دروس صيف عام 1427هـ
الدرس السابع
شرح حديث :
(( إنما الأعمال بالنيات … ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله الصادق الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد
فيقول الإمام البخاري – رحمه الله – حدثنا الحميدي عبدالله بن الزبير قال : حدثنا سفيان [1] قال : حدثنا يحي بن سعيد الأنصاري [2] قال : أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي : أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه )) [3] .
والحديث مروي كاملاً عند البخاري – رحمه الله – وعند غيره وهو عن الحميدي وعن مشائخه كاملاً .
لكن لماذا اختصره البخاري هنا ؟
هذه معركة بين العلماء في تحديد السبب الذي جعل البخاري يختصره هنا .
هل هي على منهجه وطريقته في اختصار الحديث ؟
أو هو كما قال الحافظ ابن حجر : حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة فراراً من التزكية . انتهى (1)
فهو يريد أن يذكر نفسه أنه إن فسدت نيته فليس له من عمله هذا أجر ولا ثواب لذلك ذكر هذه المسألة التي تدل على بطلان العمل إذا فسدت النية .
ولم يذكر الجانب الأول لكون فيه نوع تزكية ، والله أعلم .
هذا الحديث الشريف قد افتتح الإمام البخاري به كتابه ، لأن مشائخه منهم : أحمد بن حنبل وعبدالرحمن بن مهدي وكذلك مشائخ مشائخه كالشافعي وغيره يقولون : ينبغي على كل من ألف أن يبتدئ بهذا الحديث ، فهو فاتحة الأحاديث كمـا أن الفاتحة فاتحة القرآن .
حتى تصح المقاصد ويبعد الإنسان عن نفسه شوائب الرياء والسمعة التي تفسد والعمل وتحبطه ولا يجني الإنسان منها خيراً .
فهذا الحديث له منزلة عظيمة عند علماء المسلمين ، قال بعضهم : هو نصف الإسلام ؛ لأن الأعمال إما أن تكون أعمال ظاهرة أو باطنة وهذا الحديث يتكلم عن الأعمال الباطنة .
وأما النصف الظاهر فقالوا حديث عائشة رضي الله عنها : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) (1) .
فلابد من اكتمال الشطر الأول وهو صلاح الباطن وطهارته وأن يكون العمل لله الواحد الديان ، والشطر الثاني وهو موافقة العمل في الظاهر لسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا مؤيد بالقرآن قال تعالى : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (2) .
فقوله : {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} أي موافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً على الأهواء .
وفي هذا رد على جميع المحدثات والبدع والخرافات التي اتبعها الناس بأهوائهم واستحسنوها وهي خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت صالحاً لسبق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما لم يعملها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرشد إليها دل هذا على أنها ليست بصواب ؛ لأن الله تعالى قد أكمل لرسوله الدين وأتم له النعمة وأتم به النعمة وأتم عليه النعمة فأي نعمة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فليست بنعمة وأي عمل صالح لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فليس بعمل صالح وأي عمل يقرب إلى الله لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقرب إلى الله ؛ لأن الأمر ليس على أهواء الناس إذ لو كان على أهواء البشر لما أرسل الله الرسل ولترك الناس يجتهدون في ذلك .
ومن الأدلة من القرآن قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (1) .
قال الفضيل بن عياض – رحمه الله – : أحسنه أخلصه وأصوبه . قالوا : ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا لم يكن صواباً لم يقبل وإذا لم يكن خالصاً لم يقبل .
وقد قال بعض العلماء عن هذا الحديث : أنه ثلث الإسلام فالثالث الأول حديث عمر هذا والثاني حديث عائشة والثالث حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى إلا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) (2) .
وبعض العلماء يقولون : هو ربع الإسلام فيزيدون حديث : (( من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه )) .
فالحديث حديث عظيم ، قال عبدالرحمن بن مهدي – رحمه الله – : يدخل في ثلاثين باباً من العلم ، وقال : ينبغي لكل من ألف أن يصدر تأليفه بهذا الحديث .
