دروس صيف عام 1427هـ
الدرس الخامس
الدرس الخامس
شرح حديث :
(( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي .. ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله الصادق الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد
فقد قرأنا حديثاً شريفاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يرويها عن الله تبارك وتعالى كمـا في صحيح الإمام مسلم ولفظه : عن أبي ذرٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رَوَىَ عن الله تبارك وتعالى أنه قال : (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفـسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أَهْدِكُمْ ، يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمته فاستطعموني أُطعِمكُم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أَكْسُكُمْ يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَرّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإِنْسَكُمْ وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) (1) .
وجميع رجال إسناده أئمة حفاظ من أهل الديانة والصيانة .
وأول رجال الإسناد : الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه : (( ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخـضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر )) (1) .
وهو الذي ورد في شأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( … رحم الله أبا ذر يمـشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده )) (2) فهو أمة وحدة وهو من السابقين إلى الإسلام .
وهو أول من جهر بالإسلام في مكة وأوذي حتى كاد أن يقتل رضي الله عنه وأرضاه ، وكان شديد الأخذ في دينه لا تأخذه في الله لومة لائم حتى نفر منه الناس وخرج في آخر حياته إلى الربذة (3) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (( إذا بلغ البنيان سلعاً فاخرج منها )) (4) وقد خرج إليها وبقي بها حتى مات رضي الله عنه .
وقد جاء يزور ابن عمر رضي الله عنهما فوجده قد ستر الجدران فقال : ما هذا يا ابن عمر ؟ تكسون البيوت ! قال : يا أبا ذر غلبنا النساء . قال : من كنت أظن أن تغلبه النساء فلم أكن أظن أن تغلب آل عمر . فرجع من الباب ولم يدخل .
قال الإمام أحمد عن هذا الحديث : هو أشرف حديث لأهل الشام ، ومعلوم أن أهل الشام يروون آلاف الأحاديث فإذا كان هذا أشرفها فهو دليل على عظمته وعظيم منزلته عند أهل العلم ، وحق له ذلك فقد اشتمل على مقاصد الشـريعة وقد كان أبو إدريس الخولاني – وهو من أئمة التابعين – إذا قرأ هذا الحديث يجثوا على ركبتيه تعظيماً له وإجلالاً ومهابةً .
وأبو مسلم الخولاني له قصة مع الأسود العنسي الذي ادعى النبوة ، وذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رؤيا رأى أن في يديه سوارين من ذهب فكره السوارين من ذهب فنفخهما فطارا فوقع أحدهما في اليمن والآخر في اليمامة ، فكان مسيلمة الكذاب في اليمامة والأسود العنسي في اليمن ، ثم مات النبي صلى الله عليه وسلم وفتنتهما مشتعلة فكلا منهما يدعي أنه رسول ففتنوا الناس .
فوقف أبو مسلم الخولاني – رحمه الله – في وجه الأسود العنـسي فأراد الأسود العنسـي – الخبيث – أن يجعل أبا مسلم عبرة فأجج ناراً وأدخل أبا مسلم الخولاني فيها فخرج منها لم تمسه بشيء .
فقال له أتباعه وأنصاره : أخرج هذا من بلدك فإنه سيفتن الناس ، فطرده وخرج متجهاً إلى المدينة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فكان عمر رضي الله عنه يتتبع الأخبار فرأى رجلاً قادماً من جهة اليمن فقال له : ما فعل الرجل الذي أدخل النار فخرج منها ؟ قال : ذاك عبدالله بن ثوب فعرفه عمر وقبل رأسه وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به مثل إبراهيم عليه الصلاة والسلام . ثم بعد ذلك هاجر إلى الشام لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يلحقوا بالشام عند حدوث الفتن ، فقد تكفل الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالشام وأهله .
ولكن الإنسان لا يصل إلى تقدير هذا الحديث حق قدره إلا إذا تأمله وعرضه على بقية النصوص من الكتاب والسنة تظهر عظمته وأنه اشتمل على مقاصد الـشريعة
وأول ذلك قوله تعالى : (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفـسي وجعلته بينكم محرما )) فهذا له منطوق وله مفهوم .
