الدرس الثاني
طلب العلم فريضة على كل مسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله الصادق الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد
فيقول النبي صلى الله عليه وسله : (( طلب العلم فريضة على كل مسلم )) ينبغي أن نقف عند هذا الحديث ونذكر أنفسنا وإخواننا وأخواتنا بهذا الأمر العظيم الذي فرضه الله وفرضه رسوله على كل مسلم .
وقوله : (( على كل مسلم )) لا يعني هذا أنه خاص بالرجال ؛ لأن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسله إذا خاطب الأمة بلفظ عام وجاء فيه بلفظ ( المسلم ) أو ( المؤمن ) فإنه يدخل فيه الرجال والنساء ، وإنما ذكر بلفظ التذكير تغليباً ؛ لأن الذكر أفضل من الأنثى ، قال الله عز وجل : {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ }(1) إلا ما خصه الدليل بالذكور دون الإناث .
وهذه المسألة : وهي مسألة فرضية العلم على الرجال والنساء بينة واضحة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسله ؛ لأن الرجال والنساء مكلفون جميعاً بدين الله وأيضاً هم مسئولون بين يدي الله عز وجل ، سيسأل الله تعالى الرجل وسيسأل النساء ، يسألهم عن دينه سبحانه وتعالى الذي خلق الخلق من أجله وأرسل الرسل من أجله وأنزل الكتب من أجله وكلف به العباد سيسأل الجميع ، فمادام أن النساء مسئولات مثل الرجال فيجب عليهن أن يتفقهن في دين الله ويتعلمن كالرجال .
والمقصود بالعلم : العلم الشرعي الذي يقرب إلى الله ، ما يدل عليه الكتاب والسنة ، وإلا فالملاحظ في هذا الوقت أن كثير من النساء تفوقن في الدراسات النظامية والنظرية وحصلن على شهادات عليا وزاحمن الرجال في هذا المجال بل وتفوقن على كثير من الرجال في هذا الجانب .
وقد رغب نساء الصحابة رضوان الله عليهن في العلم والخير فهؤلاء أمهات المؤمنين عليهن رضوان الله حملن علماً كثيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسله وكن يعلمن في حياته صلى الله عليه وسله وبعد مماته ، يعلمن الرجال والنساء على حد سواء .
نساء النبي صلى الله عليه وسله هن القدوة والأسوة لما حملن علماً عظيماً عن النبي صلى الله عليه وسله وكثيراً أصبحن يفقهن الرجال والنساء على حد سواء ، ومنهن :
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فإنها أعلم النساء على الإطلاق ولها تلاميذ من الرجال والنساء وتلاميذها من كبار العلماء ، منهم :
عروة بن الزبير ( ابن أختها ) وهو من كبار علماء التابعين .
القاسم بن محمد بن أبي بكر ( ابن أخيها ) .
الأسود بن يزيد النخعي .
همام بن الحارث النخعي .
ومنهم نساء فاضلات كثيرات ، مثل :
عمرة بنت عبدالرحمن .
ومعاذة العدوية .
وقد انتشر بسببهم علم عائشة رضي الله عنها وفتاواها .
والعجيب أن كبار الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنه وغيرهم كثير كانوا يرجعون إلى عائشة ويستفتونها في كثير من المسائل ، وهذا يدل على اهتمام النساء بالعلم .
وأما اهتمام الرجال بالعلم فهذا هو الأصل ، أن الرجل يهتم بالعلم ويتفقه في الدين ويتعلم ما أوجب الله عليه .
نعود إلى قول النبي صلى الله عليه وسله : (( طلب العلم فريضة على كل مسلم )) فالمقصود بهذا : أن المسلم يجب عليه أن يتعلم الحد الذي ينجيه عند السؤال عندما يقف بين يدي الله عز وجل فيسأله عن دينه ، فإن هناك حد لابد أن يعلمه ويتقنه ويعمل به ولا يعذر بالجهل فيه ، فإذا سئل الإنسان عن هذا الحد فلا ينفعه العذر ؛ لأن الله تعالى خلق الخلق للعبادة قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1) .
وقال تعالى : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (2) .
فتأمل في هذه الآية : فإن الله تعالى أمر البعاد بما سوف يسألهم عنه ، وبين لهم الأمر الذي تكفل لهم به ولا يسألهم عنه .