وقال الشافعي – رحمه الله – : أنه يدخل في سبعين باباً من العلم .
بل قال بعضهم : يجعل هذا الحديث في صدر كل باب ؛ من أجل أن يتذكر الإنسان في كل باب من أبواب العلم وعند كل مسألة أهمية النية وأنها إن كانت فاسدة فإن العمل لا يقبل .
وهذا كما قلنا مؤيد بالقرآن قال تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) أي قلوب مخلصة لله تعالى بعيدة عن الرياء والسمعة لا تريد إلا وجه الله والدار الآخرة .
وهو كذلك مؤيد بالأحاديث المتواترة من حيث المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم – في قصة الجيش الذي يخسف به بقرب المدينة – : (( … يخسف بهم ويبعثون على نياتهم )) . فالنية تنقذ صاحبها إذا كانت صالحة .
وفي هذا تنبيه على مسألة خطيرة وهي أن على الإنسان ألا يجالس أهل الشر ولا يسير معهم فإن أبى إلا الـجلوس معهم فإنه يصيبه ما أصابهم في الدنيا وأما في الآخرة فيتميزون بنياتهم وأعمالهم التي يعلمها الله .
وفي زمن عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – جيء بجماعة كانوا يشربون الخمر فجلدوا فكان منهم شخص ليس منهم قيل أنه رآهم مجتمعون فجلس معهم وقيل أنه كان صائماً ، قال : به فابدأوا .
وفي عهد الخليفة العباسي المهدي أُتي له بجماعة من الزنادقة ، فلما رآهم رجل طفيلي (2) قال : هؤلاء يذهبون إلى وليمة فدخل معهم ، فلما وصلوا إلى المهدي أمر بقطع رؤوسهم ، وقد كان عددهم عشرة ، فقال المهدي : من الحادي عشر ؟ قال الرجل : أنا لست منهم إنما أنا رجل طفيلي رأيتهم فظننت أنه يذهبون إلى مائدة طعام . فضحك الخليفة وأمر بعزله وجلده حتى لا يسير مع أحد حتى يعلم ما هم عليه .
فلابد من الحذر من مجالسة الأشرار ، فالقلوب جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثل قال صلى الله عليه وسلم : (( مثل الجليس الصالح كحامل المسك إما أن تبتاع منه وإما أن يحذيك وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ومثل الجليس السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة )) .
وكذلك مجالسة الأشرار لو لم يكن فيها إلا السمعة وهي المشار إليها في الحديث بالرائحة الخبيثة ، حتى لو لم يرض سلوكه ولم يصاحبه في الشر إلا أنه يبقى محل إساءة الظن من قبل الناس .
قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى …. )) الحديث .
لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة قال : أريد أن أبايعك على الهجرة قال صلى الله عليه وسلم : (( لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية )) .
وقد كانت الهجرة في بداية الإسلام أوجب الواجبات على المسلمين الذين لا يستطيعون إقامة الدين خاصة أهل مكة .
فالجهاد له أغراض فالغاية العظمى والمقصد الأكبر أن تكون كلمة الله هي العليا ولذلك لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : الرجل يقاتل حمية ويقاتل ليعرف مكانه أي ذلك في سبيل الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) .
وفي مسند الإمام احمد قال صلى الله عليه وسلم : (( كم من قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته )) فالمسألة على ماذا مات ؟ ما هي النية التي حركته والمقصد الذي دفعه ؟
فعلينا أن نجاهد أنفسنا في هذا الأمر .