فأما منطوقه فهو تحريم الظلم ، وأما مفهومه فإنه الأمر بالعدل ؛ لأنه إذا حرم الظلم فمعنى ذلك أنه يأمر بالعدل ، وأعظم العدل الذي أمر الله به هو توحيد الله عز وجل وإخلاص الأعمال لله ، وأعظم الظلم الإشراك بالله وانتقاص حق الله تعالى .
ويتبع التوحيد جميع أبواب الخير من الأعمال الصالحة من اعتقاد وعمل ونطق ..
ويتبع الظلم بقية المعاصي والذنوب سواء كانت بالاعتقاد أو بالجوارح أو باللسان فهذه الفقرة اشتملت على الدين كله كما يقول ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله .
وقوله تعالى في هذا الحديث القدسي : (( يا عبادي : كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم )) هذه حقيقة جلية واضحة في أن الخلق يخلقون ويوجدون في هذه الدنيا لا يعرفون الحق من الباطل ولا يعرفون الضلالة من الهدى سواء ما يتعلق بأمور الدنيا أو بأمور الدين وأن الله عز وجل هو الذي يعلم الخلق ويهديهم سواء كانت هذه الهداية هداية للتعليم لمنافعهم وما يصلح لهم وما يضـرهم في أمور الدنيا والمعاش أو كانت في أمر الدين : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) .
وقال تعالى : {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (2) أي لا تعرف الكتاب ولا تعرف الإيمان على التفصيل فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحي لا يعرف هذا فغيره من باب أولى .
وقال الله عز وجل : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً } (3) فكل الخلق يوجدون في هذه الدنيا لا يعلمون شيئا لا في أمر الدين ولا في أمر الدنيا .
فالله سبحانه وتعالى يتولى هداية الخلق : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1) بدءً من النبات ثم الحيوان الأعجم ثم الكمال في هذه البشرية وهو الإنسان ، كل الخلائق من أدناها إلى أعلاها على هذا الأصل وأنهم لولا هداية الله لهم سواء في أمر الدنيا أو أمر الدين لما كان لهم أن يهتدوا .
انظر إلى النبتة توضع في الأرض ثم يفلقها رب العالمين فيخرج منها فرعين فرع إلى الأعلى وفرع إلى الأسفل ، فالأسفل له خصائصه والأعلى له خصائصه ولا يمكن تشابههما ، ثم انظر إلى الفرع السفلي كم يضرب في الأرض كالوتد حتى يثبت النبتة ثم بعد ذلك الشجرة وعلى قدر علو الشجرة في السماء يكون عمق هذا الجذر في الأرض ثم تتبع هذا الجذر كيف يسعى في طبقات الأرض بين الحـصى والتراب حتى يصل إلى الماء ، فمن الذي هداه لهذا ؟ إنه رب العالمين : {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (2) . {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} (3) فهذه هداية الله جل وعلا لهذه المخلوقات الدنية التي هي النبات .
وبعد ذلك الحيوان وهو أقل من الحيوان الناطق هذا المخلوق تلده أمه ضعيفاً لا يقوى على القيام ثم يقوى قليلاً شيئاً فشيئاً فيلتفت إلى ثدي أمه فيمسك به دون أن يدله عليه أحد ، وقبل هذا الأم فبمجرد أن يخرج من بطنها تتوجه إليه فتلحس كل ما علق بوجهه وأنفه ولو لم تفعل هذا لتيبست هذه المادة اللزجة على مداخل النفس فيختنق .
