شروح الحديث

الحديث الثامن

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله الصادق الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين         وبعد :

 

الحديث   الثامن :

عَنْ عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ : كُنتُ  خَلفَ  النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  يوما  فقال  : (( يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكُ كَلماتٍ : احفَظِ الله يَحْفَظْكَ ، احفَظِ الله تَجِدْهُ تجاهَكَ ، إذا سَأَلْت فاسألِ الله ، وإذا استَعنْتَ فاستَعِنْ باللهِ ، واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أنْ ينفعوك بشيءٍ ، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كَتَبَهُ الله لكَ ، وإنِ اجتمعوا على أنْ يَضرُّوكَ بشيءٍ ، لم يضرُّوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ الله عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ )) رواه الترمذيُّ وقال : حديثٌ حسن صَحيحٌ .

 

وفي رواية لغير التِّرمذي : (( احفظ الله تجده أمامَك ، تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاء يَعْرِفْك في الشِّدَّةِ ، واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ ، وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ ، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسراً )) .

 

هذا الحديث العظيم وهذه الوصايا العظيمة النافعة وصى بها النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس ابن عمه وكان صغيرا وأردفه خلفه على الدابة ثم وجه له هذه النصيحة .

(( إني أعلمك كلمات )) أي : كلمات تستطيع حفظها وتسهل عليك .

أولها : (( احفظ الله يحفظك )) :

إذا أردت أن يحفظك  الله فاحفظ الله عز وجل .

وكيف تحفظ الله والله غني عن العالمين ؟

تحفظ الله  بحفظ ما أمرك الله بحفظه من أوامره ومن نواهيه فالأوامر تؤديها والنواهي تنتهي عنها ، هذا هو حفظك لله .

وحفظك لكتابه وحفظك لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم  أن تلتزم بما أمرك الله به وأمرك به رسوله صلى الله عليه وسلم وأن تنتهي عما نهاك الله عنه ونهاك عنه رسوله صلى الله عليه وسلم .

فهذا هو الحفظ من قبل العبد ؛ لأن العبد ضعيف وهو في حاجة لمن يحفظه لكن حفظه الله بحفظ أوامر الله واجتناب نواهي الله .

فإذا فعلت ذلك حفظك الله من كل مكروه سواء في بدنك وصحتك أو في مالك أو في أهلك وأعظم ذلك حفظ الله لدينك وخاتمتك بأن تموت على الإسلام والسنة ، فهذه كلمة عظيمة وهو ميزان .

الميزان طرفه بيد الله عز وجل والله لا يخلف الميعاد ، وطرفه بيد العبد فإن وفىّ العبد فالله سبحانه وتعالى أعظم وأكرم وأجل وهو أهل الوفاء وأهل اللطف سبحانه وتعالى ، وإن قصر العبد فلا يجني إلا على نفسه ولا يضر الله شيئا .

(( احفظ الله تجده تجاهك )) : 

وهذا أيضا مما سبق وهو أنك بحفظ أوامر الله عز وجل وحفظ ما أمرك الله بحفظه والقيام به وترك ما نهاك عنه فإن الله سبحانه وتعالى يكون (( تجاهك )) : أي : يستجيب دعوتك ويرفع لك شأنك وقدرك وينصرك على كل من أرادك بسوء ، إن سألت الله أعطاك وإن استغثت به أغاثك وإن استعنت به أعانك .

(( إذا سألت فاسأل الله )) :

لأن الله هو مالك كل شيء .

حتى من يعطيك من الخلق فإنما يعطيك بتقدير الله وتدبيره ، فالله هو الذي قدر أن يعطيك أو قدر أن يمنعك .

إذاً اسأل الله ولا تتعب نفسك خلف الناس .

 

(( وإذا استعنت فاستعن بالله )) :

كذلك العون الحقيقي هو من الله .

حتى لو أعانك بعض الناس بشيء يقدرون عليه فإنما  ذلك بتقدير الله وتيسيره له ، وإلا فالخلق عاجزون وهم يبحثون عن مصالحهم وعمن يعينهم وينفعهم فلولا أن الله قدر المقادير وقدر أن ينفعوك لم ينفعوك بشيء .

ولذلك يقول : (( واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أنْ ينفعوك بشيءٍ ، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كَتَبَهُ الله لكَ ، وإنِ اجتمعوا على أنْ يَضرُّوكَ بشيءٍ ، لم يضرُّوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ الله عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ )) .