فكم من مصلي في الصف الله أعلم بنيته وكم من منفق للأموال والله أعلم بنيته .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كمـا في صحيح الإمام مسلم – رحمه الله – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن أول الناس يُقضـى يوم القيامة عليه رجل استشهد ، فَأُتِىَ به فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قال : فما عملت فيها ؟ قال قاتلتُ فيك حتى استشهدتُ . قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال جريءٌ ، فقد قيل . ثم أُمر به فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النار . وَرَجُلٌ تَعَلّمَ الْعِلْمَ وَعَلّمَهُ وَقَرَأَ القرآن . فَأُتِيَ به فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا .قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمتُ العلمَ وعلمتُهُ وقرأتُ فيك القرآنَ . قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالمٌ . وقرأت القرآن ليقال هو قارئٌ . فقد قيل . ثم أُمِرَ به فسحب على وجهه حتى أُلْقِيَ في النار . ورجل وَسّعَ اللهُ عليهِ وأعطاهُ من أصناف المال كله . فَأُتِىَ به فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا . قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيلٍ تُـحِبّ أَنْ يُنْفَقَ فيها إلا أَنْفَقْتُ فيها لك . قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال هو جوادٌ . فقد قيل ، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهه ثم أُلْقِيَ في النّارِ )) (1) .
فإذا كان هذا حال من يفعل هذه الأعمال الفاضلة الكبيرة العلم قال صلى الله عليه وسلم : (( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين )) وتعليم والقرآن قال صلى الله عليه وسلم : (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )) ولكن بسبب فساد النية يكون أول من تسعر به النار فكيف بغيره ؟
فلا يغتر الإنسان بعمله بل يجاهد نفسه على الإخلاص وقد كان السلف الصالح – رحمهم الله – يـحذرون من شوائب الرياء والسمعة .
يقول سفيان الثوري – وهو إمام المسلمين في زمانه – : ما جاهدت نفسي على شيء أشد من مجاهدتها على الإخلاص .
هذا مع سهرهم في طلب العلم وقطعهم القفار حفاة عراة في طلب الحديث وتعلم العلم يقولون مثل هذا .
فالإخلاص يحتاج إلى تفتيش القلب ، قال بعض السلف : كنا نظن أن الحديث الواحد يحتاج إلى نية وإذا به يحتاج إلى نيات .
والشيطان يأتي إلى الإنسان ليزين صلاته من أجل نظر أحد إليه وفي الحقيقة أن الإنسان إذا تأمل هذا وفكر فيه جيداً لاحتقر نفسه ولوجد أن الناس لا يفكرون في هذا ولا يعجبون به ولهانت عليه نفسه وهان عليه العمل الذي يؤديه واحتقر نفسه وازدراها ؛ لأن هذا هو الواقع فمهما يعمل الإنسان من العمل لله ويحسنه ويتقنه إلا أنه محتقر ، يقول كعب الأحبار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه – لما قال له خوفنا بالله – قال : يا أمير المؤمنين لو أتيت يوم القيامة بعمل سبعين نبي لاحتقرته وازدريته مما ترى .
فنعمة من نعم الله تعالى تعادل عمل عشرات السنين من غير معصية فكيف مع المعاصي ؟ وكيف مع الإساءة في نفس العمل ؟
فالشيطان حريص على إفساد العمل وإبطاله وهو أحرص ما يكون على أنجى ما يكون للعبد ، وأنجى ما يكون للعبد هو إخلاصه لله ، فإذا كان الشيطان يحول بين العبد وبين أقل شعب الإيمان وهو إماطة الأذى عن الطريق فما بالكم بأعلاها وهو إخلاص الدين لله ؟
فعلى العبد أن يراقب قلبه وأن يجاهد نفسه لعل الله أن يجعل له فرجاً ومخرجاً قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
تتمة الشرح من الشريط الثاني
وهذا الحديث يدل على أن الله تعالى لا يأبه لعمل مهما علت منزلته إلا إذا كان خالصاً لوجهه الكريم سبحانه وتعالى قال تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ويقول تعالى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (1) .
قال العلماء : وصية الله للأنبياء أن يعبدوا الله وحده لا يشركون به شيئاً ، هذه هي وصية الله للأنبياء ووحيه الذي أوحاه إليهم وكلفهم به وأمرهم أن يبلغوه البشرية ولذلك قال تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي البشرية كافة .