فمن الذي أخبرها وعلمها أن هذه المادة اللزجة إذا بقت لفترة بسيطة تتحول إلى مادة صلبة تمنع دخول الهواء ؟ علمها الله تعالى : {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. هذه هداية الله عز وجل لهذه المخلوقات الضعيفة ، فما بالكم بما هو أعظم من ذلك وهو المقصود من خلق السماوات والأرض ألا وهو المكلف سواء كان من الإنس أو من الجن ، إن هدايتهم أعظم وتعليم الله وإرشاده لهم أكبر ، فهذا الإنسان لا يعرف من أمر معاشه في الدنيا وبقائه فيها إلا ما علمه الله عز وجل ، والله امتن على بني آدم بذلك بأنه لما خلق آدم عليه الصلاة والسلام علمه أسماء كل شيء ومنافعها ومضارها فالخلق يتوارثون هذا في الفطر وكلما استجدت لهم حاجة ألهمهم الله تعالى ما يوصلهم إلى إشباعها بما يوفقهم إليه من المخترعات والمصنوعات .
فهذه الهداية هي لجلب نفع المخلوق بصفة عامة والإنسان بصفة خاصة أو لدفع المضرة عنه وهذا أشار إليه الحديث في قوله : ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أَهْدِكُمْ يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمته ، فاستطعموني أُطعِمكُم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أَكْسُكُمْ )) هذه الفقرات الثلاث من الحديث تدل على هذا الأصل ؛ لأن المنافع والمضار إما أن تكون في الدنيا أو في الآخرة واشتمل عليها الحديث فإن قوله : (( كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أَهْدِكُمْ )) شامل للأمرين .
وقوله : (( كلكم جائعٌ إلا من أطعمته ، فاستطعموني أُطعِمكُم )) هذا جلب المنافع ؛ لأنه لا بقاء للمخلوق إلا بالطعام فهذا جلب منفعة .
وقوله : (( كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أَكْسُكُمْ )) هذا دفع المـضرة فلولا هذا اللباس يدفع عن المخلوق اعتداء المعتدين أو ضرر ما خلق الله من الأمور المـضرة كالبرد القارس أو الشمس الحارقة لتضرر من ذلك .
وأما في أمور الآخرة فإنه يقول عز وجل : (( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم )) .
إذاً هداية هذه جلب منفعة ومغفرة هذه دفع المضرة في الدين ؛ لأنه في أمر الدين يحتاج الإنسان إلى الهداية والتوفيق ويحتاج في دفع المضرة إلى مغفرة ذنوبه التي هي أعـظم الضـرر عليه .
فالمقصود أن هداية الله عز وجل للمكلفين لها أربعة مراتب :
المرتبة الأولى : وهي الهداية في الدنيا لما ينفعهم ويحقق لهم مصالحهم وهذه يشترك فيها جميع الخلق .
المرتبة الثانية : التعليم والإرشاد ، وقد امتن الله على عباده في هذه المسألة بإرسال الرسل وإنزال الكتب ليعلم الناس ويهديهم صراط الله المستقيم قال الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهذه هداية النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ويرشد ويأمر وينهى بمراد الله وما أمر سبحانه وتعالى به أو نهى عنه مع أن الله تعالى يقول عن نبيه صلى الله عليه وسلم : {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية لا يهدي ، وفي الآية الأولى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَعُلِمَ بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم له هداية يستطيعها وهداية لا يستطيعها وعلم أيضاً من نصوص الكتاب والسنة أن هذه الهداية التي يهديها الرسول صلى الله عليه وسلم هي هداية التعليم والإرشاد والأمر والنهي كما في قول الله عز وجل في حق ثمود : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (2) فهذه الهداية هداية التعليم والإرشاد والأمر والنهي .
فالله تعالى هدى المكلفين في هذه المرتبة أجمعين أقام عليهم حجج وأنزل الكتب وأرسل الرسل : {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (1) سواء استجابوا أو لم يستجيبوا آمنوا أو كفروا كلهم يشتركون في هذه الهداية كل من بلغته دعوة رسول فقد هداه الله عز وجل هداية التعليم والإرشاد والبيان والأمر والنهي .
ثم بعد ذلك يفترق الناس إلى فريقين :
*- فريق قبل الهداية ويستجيب .
*- وفريق يرفض الهداية ويستحب العمى على الهدى كما في حال ثمود .
