دروس صيف عام 1427هـ
الدرس السادس
الدرس السادس
فضل طلب العلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فإن الأوقات تنقضي وساعات العمر تذهب سريعاً وإذا ذهبت لحظة فإنها لا تعود إلى يوم القيامة ، وهذه اللحظات في حياة الإنسان نعمة عظيمة وسيسأله الله عنها ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر وإلى خطورة التغافل عنه فأخبر صلى الله عليه وسلم بقوله : (( لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه … )) الحديث . فليعد كل مسلم للسؤال جوابا سديداً يقبله الله عز وجل .
وإن خير ما تقضى فيه الأعمار وتمضى فيه الأوقات ما يقرب من الله عز وجل ويدني من مراضيه ، وإن الإنسان بجهده أو عقله أو فهمه لا يمكن أن يصل إلى معرفة محاب الله عز وجل ومراضيه وما يقرب إليه ؛ لأن هذا أمر غيبي لا يُطلع عليه ولو كان لأحد أن يطلع عليه من غير تعليم الله عز وجل لما أرسل الله الرسل ولما أنزل الكتب ولكتفا أهل العقول بعقولهم ، ولكن لأن الله حجب عن الخلق علم الغيب ومن علم الغيب معرفة مراضي الله ومحابه ومراده فإنه سبحانه وتعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليخبر عباده سبحانه وتعالى بما أراده منهم وما يقربهم إليه زلفى وما يبعدهم عن أسباب سخطه وهذه هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة هذا الأمر إنزال الكتب وإرسال الرسل .
وإذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام لهم آجال فتنتهي آجالهم فتخلفهم أممهم من بعدهم فمن وفقه الله كان من ورثة الأنبياء أي وارثي علم الأنبياء ؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ، ولذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم لم يرثه أهله أي لم يرثوا تركة ولا درهم ولا دينار حتى ما أفاء الله عليه من ديار الكفار رُدت إلى بيت مال المسلمين ولم يرثها أهله ولا أزواجه ؛ لأن الأنبياء لا يُورثون الدنيا ، ولكن لهم إرث عظيم وهو ما أوحاه الله إليهم من العلم والهدى والبيان عن الله عز وجل وإرشاد الناس إلى الله ، ولما مر أبو هريرة رضي الله عنه – وهو حافظ الإسلام ووارث النبي صلى الله عليه وسلم – بالناس وهم يتجادلون ويتخاصمون في السوق على البيع والشراء قال : (( أنتم تتخاصمون على الدنيا وميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد )) فهرع أهل الدنيا إلى المسجد ليأخذوا نصيبهم من الميراث فلما دخلوا المسجد وجدوا حلق العلم والتعليم فرجعوا ، فلقيهم أبو هريرة رضي الله عنه في الطريق فقال لهم : (( لم رجعتم ؟ )) قالوا : لم نجد إلا جماعات متحلقين . قال : (( هذا هو إرث محمد صلى الله عليه وسلم )) .
فإرث النبي صلى الله عليه وسلم العلم والهدى ، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )) (1) .
وقد أمر الله تعالى الناس أن يتوجهوا إلى طلب العلم ويرتحلوا إليه فقال عز وجل : {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }(1) فلا تتم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعثته إلا بهذا الأمر بأن يهتم الناس بميراث النبوة ويرحلوا إليه ويتزودوا منه ثم يرجعوا إلى أقوامهم لينذروهم .
وبهذا انتشر دين النبي صلى الله عليه وسلم في سنوات معدودة وعمّ الجزيرة العربية قبل موته صلى الله عليه وسلم مع أنها مترامية الأطراف وفي سنوات معدودة عمّ العالم كله ببذل الأوقات وصرف الأعمار في التعلم ثم التعليم .
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم الذين سمعوا بالإسلام يحرصون على أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فيتزودوا من العلم ثم يرجعوا إلى قومهم لينذروهم ، وهذا حصل لكثير من الوفود ، ومن ذلك قصة وفد عبدالقيس وهم من أهل عمان في أقصى شرق الجزيرة العربية فقد شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق بينهم وبين المدينة غير آمنة وأن فيها الكفار من مضر وربيعة فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم أمر يتمسكوا به ويتشبثوا به وينجيهم عند الله إن لم يستطيعوا أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم ما ينجيهم عند الله تعالى وقال لهم تمسكوا به واعملوا به وعلموا به من خلفكم .