وبصلاح النية يثاب الإنسان حتى لو قصر في عمله ولذا ورد في الحديث : (( نية المؤمن خير من عمله )) وهذا ليس بحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ورد من طرق مختلفة وكلها ضعيفة ، ولكن معناه صحيح .
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً فعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( …. إِنَّمَـا الدنيا لأربَعَةِ نَفَرٍ عبدٌ رَزَقَهُ الله عز وجل مالاً وعلماً فهو يَتَّقِي فيه رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ للهِ عز وجل فيهِ حَقَّهُ ، قَالَ : فَهَذَا بأفضلِ المنازلِ ، قال : وعبدٌ رَزَقَهُ الله عز وجل علماً ولم يَرْزُقْهُ مالاً ، قال : فَهُوَ يَقُولُ : لو كان لي مالٌ عملتُ بِعَمَلِ فُلاَنَ ، قال : فأجْرُهُـمَـا سواءٌ ، قال : وعبدٌ رَزَقَهُ الله مالاً ولم يرزقهُ علماً فَهُوَ يَـخْبِطُ في مَالهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتَّقِي فيهِ رَبَّهُ عز وجل ولاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِـمَـهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ لله فيه حَقَّهُ فَهَذَا بِأَخْبَثِ المنازلِ ، قال : وعبدٌ لم يَرْزُقْهُ الله مالاً ولا علماً فَهُوَ يَقُولُ : لو كان لي مالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ، قال : هِيَ نِيَّتُهُ فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ )) (1) .
فالنية الصالحة ترفع صاحبها إلى منازل العاملين حتى ولو لم يعمل ، فإذا علم الله من العبد صدق نيته وتوجهه فإن الله يبلغه منازلهم ومراتبهم فضل من الله وإحسانا .
فالله سبحانه وتعالى لا يستكثر بأعمال العباد من قلة ولا يستغني بها من فقر فهو الغني بذاته سبحانه وتعالى ، ولكنه يرضيه من عبده أن يتوجه إليه خالصاً وأن يصدق في هذا التوجه .
والصنف الآخر من الناس الذي يتخبط في مال الله ، فيأخذ المال من غير وجهه الذي أحله الله وينفقه فيما لم يأذن الله به ومعلوم أن الإنسان لو أنفق درهماً في الحرام فإنه يصبح من المبذرين عند الله عز وجل ؛ لأن التبذير من عدمه ليس بقدر المال المصروف وإنما بوجهه الذي يُنفق فيه ، ولا يعتبر إنفاق المال من الإسراف إلا إذا كان في أمر لا يأذن الله به ، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنفق ماله في سبيل الله أكثر من مرة لا يبقي لأهله إلا الله ورسوله ، ومع ذلك لم يعد من المبذرين وعمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنفق نصف ماله في سبيل الله ولم يُعد من المبذرين وعثمان رضي الله عنه جهز جيش العـسرة بأكثر من سبع مائه راحلة بكامل جهازها وجاءت قافلة ودفع له فيها ثلاثة أضعافها فرفض وأنفقها على الفقراء والمساكين ولم يعد ذلك تبذيراً .
فالتبذير والإسراف ليس بكثرة إنفاق المال أو قلته وإنما هو بالوجه الذي ينفق فيه فإذا أنفق في وجه يرضاه الله تعالى فليس بتبذير .
فالنفقات الواجبة التي أوجبها الله على عباده لا تعد تبذيراً إذا أنفق العبد فيها ممتثلاً أمر الله ومتقرباً إليه يبتغي بذلك وجه الله ، وكذلك الإنفاق في القربات والطاعات كبناء المساجد والملاجئ ودور الأيتام ومدارس تحفيظ القرآن وحلقاته والإنفاق على الدعوة إلى الله عز وجل كطباعة الكتب ونشرها فلا يعد تبذيراً لو أنفق العبد فيها كل ماله .