المرتبة الثالثة : أن يوفق العبد ويسدد وأن يُخلق في قلبه الهدى أي يجعل الله في قلبه القبول والإذعان والانقياد والتسليم ، فهذه لا يملكها إلا الله عز وجل : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (2) .
فهذه الهداية التي هي هداية القلوب وتوفيقها وخلق الهدى فيها لا يملكها إلا الله عز وجل قال الله تعالى عن هذه : {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .
والنبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية عمه أبي طالب على وجه الخصوص لما كان له من الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والحماية والنـصرة ، ومع ذلك لم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم أن يهديه لقبول هدى الله والإذعان للإسلام والنطق بشهادة أن لا إله إلا الله فحزن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فأراد الله تعالى أن يخفف عنه فأخبره أن هذه ليست لأحد وإنما هي حق الله عز وجل : {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } .
المرتبة الرابعة : الهداية في الآخرة لمن وفقه الله عز وجل في الدنيا للاهتداء لأنها طريق أولها في الدنيا وآخرها في الآخرة فمن هداه الله في الدنيا وسلك صراط الله المستقيم وامتثل الأمر وترك النهي فإن الله تعالى يهديه يوم القيامة لدخول الجنات : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (1) فهذه الهداية في الآخرة نتيجة وثواب للاهتداء في الدنيا : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (2) فالجزاء من جنس العمل فكما أنهم اهتدوا في الدنيا وسلكوا صراط الله المستقيم وامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه فإنه الله لا يخيب سعيهم في الآخرة فلهم الأمن في الآخرة من عذاب الله والاهتداء إلى جنات النعيم .
وأما – والعياذ بالله – {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (1) فأولئك يقول الله عز وجل في حقهم : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (2) .
فهؤلاء الذين تخبطوا في الحياة الدنيا وضل سعيهم فيها واتبعوا أهواهم ولم يقبلوا هدى الله فلم يمتثلوا أمره ولم يجتنبوا نهيه فإنهم يحشرون ويهدون يوم القيامة إلى صراط الجحيم أعاذنا الله وإياكم .
{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (3) .
فالجزاء من جنس العمل ، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( الراحمون يرحمهم الرحمن )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )) فالجزاء من جنس العمل .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )) .
فانظر الجزاء من جنس العمل أي فضلاً من الله تعالى بأنه لا يخيب سعي الساعين ولا يضل عمل المصلحين ، فإذا عمل الإنسان خيراً لقاه الله خيراً مما قدم ومن تمرد على الله فـ : {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1) .
فالخلاصة أنك كما تدين تدان وكما يعمل الإنسان في هذه الدنيا يجد عند الله عز وجل فإن عمل خيراً وجد أفضل من عمله وإن تمرد على الله فله جزاء ما قدم .
انظر في افتتاح الكلام : (( يا عبادي … )) فالله الغني عن العالمين يخاطبهم بهذا الخطاب المحبب الذي فيه لطف ورقة بعباده كأنه يتودد إليهم بل يتودد إليهم ، ثم يذكر هذه الفضائل والنعم التي تفضل بها عليهم ومع ذلك فكثير من الناس معرضون عن الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقوله : (( يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم )) فيها فوائد :
الأولى : إثبات أن الرزق من الله وحده ، وهذا خطاب للخلق كافة ، وهذا مقرر في القرآن الكريم : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (2) .
وقال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ*إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1) وآيات كثيرة تدل على هذا الأصل الأصيل وهو أن الرزق من الله عز وجل خلقاً وإيـجاداً فالله سبحانه وتعالى خلق الأرزاق ابتداءً وجعل لذلك أسباب ينزل الماء من السماء فتنبت الأرض وإذا شاء سبحانه منع القطر من السماء فلا تنبت الأرض وقد تمطر السماء ولا تنبت الأرض ، وقد تنبت الأرض ولا تثمر وقد تثمر ولكن يأتيها من العوارض ما يفسدها ، بل قد يزرع الإنسان شيئاً نافعاً ولكنه ينبت شيئاً ضاراً فالخلق والإيجاد من الله عز وجل والتدبير والتصريف كذلك هو من رب العالمين يزرع الإنسان الحبة فتنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة فهذا تدبير من الله تعالى .