وكذلك قصة ضمام بن ثعلبة لما وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام وعن شرائع الدين فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بالأمور التفصيلية العملية التي تنجي العبد عند الله إضافة إلى تقرير أصل الدين وهو عقيدة التوحيد وإخلاص الأعمال لله عز وجل فرجع إلى قومه فأسلموا جميعاً ، وغيرهم كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن جهة أخرى كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث أقوام من أهل العلم والفقه في الدين إلى القبائل لتعليم الناس وتفقيههم في الدين ، ومن ذلك بعثه صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري رضي الله عنه إلى اليمن ومعاذ رضي الله عنه بعثه إلى اليمن كذلك وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بعثه إلى اليمن أيضاً وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم .
وقد سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته على هذا الهدي فكان الواحد من الصحابة ممن عاش مع النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وتعلم وتفقه كان يرتحل من بلد إلى بلد من أجل حديث واحد ، ومن ذلك قصة جابر بن عبدالله رضي الله عنهما وهو من كبار علماء الصحابة وحفاظهم ومع ذلك رحل من المدينة إلى مصر وكان أميرها ذلك الوقت عقبة بن عامر رضي الله عنه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن المهاجرين الأولين فرحل إليه جابر رضي الله عنه من أجل أن يتثبت من حديث سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم .
فتأمل في السفر على الأقدام في الحر والأخطار وطول المدة ثلاثة أشهر تقريباً وما في ذلك من السهر والتعب ومع هذا لم يكن الواحد منهم يستثقل السفر في طلب العلم والدين والتفقه فيه والتثبت من العلم ، وهكذا سار المسلمون على مر الزمان على هذا الهدي القويم والصراط المستقيم .
وقد ألف العلماء مؤلفات في باب الرحلة في طلب الحديث والعلم والتفقه في الدين فكان الواحد يرحل من بلد إلى بلد يطوي الليالي حافي الأقدام عاري البدن جائع البطن يتعرض للأخطار المختلفة من أجل طلب علم النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورثه أمته ويتفقه في دين الله ليتقرب بذلك إلى الله عز وجل .
وأئمة الإسلام والأمة قد رفع الله ذكرهم ونشر فضلهم لأنهم بذلوا أنفسهم لله عز وجل والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا ، فمن من الأمة يجهل الإمام أحمد أو الإمام البخاري أو الإمام مسلم رحمهم الله جميعاً وغيرهم من أئمة الدين الذين بذلوا أنفسهم لله تعالى فإذا ذكروا فإنهم يذكرون بالخير ويترضى الناس عنهم فلهم على الناس منة فقد حفظوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وميراثه .
وتأمل كم كان في عهد الإمام أحمد من التجار وغيرهم ليس لهم ذكر ولا يُعرف منهم أحد .
والإمام أحمد – رحمه الله – بيننا وبينه ألف سنة تقريباً وقد ولد ببغداد ونشأ يتيماً ولكن كان له أم صالحة مباركة ، فقد نشأته على الخير والبر والتقوى وعلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد كانت تتحجب قبل صلاة الفجر فتأخذ بيد ابنها أحمد وتذهب به إلى المساجد التي فيها حلق العلم وتنتظره حتى ينتهي من الحلقة فتأخذه إلى البيت ، فقد أنار الله قلب الإمام أحمد ونور بصيرته فعرف أن هذا الطريق وإن كان شاقاً إلا أنه هو طريق الكرامة في العاجل والآجل ، فلا تستغرب أن الإمام أحمد يسافر في طلب الحديث فتنتهي نفقته فيقوم بحمل أمتعة الناس ويأخذ على ذلك الأجرة ليصل إلى العالم الذي توجه إليه ، وفي مكة تنتهي نفقته فيبقى في البيت أياماً لا يستطيع الخروج إلى حلقات العلم ؛ لأنه لم يجد ما يستر به سوأته فتنبه له بعض رفقائه فأحضروا له لباساً فخرج لطلب العلم ، وغيره كثير من أهل العلم .