فالله قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض ومن ذلك ما يقدره للعبد في ذاته فإن قدر له نفعا عن طريق الناس فإن الله سبحانه وتعالى يسخرهم حتى يقدموا لك هذا النفع .

وإن لم يقدر هذا فإن الناس كلهم لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك .

 

إذاً عليك بالتعلق بالله وحده وسؤاله وحده والاستعانة به وحده ولا تنظر إلى الناس ولا تتشوف إلى ما عند الناس فإنما هم مسخرون بتسخير الله إن كان الله قد قدر أن ينفعوك بشيء نفعوك ، وإن لم يقدر أن ينفعوك فلن ينفعوك ولو اجتمعوا كلهم على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله من قبل في الأزل قبل أن يخلق السماوات والأرض .

إذاً لا تتعب نفسك خلف الناس واحرص على رضا الله واحرص على ما يقربك من الله .

 

في رواية غير التِّرمذي قال : (( احفظ الله تجده أمامَك )) :

وهذا من المعنى الذي سبق وهو أنك إذا حفظت الله في أوامره وناهيه فعلت الأمر واجتنبت النهي وكنت مع الله عز وجل محتميا بجنابه سبحانه وتعالى في غاية الذل والحب والتعظيم لله فإن الله يكون أمامك بالخير وتسهيل أمورك وصرف الشر عنك .

 

(( تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاء يَعْرِفْك في الشِّدَّةِ )) :

أي : في زمن العافية داوم على الطاعة وداوم على الصلاة في المساجد لا تخالط الأشرار الذين يثبطوك عن الخير وعن الصلوات وعن غيرها تعرف على الله في الرخاء بفعل الطاعات يعرفك في الشدة .

 

وقد ضرب الله في القرآن الأمثال ومن ذلك ما قصه الله من قصة يونس u لما التقمه الحوت لجأ إلى الله فالله سبحانه وتعالى عرف له السابقة الأولى وهو أنه تعرف إلى الله في أيام الرخاء فأنقذه من هذه الشدة العظيمة التي لا يستطيع أحد أن ينقذه إلا الله : {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ  } أي : في أيام الرخاء كان من المسبحين العابدين لله القائمين بحقوق الله : {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ  * لَلَبِثَ فِي  بَطْنِهِ  إِلَى  يَوْمِ  يُبْعَثُونَ }[1] من يستطيع أن يخرجه من  بطن  الحوت  إلا الله  عز وجل .

ولذلك أنقذه الله بصلاحه واستقامته السابقة على دين الله وطاعته لله والقيام بحقوق الله عز وجل .

فكن يا عبدالله من هذا الصنف أن تتعرف إلى الله في زمن العافية وزمن الرخاء فإذا نزل بك شدة أو نزل بك كرب كان الله قريبا منك وكان الله مؤيدا لك وناصرا لك ومنقذا لك من المهلكات .

 

(( واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ )) :

لأن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض فالذي قدره الله سيمضي سواء كان خيرا أو شراً : (( واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ )) وبعض الناس يقول لو فعلت كذا لكان كذا ولو ما فعلت كذا لكان كذا ، هذا من تلاعب الشيطان بالإنسان لأنه لو كان الله قدره في الأزل كان مضى سواء رضينا أو لم نرض .

 

(( واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ )) :

أي : الانتصار على المصاعب والمشاق والمتاعب إنما يكون بالصبر والاحتساب ومن صبر واحتسب نال الفرج ونال الخير الكثير .

ومن ذلك النصر في مواقف القتال لمن كفر بالله لا يتم ولا يحصل إلا بالصبر ولذلك ورد : (( إنما النصر صبر ساعة )) .

وقيل عن شهر رمضان شهر الصبر لأنه صبر عن الطعام والشراب والشهوة نهار رمضان .

(( وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسراً )) :

أي : إذا نزل الكرب فانتظر اليسر وأن مع العسر يسرا ، والله سبحانه وتعالى في القرآن قال : {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }[2] فجعل العسر معرفا [ بال ] التعريف وجعل اليسر مُنَّكراً من غير تعريف فكررها مرتين فدل ذلك على أن العسر واحد واليسر اثنان ؛ لأن الـمُنّكر يتعدد بتكرره وأما الـمُعرّف فلا يتعدد بتكراره ولذلك ورد : (( لن يغلب عسرٌ يسرين )) { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } .

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن حفظ الله فحفظه الله في نفسه وأهله وماله ودينه قبل ذلك كله ودنياه وأخراه .

 

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

 

1- سورة الصافات الآية (143- 144) .

2- سورة الشرح الآيات (5-6) .