وتأمل تدبير الله فيما ينفع الإنسان فالشاة مثلاً تنتج في السنة واحدا وأنثى الكلب تنتج سبعة ومع هذا فالغنم أكثر وهي على قدر حاجة الناس ، أليس هذا من الحكم البالغة في تدبير الله تعالى وتصريفه لخلقه ؟ ألا يتأمل المخلوق هذا ؟
فتأمل يا عبدالله هذه الأسرار حتى يزداد اليقين وتذعن لرب العالمين لهذه الحقيقة التي قررها الله في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الواقع الذي تعيشه فسبحان الله ذي الملكوت والجبروت والتدبير لا إله إلا هو .
الثانية : على الإنسان أن يتوكل على الله في رزقه فيكون اعتماده وتوكله على الله حتى مع بذله للأسباب ، فلا يكن اعتماده على سعيه .
والآن نقصت هذه المسألة في نفوس الناس لما أصبح الإنسان ينتظر راتبه آخر الشهر ، وأما قديماً فقد كانت هذه الخصلة بارزة في نفوس الناس ولذلك تجد الواحد منهم شديد اللهج بذكر الله تعالى ، فإذا أعلى السانية ذكر الله وإذا أرخاها ذكر الله وإذا أنزل الغرب في البئر ذكر الله وإذا نزعه ذكر الله وإذا رأى الغيم في السماء ذكر الله .
والآن يدعو وللأسف الإمام لإقامة صلاة الاستسقاء والخروج لهذه الدعوة واجب من ناحيتين :
*- الناحية الأولى : أننا لا غنى لنا عن الله .
*- والناحية الثانية : أن ولي الأمر أمر بذلك وطاعته واجبة .
ومع ذلك لا يحضر صلاة الاستسقاء إلا من رحم الله ، والحضور يتفاوتون في شعورهم بالحاجة إلى الاستغاثة ، وبعضهم إنما يحضر لإقامة الشعيرة ولكن لا يجد في نفسه الضرورة التي تجعله يدعو دعاء المضطر ولذا تصلى الصلاة ويدعون وقد يتأخر بأسباب منها عدم الشعور بالضرورة لنزول الغيث وضعف اليقين في قضية أن الرزق من الله .
ومن التوكل على الله الأخذ بالأسباب فقد جعل الله تعالى لتسخير الأرزاق أسباب والنبي صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتوكلين كان يأخذ بالأسباب ولكن اعتماده على الله فيعد أصحابه للجهاد في سبيل الله ويخبرهم بعظيم الأجر لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وإذا بدأت المعركة رفع يديه إلى السماء يدعو الله تعالى .
فعلى الإنسان أن تكون ثقته بما عند الله أعظم من ثقته بما في يده فقد يكون ما في يده ليس له بل كتب الله أن يكون لغيره .
المسألة الثالثة : ألا يستعجل الرزق فيأخذه من غير وجهه الحلال ؛ لأن الله قد تكفل برزق الإنسان وطالما أن الإنسان يتنفس فرزقه مع نفسه فلا ينقطع إلا إذا انقطع النفس ، لكن الله تعالى يبتلي العباد ويختبرهم قال صلى الله عليه وسلم : (( اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن روح القدس قد نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها )) وفي رواية : (( … فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله فانه لا ينال ما عنده إلا بطاعته )) (1) .
فإذا أخذ العبد الرزق من الحلال بارك الله له فيه وأثابه على ذلك ، وإن أخذه من الحرام لم يبارك له فيه وكان آثماً في ذلك ، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في المستدرك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به )) (2) .
والسحت : هو أن يستعجل الرزق ويستبطئ الرزق فيأخذه من غير وجهه الذي أباحه الله عز وجل وأحله له .
