإسناده  حسن 

 

فهذه  أوامر  الله  في  كتابه   وتوجيهات  رسول  الله  صلى الله عليه وسلم   في  وجوب   القيام   بهذا  الواجب  العظيم 

وهو  حق   للأهل  والأبناء   وسيقف  الوالد  ومن  في  حكمه  بين  يدي  الله  وسيحاسب  على  تقصيره  في  هذا  الباب  إن  قصر   والله  المستعان 

 

ونسأل  برحمته  أن  يتقبل الأعمال  والأقوال  وأن  يجعلها  خالصة  لوجهه  الكريم 

تمت  والحمد  لله  أولا  وآخرا  وظاهرا   وباطنا   وصلى  الله  وسلم  على  عبده  ورسوله  محمد  وعلى  آله  وصحبه 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته )) تأمل هذا الحديث واعرضه على الواقع

 

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خير الناس قرني

فهل هذه الخيرية مردها إلى رغد العيش وتوفر أسباب الرفاهية من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ومركب

أو مردها إلى توفر اﻷمن وزوال خطر اﻷعداء أو مردها إلى الصحة التامة في اﻷبدان وخلو الزمان من اﻷمراض واﻷسقام

إن واقع زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال تأمل حاله صلى الله عليه وسلم قد نقل بدقة متناهية ولم يغادر منه قليلاً ولا كثيراً فقد كان يعصب على بطنه الحجر من الجوع

وكان يمر هلال ثم هلال ثم هلال ﻻ يوقد في بيوته ناراً وإنما كان قوتهم الماء والتمر وكان كما وصف نفسه :

(( عبداً يجوع يوماً فيصبر ويشبع يوماً فيشكر ))

 

ومات لم يشبع من خبز الشعير ثلاثة أيام متتاليات كما حدثت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

وكان يلبس الصوف والخشن من الثياب ويفترش الحصير حتى يؤثر ويعلم في جنبه

وأما اﻷمن فقد حاربه العرب والعجم والروم ورموه جميعاً عن قوس واحدة وحتى أقرب الناس إليه وعشيرته التي كان يجب أن تؤويه وتكون عوناً له في تبليغ دين الله كانوا أشد الناس عليه

ومكر به اليهود والمنافقين أشد المكر وكادوا له أعظم الكيد ومر عليه ما أخبر الله به في قوله :

{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}[الأحزاب]

وأما الصحة فقد سئلت أم المؤمنين عائشة وقيل لها : ما علمك بالطب ؟ فقالت : (( لقد كثرت اﻷمراض على رسول الله فكان أطباء العرب يصفون له الدواء فكنت أعالجه فهو من ذاك )) أو كما قالت

وكان يشتد عليه المرض فكان يوعك كما يوعك الرجلين ووضع له السم في ذراع الشاة وسحره رجل يهودي

 

وهنا يخلص المفتون بزخارف الحياة الدنيا والذي يعيش في واقع اختلت موازينه وانقلبت مفاهيمه فيرى السعادة جمع مال والخيرية زخرفة المتاع والثياب والرفعة التغالي في قيمة ما يركبه من الحديد إلا أن الخيرية التي يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ليست بسبب شيء مما ذكر

 

وبالتدبر نجد أن الله قد بعث محمداً ليخرج الناس كافة من الظلمات إلى النور ويهديهم صراطاً مستقيماً ﻻ اعوجاج فيه وكان بالخلق رؤفاً رحيماً قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}  [الأنبياء:107]

جاء في حالة من التفرق والاختلاف والعداوات والشحناء في كل شيء في الدين والدنيا تلاعبت بهم الشياطين واجتالتهم عن صراط الله المستقيم كما في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم في صحيحه :  (( …… وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً وإن الله نظر إلى أهل اﻷرض فمقتهم عربهم وعجمهم إﻻ بقايا من أهل الكتاب ……….. )) الحديث

فعبدوا الشياطين من دون خالقهم ورازقهم وأطاعوهم في كل ما أمروهم به من قطيعة الأرحام وارتكاب الفواحش والظلم والعدوان فأصبحوا كالوحوش الكاسرة ﻻ يردهم وﻻ يمنعهم من الظلم والعدوان إلا العجز فلا دين يردعهم وﻻ واعظ من الله يمنعهم وﻻ شريعة ربانية عادلة تحكمهم فأصبحوا كوحوش الغاب يأكل قويهم ضعيفهم وهذا حال البشرية قاطبة حتى من كان له ملك متوارث ودولة متحكمة

فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وأنزل له كتاباً يهدي إلى الحق وصراطاً مستقيماً لم يترك خيراً إﻻ دعا إليه ولم يترك شراً إﻻ حذر منه فعم الخير وزكت النفوس وطهرت اﻷخلاق وحل اﻹيمان ودحر الكفر والطغيان وسطع نور العلم وانقشع ظلام الجهل حتى أكمل الله دينه وأتم نعمته ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استقامت الملة العوجاء وظهرت المحجة البيضاء فترك الناس عليها غير ملتبسة إﻻ على من أعرض عنها

 

وكان قرنه صلى الله عليه وسلم خير القرون بما خص الله ذلك القرن من وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تحقق من كمال الدين وتمام النعمة وتحول العداوة والتنافر إلى ألفة وأخوة ومحبة ونجاة من النار وسلوك سبيل الجنة والمغفرة وذلك حصل بسبب الاستجابة لله والرسول لما دعا إلى الحياة السعيدة والنجاة الأكيدة

فعمرت القلوب بمحبة الله وساقهم إلى نجاتهم خشية الله وساروا على سبيل رجاء الله فتحقق اﻹيمان فحل عليهم اﻷمن والاهتداء

ثم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أضاء من اﻷرض كل شيء كما في حديث أنس رضي الله عنه

: (( لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء ))  قال : (( وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اﻷيدي حتى أنكرنا قلوبنا ))

أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه بإسناد على شرط الشيخين كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير – رحمه الله

فنقص الخير بموت النبي صلى الله عليه وسلم وبانقطاع الوحي اهتزت القلوب هزات شديدة يقول أبي بن كعب رضي الله عنه : (( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما وجهنا واحد فلما قبض نظرنا هكذا وهكذا )) أخرجه ابن ماجه بسند على شرط مسلم إن كان الحسن سمع من أبي كما ذكر ذلك البوصيري

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنة لأمته ففي صحيح مسلم والمسند عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة ﻷصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة ﻷمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ))

 

ونقص الخير بانقطاع الوحي من السماء فبالوحي حياة القلوب وزكاة النفوس

قال تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]

فالوحي روح وأي حي ﻻبد له من روح ، وفهم الصحابة y عظيم النقص بانقطاع الوحي من السماء

فهذه أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل إليها أبو بكر وعمر يزورانها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها فتبكي . فيقولان لها : (( إن ما عند الله خير لنبيه صلى الله عليه وسلم . قالت : إني ﻻ أبكي أن ﻻ أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أن الوحي انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان )) أخرجه مسلم في صحيحه

ومع ذلك كله فقد بقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رباهم بالوحي على عين الله حتى حييت قلوبهم واستنارت أرواحهم وزكت أخلاقهم

وكانوا قد عاشوا ظلام الجاهلية وشرها فلما جاء الإسلام وردوا نبعاً صافياً فترووا واستقاموا بعد اعوجاج واستناروا بعد ظلام واهتدوا بعد غواية فكانوا على صراط مستقيم ووقفوا على محجة بيضاء واضحة ﻻ لبس فيها فسلكوها على بصيرة من اﻷمر وبنور من الله فكانوا على هدى مستقيم لم يتلبس أحد منهم ببدعة ولم تنتشر بينهم ضلالة

وحق لهم ذلك فإن من عرف ظلم الجاهلية وعسفها وضلالها وشرورها ثم عاش نور اﻹسلام وعدله ورحمته عرف عظيم نعمة الله عليه وعلى الخلق بهذا الدين فلن يرضى عنه بديلاً ولن يتزحزح عنه قيد أنملة

وإنما يجحد فضل اﻹسلام ويتنكر له من عاش حياة آمنة كريمة ولم يعرف غيرها فتبطره النعمة وينسه اﻷلف فلا يعرف قدر اﻹسلام

وهذا ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه محذراً من بطر النعمة ونسيان المنة

قال : (( تنقض عرى اﻹسلام إذا نشأ في اﻹسلام من لم يعرف الجاهلية ))

ولأن الصحابة قد عاشوا مرارة الجاهلية ثم ذاقوا لذة اﻹسلام فقد تمسكوا بعراه ولم ينقضوا منها شيئاً

ومضى عصرهم y والدين قائم والصراط واحد والجماعة معتصمة بحبل الله لم يحصل تغيير وﻻ تبديل