فالنية الصالحة ترفع صاحبها ، بينما العمل إذا لم تقترن به نية صالحة فإنه لا ينفع صاحبه ، فصح معنى الحديث الضعيف : (( نية المؤمن خير من عمله )) وهذا هو معنى : (( إنما الأعمال بالنيات … )) أي الأجر والثواب على قدر النية .
ولذلك ينبغي لكل مسلم أن يحذر من الشوائب التي يمكن أن تدخل على النية منها :
الريا : وهو آفة خطيرة وداءٌ وبيل إذا تمكن من النفس أفسدها وإذا تمكن من العمل أحبطه ، إذا اقترن بالعمل من أوله أحبطه بإجماع المسلمين وإذا طرأ على العمل فإن غلب يحبط العمل وإن دافعه العبد فلعل الله تعالى أن يتولى العبد برحمته ومغفرته ، قال صلى الله عليه وسلم : (( الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل )) .
فالرياء يجعل العبد يعمل ويسعى ولكن إلى خـسران ووبال : {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} (1) فلابد من المجاهدة والمصابرة .
ومما يدخل في قوله : (( إنما الأعمال بالنيات … )) معاملات العقود سواءً كانت عقود النكاح أو عقود المعاوضات أو غيرها فإنها على حسب المقاصد ؛ لأن العبرة بالقصد والنية لا بالألفاظ والحركات وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) .
فمحط نظر الله تعالى هي القلوب وحركاتها وأعمالها وكذلك الأعمال إذا وافقت النيات الصادقة فإنها تكون محط نظر الله وعنايته ومراقبته جل وعلا ، وأما الصور والأموال فإن الله تعالى لا يحاسب العبد على شكله ولونه ولكن يحاسبه على أعمال القلب وحركاته وأعمال الجوارح ونطق اللسان .
فعلينا أن نجتهد في إخلاص النية ومراقبة الله تعالى ونعتني بقلوبنا في كل عمل بل في العمل الواحد كما سمعنا كلام العلماء أن الحديث الواحد يحتاج إلى نيات ؛ لأن الشيطان للعبد بالمرصاد فقد أقسم بعزة الله ليغوينهم أجمعين كما حكى الله ذلك عنه بقوله تعالى : {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (1) أي الذين استخلصهم الله عز وجل وشملهم برعايته وعنايته وحفظه فهؤلاء ليس للشيطان عليهم سبيل ، ومن عداهم فإنهم لعبة الشيطان يتلاعب بهم .
فنسأل الله لنا ولكم العصمة والسلامة في الدين والدينا والآخرة ونسأله تعالى أن يرزقنا وإياكم البصيرة وأن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وأن يعيذنا وإياكم من الشيطان الرجيم ومن مضلات الفتن .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو سفيان بن عيينة – رحمه الله
2- يحي بن سعيد الأنصاري : كان قاضي المدينة في عهد عمر بن العزيز – رحمه الله
3- صحيح البخاري كتاب : بدء الوحي – باب : كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (1) وهذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا رواه عنه إلا علقمة بن وقاص الليثي ولا رواه عنه إلا محمد بن إبراهيم التيمي ولا رواه عنه إلا يحي بن سعيد الأنصاري ثم رواه عن يحي بن سعيد الأنصاري مائتان وخمسون عالماً من علماء الإسلام منهم : الإمام مالك وعبدالله بن المبارك وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة ، وقد أخرجه الأئمة الستة
1- انظر الفتح ( 1 / 41 ) طبعة دار طيبة
1- هذه رواية مسلم في صحيحه ، والرواية التي اتفق عليها البخاري ومسلم هو قولها عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))
2- الطفيلي : الذي يتتبع الموائد
1- باب : من قاتل للرياء والسمعة استحق النار برقم (1905)
1- سورة العنكبوت الآية (69) .
1- أخرجه الإمام أحمد (4 /231 – الطبعة القديمة )