ومن القصص في هذا ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان راكباً على بغلته في سوق الكوفة فنزل عنها ليدخل المسجد فوجد رجلاً بجواره فقال له : أمسك لي البغلة . فدخل علي رضي الله عنه المسجد وصلى فيه ركعتين ، فلما خرج وجد البغلة ولم يجد الخطام فبحث عنه فلم يجده ، فأعطى شخصاً درهماً وقال له : ائتني بخطام من السوق ، فذهب فوجد ذلك الرجل – الذي أخذ الخطام – يبيعه بدرهم فاشتراه منه وجاء به إلى علي فإذا هو خطامه فقال : ما هذا ؟ قال وجدت الرجل يبيعه بدرهم فاشتريته منه . قال : ( سبحان الله ! كنت سأعطيه درهماً جزاء إمساكه الدابة فأبى إلا أن يأخذه من الحرام ) .
فإذا ضعف الإيمان وضعف اليقين فإن الإنسان يستعجل الرزق أو يستبطئه فيرتكب المهالك في تحصيل هذا الرزق .
وكذلك العبد إذا رأى من أنعم الله عليه بكثرة الرزق ولم يكن عنده الإيمان واليقين بأن الله تعالى هو الذي فاضل بين العباد في الرزق فقد يحصل له شر عظيم في نفسه ومن ذلك الحسد الآفة الخطيرة التي تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
وفي هذا أيضاً اعتراض على الله في حكمه وحكمته وعلمه فإن الله أعلم بخلقه وفي الحديث : (( … وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر وإن بسطت له أفسده ذلك … )) الحديث (1) .
فالله تعالى يرعى عباده وفق علمه وحكمته علمه كامل وحكمته بالغة فإذا اعترض العبد على حكمة الله وتدبيره لخلقه أوقع نفسه في شر عظيم .
وهنا تنبيه على ما يردده بعض الناس من قولهم : فلان لا يستحق هذا ( أو ما يستاهل ) وقد يقولونها في الخير الذي يأتي بعضهم أو ما ينزل ببعضهم من شر .
فهذه كلمة خطيرة فيها اعتراض على الله تعالى فيما يعطي عباده فلا ينبغي أن يقولها المسلم ؛ لأن الله تعالى هو أعلم بعباده يعطي من يشاء ويمنع من يشاء وذلك وفق حكمته وعلمه جل وعلا .
وأما ما يردده الناس من قولهم : الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب فهذا ليس بحديث ولكن معناه صحيح ، فإنك إذا تأملت ما يولده الحسد من شر في الباطن والظاهر وجدت أنه يقضي قضاءً مبرماً على المخلوق ، ولذلك قال أحد الحكماء : قاتل الله الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله .
وليس هذا في الدنيا فقط بل في الدنيا والآخرة لأن هذا اعتراض على الله واتهام لله وسوء ظن بالله وأن الله يعطي من لا يستحق ، فأي صلاة أو صيام أو عبادة تنفع من يعتقد هذا والعياذ بالله ؟
ثم ما يؤدي إليه من البغي وقد يصل البغي إلى أن يعتدي على المخلوق المحسود بطريقة أو بأخرى بقصد إهلاكه أو إزالة النعمة عنه .
والحسد عام فقد يحسد الإنسان على دينه وصلاحه أو علمه أو صلاح أبنائه أو صحة بدنه أو غير ذلك من الأمور ، وهذا خلاف ما يعتقده البعض من أن الحسد خاص بالمال .
ومما يدل على أن الحسد قد يضر بالآخرين أن الله تعالى أمر بالإستعاذة منه قال تعالى : {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} فدل هذا على أنه يؤذي ويضر .
وقوله : (( يا عبادي : إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم )) .
فهنا عمّ سبحانه وتعالى جميع الذنوب ليدل هذا على أنه جل وعلا يغفر الذنوب جميعاً بدون استثناء .