وقد جمعت الرحلة في طلب الحديث جماعة من المحدثين وهم : محمد بن خزيمة إمام الأئمة ، ومحمد بن جرير الطبري ، ومحمد بن يزيد المقرئ ، ومحمد الروياني وعندما كانوا في مصر انتهت نفقتهم وصبروا اليوم الأول والثاني والثالث ثم تشاوروا فاستقر رأيهم أن يذهب أحدهم يطلب لهم الصدقة من الناس فعملوا قرعة بينهم فوقعت القرعة على أحدهم فقام يصلي في الليل ويسأل الله تعالى وبينما هم كذلك فإذا بأصوات مرتفعة والباب يطرق عليهم فخرج أحدهم فإذا برجل الشرطة يقف على الباب ويقول : أين محمد بن خزيمة ؟ أين محمد بن جرير ؟ أين محمد بن يزيد ؟ أين محمد الروياني ؟ فدفع لكل واحد منهم صرة من المال وقال : إن الأمير وهو نائم هب من نومه فزعاً وقال : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له : أدرك المحمدين فإنهم من ثلاثة ليال لم يذوقوا طعاما ، فقد أرسل الأمير بهذا المال لكل واحد منكم ، ويطلب منكم الحضور عنده غداً .
فلما عرفوا أن أمرهم قد اتضح ساروا بالليل حتى لا يُعرفوا فيفتنوا بالدنيا .
وهكذا بذل العلماء أوقاتهم وصرموا أعمارهم في طلب العلم وتعليمه ففازوا برضوان الله في الآخرة والذكر الحسن في الدنيا وسبيلهم هو سبيل النجاة فمن أراد الخير لنفسه في الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم وحضور مجالسه .
ولا أقل في طلب العلم من حد يصحح به عقيدته وعبادته ومعاملاته ، فإن قصر في هذا الحد والمقدار فإنه يأثم عند الله ولا يقبل الله معذرته إلا بعذر يرضاه الله وليس من العذر الكسل ، أو إشغال الأوقات باللهو واللعب ولا الاشتغال بالدنيا حتى يفنى العمر وهو في جهل بدينه وحدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .
فالمقصود أن الجهل آفة خطيرة وإن من الجهل ما يزينه الشيطان ويلبس به على الإنسان ، حتى أنك تسمع الآن من بعض الناس من يقول : أنه إذا تعلم وتفقه في الدين تقوم عليه حجة الله ونسي هذا الجاهل أن حجة الله قامت على الخلق جميعاً ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعـالى : {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (1) فالله تعالى يرسل الرسل المبشرين والمنذرين حتى لا يكون لأحد حجة على الله بعد ذلك .
والبعض من الناس يقول : أن العلم يضره ، وهذا القول لا يعرف حتى عند الكفار لأنه من المعلوم أن العلم ينفع ويرفع صاحبه ، فكيف إذا كان هذا العلم يؤدي إلى رضوان الله وجنته وإلى وعد الله الحق بحصول الرضوان والرحمة فلا يمكن أن يكون ضرراً بل هو خير بل لا خير إلا فيه ولا خير إلا من طريقه ولذلك حصر النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية في الفقه في الدين فقال صلى الله عليه وسلم : (( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين )) ومعناه أن من لم يتفقه في الدين فلا خير فيه أي لم يجعل الله فيه خيرا .
فسبحان الله كيف انعكست المفاهيم عند الجهلة حتى أصبح حضور مجالس العلم وطلب العلم في نظرهم مضر ؟!!
فالواجب على المسلم أن يحمد الله إذا تيسر له سبيل إلى طلب العلم فإنه إذا يسر الله له سبيل إلى طلب العلم يسر الله له بذلك طريقاً إلى الجنة قال صلى الله عليه وسلم : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع )) .
وفي رواية : (( إن الملائكة تحفه بأجنحتها )) .
فانظر إلى هذا الفضل العظيم فالملائكة الأطهار الأبرار تضع أجنحتها تواضعاً لطالب العلم تعظيماً له وإكباراً لنبل غايته التي يطلبها ، وتحفه بأجنحتها حفظاً له وحماية ونصرة ، ولذلك فإن مـجالس العلم بعيدة عنها الشياطين ؛ لأن الملائكة تحفها بأجنحتها .
فالعلماء مع ما أعطاهم الله من العلم ألا أنهم يحرصون على حضور حلقات العلم والتزود منه ، فقد كان الإمام العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – شديد الحرص على حضور المحاضرات في الجامع الكبير في الرياض إذا كان موجوداً وعنده فراغ يستفيد ويفيد وغالباً بعد المحاضرة يقوم ويعلق ويشكر المحاضر فيما أجاد فيه وينبهه إن كان لديه أخطاء ، فإذا كان هذا حال العلماء الكبار فنحن من باب أولى .
فنسأل الله لنا ولكم الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، فإن الأمر الرشيد هو طلب العلم فإذا عزم الله لنا على هذا الرشد فإنا نكون قد حصلنا خيراً كثيرا خير من الذهب والفضة .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أبو داود في باب : في فضل العلم برقم (3641) من حديث أبي الدرداء t