فمن اعتذر يوم القيامة بأن الرزق قد شغله عن تعلم العلم الواجب عليه فلا يقبل منه ، فكيف يترك العبد ما فرضه الله عليه من أجل الذي تكفل الله له به ؟
والعلم يتفاوت ، ولكن هناك حد لابد لكل مسلم ومسلمة أن يعلمه ، وهذا الحد هو الفرائض التي فرضها الله تعالى على الأعيان – على كل فرد – ومن هذه الفرائض :
- الطهارة وأحكامها .
- الصلاة وأحكامها .
- الصيام وأحكامه .
- الحج وأحكامه .
- الزكاة وأحكامها ، لمن كان لديه ما يزكيه .
- بر الوالدين .
- صلة الأرحام .
- وغير ذلك مما فرض الله عز وجل على الأعيان .
فمن قصر في هذا الحد فلا ينفعه الاعتذار عند الله بأنه لم يتعلم ؛ لأن الحجة قد قامت عليه ببعثة النبي صلى الله عليه وسله فقد بعثه الله ليعلم الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، قال صلى الله عليه وسله : (( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ما جهلتم )) .
ولما وقف النبي صلى الله عليه وسله في أعظم المشاهد قال : (( …. هل بلغت ؟ )) قالوا : نعم . قال : (( اللهم فاشهد … )) فهذا دليل على أن كل شيء يشهد أن النبي صلى الله عليه وسله علّم الدين وبلّغ الرسالة .
فعلى المسلم أن يستعين بالله وينبذ عنه الكسل ، ويستعيذ بالله من وساوس الشيطان ؛ لأن الشيطان يلبس عليه حتى يصرفه عن طلب العلم .
وأما ما زاد عن هذا الحد – وهو الفرض العيني – فهذا نافلة ، وهو أعظم النوافل – طلب العلم – فهو أعظم من الجهاد النافلة وأفضل من الحج النافلة وأفضل حتى من الصلاة النافلة ، فإذا رزق الله العبد نية صالحة في طلب العلم فطلبه للعلم أفضل من نوافل الصلاة ، وقد كان إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – إذا وفد إليه أحد العلماء الذين يستفاد منهم لا يصلي إلا الفريضة فقط ويتفرغ بعد ذلك لمجالسة العالم والأخذ عنه والاستفادة منه .
وهنا قصة عجيبة أذكرها لكم لتعلموا أن العالم ما أصبح عالماً إلا بالتعب والسهر والجد والاجتهاد ، خرج الإمام أحمد مع شيخه وكيع من المسجد بعد صلاة العشاء وكان من عادته أنه يلازم شيخه حتى يوصله إلى باب بيته من أجل المذاكرة والاستفادة منه ، فأخذا في مذاكرة الحديث ، ولما وصل الشيخ إلى البيت وفتح الباب وأدخل إحدى رجليه والأخرى في خارج الباب فمازالا يتذاكران الحديث وما انتبها إلا والفجر يؤذن ، هذا موقف واحد من مواقف أهل العلم الذين رزقهم الله الإخلاص في العلم ووسّع لهم فيه .
والعلم النافلة الزائد عن الفرض الواجب كلما ازداد العبد منه بنية صالحة وإخلاص تزداد درجاته ويرتفع مقامه عند الله ، قال الله عز وجل : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1) .
وقال تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) .
وأمثال ذلك مما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسله مما يدل على عظيم قدر أهل العلم وعظيم منزلتهم عند الله .
فإذا كان هناك فرض واجب على الرجال والنساء فلنبدأ بأولى هذه الفرائض وهو أعظم مطلوب من الإنسان وهو إقامة الصلاة ، فقد أمر الله تعالى بإقامة الصلاة في كتابه في آيات متعددة لا تكاد تحصر وأثنى على أهل الصلاة والمقيمين لها والمحافظين عليها والخاشعين فيها ، ورد ذلك بأساليب مختلفة ودرجات متفاوتة من الأمر الصريح إلى الترغيب إلى بيان عظيم الأجر مما يدل على عظيم قدر الصلاة عند الله عز وجل وعظيم منزلتها .