وهذا مقرر في كلام الله تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) فقد جعل الله للعبد العاصي فرجاً ومخرجاً ففتح له باب الرجاء فلا يضيره سبحانه وتعالى أن يغفر لعباده إذا تابوا وأنابوا إلى الله مهما عظمت الذنوب ، الشرك وما دونه قال الله عز وجل : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (2) فالله تعالى ربٌ رحيم يحب توبة التائبين بل ويفرح بتوبة العبد إذا تاب أشد فرحاً من ذلك الرجل الذي كان بأرض فلاة فانفلتت منه دابته فأيس منها واضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فبينما هو كذلك إذا هو بدابته واقفة عند رأسه فأراد أن يشكر الله فقال : (( اللهم أنت عبدي وأنا ربك )) أخطأ من شدة الفرح (3) .
فالله يفرح بتوبة عبده إذا تاب أشد من فرح هذا بوجود دابته التي فيها نجاته فسبحان الله العظيم لا يهلك على الله إلا هالك .
هذا في حق الذي يتوب : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (1) قال السلف رحمهم الله : كل من عمل الخطيئة فهو جاهل وكل من تاب قبل أن يغرر فقد تاب من قريب .
فالله يقبل التوبة ويغفر الذنوب بل ويبدل السيئات حسنات .
ولنتذكر قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفس ظلماً وعدونا ، فألهمه الله أن يتوب فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : (( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض فَدُل على راهب ، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا . فقتله فكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فَدُل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله . وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم . فقال : قيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له . فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة )) (2) .
وفي رواية : (( … فأوحى الله إلى هذه أن تقربي ، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فَوُجِدَ إلى هذه أقرب بشبر فَغُر له )) (1) .
فهذا قتل تسعة وتسعين نفساً فقبل الله سبحانه وتعالى توبته .
وانظر إلى أعظم من هذا ، الذين حفروا الأخدود وأضرموا فيها النار وقتلوا المسلمين القتلة الشنيعة ، قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (2) قال الحسن البصـري – رحمه الله – : كفروا بالله وقتلوا أولياء الله ومع ذلك فتح الله لهم باب التوبة .
فلا يهلك على الله إلا هالك فإذا تابَ العبد تاب الله عليه سواء كان الذنب عظيماً أو صغيراً فينبغي على المسلم ألا ييأس من رحمة الله قال تعالى :{إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (3) .
أسأل الله عز وجل أن يسلك بنا وبكم وبالمسلمين صراطه المستقيم وأن يعيذنا من مضلات الفتن .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر صحيح مسلم كتاب : البر والصلة والآداب – باب : تحريم الظلم برقم (2577)
1- أخرجه ابن ماجة برقم (156) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما ، وصححه العلامة الألباني – رحمه الله
2– أخرجه الحاكم (3/52)
3– الربذة : هو موضع بالبادية بينه وبين المدينة ثلاث مراحل وهو في شمال المدينة
4- انظر المستدرك طبعة دار الحرمين تتبع الشيخ مقبل الوادعي – رحمه الله – (3/420) برقم (5535) وقال الحاكم : على شرط الشيخين وأقره الذهبي ، وتعقبه الشيخ مقبل بأنه على شرط مسلم فقط
1– سورة طه الآية (50)
2– سورة الإنسان الآية (3)
3– سورة الأعلى الآية (4)
1- سورة القصص الآية (56)
1– سورة النساء الآية (165)
2– سورة الأنعام الآية (125)
1– سورة يونس الآية (9)
2– سورة الأنعام الآية (82)
2- سورة الصافات الآيات (22 – 23)
1– سورة يونس الآية (44)
2– سورة طه الآية (132)
1– سورة الذاريات الآيات (56-58)
1- انظر مصنف ابن أبي شيبة – كتاب : الزهد – باب : ما ذكر عن نبينا r (7/79)
2- سورة الفرقان الآية (68-70)
3– انظر صحيح مسلم برقم (2744) وصحيح البخاري برقم (6308) ومسند الإمام أحمد (4/275-الطبعة القديمة)
2- انظر صحيح مسلم برقم (2766)
1– انظر صحيح البخاري كتاب : أحاديث الأنبياء – باب (54) الحديث رقم (3470)
2– سورة البروج الآية (10)
3– سورة يوسف الآية (87)