ثم وَرَّثوا ما وَرِثُوا نبعاً صافياً وماءً ثجاجاً نقياً طيباً مباركاً لمن ورده ولم يتنكب سبيله فورثهم أبناؤهم وطلابهم الذين أحاطوهم بعنايتهم ومحضوا لهم نصحهم

ولكن مع نقص واضح بدأت بذور الفتن وظهرت رؤوس البدع وانتشرت أصول المقالات في أطوارها البدائية حتى إذا انقرضت عصور الخيرية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وهنالك أتى اﻷمة ما يوعدون وﻻ حول وﻻ قوة إﻻ بالله

 

فنقص الخيرية أو ذهابها له أسباب منها :

1- ذهاب الصالحين ، فعن مرداس اﻷسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( يذهب الصالحون اﻷول فاﻷول ويبقى حفالة كحفالة الشعير والتمر ﻻ يباليهم الله تعالى باله )) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد

2- تغيير ما كان عليه السلف الصالحين قال صلى الله عليه وسلم : (( ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إﻻ كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون ماﻻ يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من اﻹيمان حبة خردل )) أخرجه مسلم عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه

3- الغفلة عن سنن الله الكونية والشرعية كما في قوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة ]

أي : كانوا من عهد آدم إلى عهد نوح عشرة قرون على شريعة من الحق ثم أرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتب فاختلفوا بسبب بغيهم بعضهم على بعض

فهذا سبب من أعظم أسباب التفرق والاختلاف والبعد عن هدي اﻷنبياء وسنتهم

 

وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي : (( اللهم رب جبرائيل ومكائيل وإسرافيل فاطر السماوات واﻷرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )) أخرجه مسلم

وفي الدعاء المأثور : (( اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وﻻ تجعله ملتبساً علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماماً ))

4- نقض الميثاق مع الله وترك ما أمر به أو بعضه[14] ، وهو داخل أيضا في السبب السابق ، كما في قوله تعالى عن اليهود : {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13]

أي : طردناهم عن الهدى فلا يتعظون بموعظة

وقال سبحانه عن النصارى : {… فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ … } [المائدة:14]

5- التحكم في شريعة الله بالهوى وشهوة النفس ومطامع الدنيا كما في قوله تعالى : {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169]

أي : يعتاضون عن التمسك بالحق وبذله ونشره بعرض الحياة الدنيا وﻻ يبالون من أين يأخذون الدنيا من حلال أو من حرام

ويعملون الذنب ثم يصرون ويتمنون على الله الأماني فيجزمون بأن الله سيغفر لهم : [ كما يقول جهالنا اليوم إذا ضيعوا الواجبات أو ارتكبوا المحرمات : الله غفور رحيم ]

6- إتباع سنن اليهود والنصارى وفارس والروم كما في قوله صلى الله عليه وسلم :

(( لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر أو ذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه )) قالوا اليهود والنصارى ؟ قال : (( فمن )) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

وفي رواية : قالوا : فارس والروم ؟ قال : (( فمن ))

7- ويدخل في السبب الخامس إضاعة الصلاة واتباع الشهوات ، قال تعالى : {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}  [مريم:59]

فبعد أن ذكر في اﻵيات التي سبقت هذه اﻵية حزب السعداء وأهل الخيرية وهم اﻷنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن تبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره المؤدين فرائضه التاركين زواجره عقب بعد ذلك بذكر من يأتي بعد أزمنة الخيرية وأنهم إنما أخذوا بتقصيرهم في أعظم حقوق الله وهي الصلاة وإذا كانوا قد أضاعوا الصلاة فهم لما سواها أضيع  

وفي حديث أنس من قوله رضي الله عنه قال : ( لم يبق مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إﻻ هذه الصلاة وقد ضيعت ) أو كما قال

وإذا كان هذا القول في زمانه فما بالكم   فالله المستعان

 

8- إتباع المتشابه من كلام الله وكلام رسوله وترك المحكم ابتغاء صرفه عن مراده وفتنة الخلق عن الاهتداء به قال تعالى : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7]

وقد سبق الكلام على هذه اﻵية في رسائل التفسير

 

وتم الكلام على هذا الحديث بغاية الاختصار وإلا حقه أن يؤلف فيه مجلدات والله المستعان والحمد لله رب العالمين

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه .

 

 

 

أخرج اﻹمام أحمد في المسند وأبو داود والنسائي في السنن بسند صحيح من طريق أبي عبدالرحمن الـحُبُلِـي ( بضم الحاء والباء وكسر اللام ) عن الصُنَابِحِي ( بضم الصاد وفتح النون وكسر الباء والحاء ) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( إني ﻷحبك يا معاذ ))  وفي رواية : (( يا معاذ والله إني ﻷحبك والله إني ﻷحبك )) فقلت : وأنا  أحبك  يا  رسول  الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فلا تدع أن تقول في كل صلاة ربِّ أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ))

وفي رواية : (( أوصيك يا معاذ ﻻ تدعن في دبر كل صلاة تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )) .

وأوصى بذلك معاذ الصُنَابِحِي وأوصى به الصُنَابِحِي أبا عبدالرحمن ( يعني الـحُبُلِـي )

يا لله من هذا الذي يوليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه العناية ويخصه بهذه الخاصية :

(( والله إني ﻷحبك والله إني ﻷحبك ))

أﻻ يكفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : إني أحبك من غير قسم ومن غير تكرار  

ﻻ عجب إنه : معاذ بن جبل رضي الله عنه ذلك الشاب التقي النقي الحيي نشأ في عبادة الله وتعلق قلبه بالله ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وعمره ثمانية عشر عاماً إﻻ أنه كان أعلم الصحابة بالحلال والحرام

وعاش نزيها فقيها اكتملت فيه خصال الخير ومات بعد ذلك شهيداً لم تدنسه الشهوات ولم تعرض له الشبهات ولم تتعرض له الدنيا بزخارفها عاش حميداً ومات سعيداً واستحق تلك الخصوصية من رسول الله  وهو مبلغ عن الله

 

كل المؤمنين يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضاً واجباً ﻻ يصح اﻹيمان إﻻ بذلك ولكن من السعيد الذي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة رسول الله له تعني أن الله يحبه إن معاذاً من هذه الصفوة الكريمة على الله فاللهم إنا نسألك من فضلك

في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه : (( إني ﻷحبك يا معاذ ))

وفي رواية : (( يا معاذ والله إني ﻷحبك والله إني ﻷحبك ))

سنة نبوية كريمة في أن من أحب شخصا لله أن يخبره

 

وقد ورد اﻷمر بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه ))

أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن المقداد بن معدي كرب وأخرجه ابن حبان عن أنس

 

وأخرج أحمد والضياء عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : (( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله ))

 

وعلل ذلك بما أخرجه ابن أبي الدنيا عن مجاهد مرسلاً قال : (( إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه فإنه أبقى في اﻷلفة وأثبت في المودة ))

 

والحب في الله أوثق عرى اﻹيمان وهو سبب لرضوان الله ودخول الجنان قال صلى الله عليه وسلم :

(( والذي نفسي بيده ﻻ تدخلون الجنة حتى تؤمنوا وﻻ تؤمنوا حتى تحابوا … ))

 

وهو سبب في إظلال الله أهله في ظله يوم ﻻ ظل إﻻ ظله كما في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله ، وفيه : (( …… ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وافترقا عليه )) متفق عليه

 

وقصة الرجل الذي زار أخا له في الله في قرية فأرصد الله له ملكاً على مدرجته فقال : أين تريد  ؟ قال : أخا لي في هذه القرية . فقال : هل له عليك من نعمة تربها ؟ قال : ﻻ إلا أني أحبه في الله . فقال الملك : (( فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته )) أخرجه مسلم وأحمد

 

والمتحابون في الله يجلسون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن يغبطهم النبيون والشهداء ، فاللهم اجعلنا ممن أحب لك وأعطى لك ومنع لك  

 

قوله صلى الله عليه وسلم  : (( فلا تدع أن تقول في كل صلاة ))

وفي الرواية الأخرى : (( أوصيك يا معاذ ﻻ تدعن في دبر كل صلاة رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ))

هاتان الروايتان يفسر بعضهما بعضاً

فإن قوله في إحدى الروايتين : (( دبر كل صلاة )) لفظ مشترك بين آخر جزء من الصلاة وهو ما قبل السلام وبين ما بعد السلام  

لأن الدبر في الحيوان يطلق ويراد به ما هو جزء من مؤخرته ويطلق ويراد به ما بعد مؤخرته فبينت الرواية بلفظ : (( تقول في كل صلاة ))

أن هذا الدعاء يكون في الصلاة وليس خارجها فتبين أن دبر الصلاة في الرواية الأخرى المقصود به ما قبل السلام ومعنى ذلك أن هذا الدعاء يقال قبل السلام  