وإذا أردنا أن نضرب مثلاً واحداً على عظيم قدر الصلاة عند الله فلنتذكر أنها الفريضة الوحيدة التي فرضها الله في السماء ، والعجيب أنه ما من مخلوق إلا وهو يصلي سواءً يصلي لله أو لغير الله وما من دين حتى ولو كان باطلاً إلا وفيه صلاة وقد سمعنا أن في بعض أنحاء العالم من يعبد الذر ويقيم لها المعابد ويسجد لـها ويصلي ، فهل يُتصور هذا ؟
نعم ، إذا رفض العبد أن يتعبد لله عبّده الله لأحقر الـمخلوقات ، فهذا عدلٌ من الله عز وجل .
فإذا كان أعظم مطلوب من العبد هو الصلاة ؛ فإن أعظم مطلوب للصلاة هو الطهارة ، ولا يمكن أن تقبل صلاة من غير طهارة بين هذا ربنا عز وجل في القرآن وبينه نبيه صلى الله عليه وسله في أحاديثه .
فأما القرآن فقد قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
فجعل الله عز وجل شرط إقـامة الصلاة الطهارة فقال : {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا …..} .
{إِذَا} أداة شرط ، فلا يتحقق المشروط إلا بإقامة الشرط وهو الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر .
فلا يتحقق الجزاء حتى يتحقق الشرط ، فالجزاء هو الصلاة فلا تتحقق الصلاة إلا بإقامة الشرط وهو الطهارة ، هذا من القرآن .
وأما الأحاديث فمنها قـول النبي صلى الله عليه وسله : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتـوضأ )) .
هذا نفي وهو متضمن للنهي فإذا نفى النبي صلى الله عليه وسله شيء فهو ينهى عنه ، وهنا نفي للعمل وفي نفس الوقت هو ينهى عن أن يصلي الإنسان وهو محدث .
وأجمع المسلمون على أن العبد لا تصح صلاته بعد الحدث إلا إذا تطهر الطهارة الواجبة المفروضة .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن من صلى من غير طهارة وهو يعلم فإنه كافر ويخرج من دين الإسلام ؛ لأن هذا فيه استهزاء بالله وسخرية بالصلاة وفيه أيضاً نفاق ورياء حيث يشعر الناس أنه يصلي وهو في الحقيقة لا يصلي .
فمن أسباب الردة عن الدين – والعياذ بالله – استهزاء الإنسان بشعائر الإسلام لأن الله سبحانه وتعالى أمر بتعظيم شعائر الدين وأمر بتعظيم حرمات الله فالذي يستهزئ بهذه الحرمات وهذه الشعائر إنما يستهزئ برب العالمين سبحانه وتعالى لا إله إلا هو .
فالواجب علينا أن نتفقه في هذا الأمر الذي هو أعظم شرط لقبول الصلاة وهو الطهارة .
والطهارة : بمعنى النظافة والنزاهة وهي في حقيقتها الشرعية لا تخرج عن هذا ولذلك يوم القيامة يعرف المسلم بوضاءة أعضاء الوضوء بالنور الذي فيها فكما طهرها في الدنيا تعبداً لله وطاعة لله فيوم القيامة يجازيه بأن تكون لها نور وتكون علامة للمسلمين عن بقية الأمم ، فإن النبي صلى الله عليه وسله لما أخبر عن أمته لما ترد عليه الحوض يوم القيامة وأنه يذود الناس عن الحوض قالوا : يا نبي الله أتعرفنا ؟! قال : (( نعم . لكم سيما ليست لأحد غيركم ، تردون عليّ غُراً محجلين من آثار الوضوء …. )) الحديث (1) .
أي علامة خاصة لهذه الأمة ليست في غيرها ، وإلا فإن الوضوء كان مشروعاً في الأمم السابقة والطهارة مطلوبة في جميع الأديان السماوية ولكن بهذه الطريقة المحمدية غسل الوجه وغسل الأطراف فهذا خاص بهذه الأمة .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
1- سورة البقرة الآية (228) .
2- سورة الذاريات الآية (56) .
3- سورة طه الآية (132) .
4- سورة المجادلة الآية (11) .
5- سورة فاطر الآية (28) .
6- سورة المائدة الآية (6) .
7- أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم (247) .