 

وهذا موافق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في أدعيته في العبادات فإنها تكون في أثناء العبادة ﻻ بعدها : ففي الصلاة لم يكن من هديه بعد الصلاة أن يدعو  

وفي الحج كان يدعو في أثناء الطواف فإذا انتهى من الطواف صلى ركعتين ثم انصرف ولم يدع

وكذلك في السعي كان يقف في كل شوط على الصفا ويدعو وعلى المروة فيدعو فإذا انتهى الشوط السابع على المروة انصرف ولم يقف يدعو  

وفي رمي الجمار كان يرمي الجمرة الصغرى ثم يتقدم عنها ويستقبل القبلة ويدعو ثم يرمي الوسطى ثم يتقدم عنها ويقف  ويدعو فإذا  رمى  الكبرى  انصرف  ولم يقف يدعو

فعلم من هديه صلى الله عليه وسلم أن الدعاء يكون في أثناء العبادة ﻻ بعدها

وﻻ يعارض هذا بالذكر الذي بعد الصلاة أو العبادات الأخرى فإن الذكر يكون بعد الانتهاء من العبادة وإن كان الدعاء من الذكر لكنه أخص منه

فالذكر يشمل الدعاء وغيره فخص الدعاء بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله .

 

وقوله صلى الله عليه وسلم : (( اللهم أعني ))

وفي رواية : (( رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ))

إظهار الفقر وأنه ﻻ قدرة للمخلوق على عبادة ربه وذكره وشكره إﻻ بعون من الله وهذا المعنى ثابت في كتاب الله تعالى قال تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

وقال سبحانه : {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]  

فبدون عون الله تعالى ﻻ يستطيع اﻹنسان عبادة ربه وطاعته

قال الشاعر :

إن لم يكن عون من الله للفتى                        فأول ما يجني عليه اجتهاده

وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ما يصعب اﻹحاطة به من إظهار الفقر والحاجة إلى الله تعالى

والذكر والشكر لما قرنا بالعبادة دل على أن لكل من هذه اﻷلفاظ معنى يخصه  وإﻻ فاﻷصل أن الذكر والشكر من العبادة

 

وأيضاً فإن الشكر من الذكر وهذا عند إفراد هذه الكلمات فلما اجتمعت كان لكل منها معناه الخاص فالذكر يشمل الذكر بالقلب واللسان والجوارح :

*- فبالقلب التفكر في اﻵيات الكونية والشرعية فيذكر ربه بما دلته عليه هذه اﻵيات من عظمته وحكمته وحسن تدبيره وعدله وإحسانه وكمال علمه وإحاطته بخلقه ، وغير ذلك مما تدل عليه أسماؤه وصفاته تعالى وتقدس

 

*- وأما الذكر باللسان فبالثناء على الله وتمجيده بأسمائه وصفاته وجلاله وجماله وكماله في أسمائه وصفاته وأفعاله تعالى وتقدس

 

*- وأما بالجوارح فبالصلاة والصيام والحج وغيرها مما يتقرب به العباد إلى ربهم من اﻷعمال التي يحبها ويرضاها

 

وأما قوله : (( وشكرك ))

فهو الثناء على الله في مقابل ما أسبغه على خلقه من النعم التي ﻻ تعد وﻻ تحصى وشكر ها يكون أيضاً بالاعتقاد والقول والعمل :

*- ففي الاعتقاد يتيقن العبد أن ما به أو بغيره من النعم هي من الله خلقاً وإيجاداً وتصريفاً وتسخيراً

*- وباللسان بالثناء على الله على هذه النعم واللهج بحمده وشكره عليها

*- وأما الجوارح فباستعمال كل نعمة فيما أباح الله وعدم استعمالها فيما حرم الله وأداء حقوق الله فيها كل نعمة بحسبها

وقوله : (( وحسن عبادتك ))  لم يقل وعبادتك لأن المقصود الأعظم حسن العبادة  ولا يتم ذلك إلا بشرطين :

الشرط الأول : أن تكون خالصة لله تعالى فلا رياء وﻻ سمعة وﻻ طلب محمدة من الخلق بل تكون لله وحده

والشرط الثاني : أن تكون على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

فإن أختل أحد هذين الشرطين فسدت ولم تنفع صاحبها ﻻ في العاجل وﻻ اﻵجل فالله المستعان

 

وبهذا تم الكلام على هذا الحديث الشريف

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه