إسعاد الإخوان الكرام
بفوائد عمدة الأحكام
تأليف
علي بن عبدالرحيم الغامدي
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
الطبعة الثانية 22 ذو القعدة 1445هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70] أما بعد
فقد وقع الاختيار على كتاب [ عمدة الأحكام ] ليكون التدارس في هذا اللقاء فيه وهذا الاختيار له فوائد :
1- أن هذا الكتاب اقتصـر مؤلفه – رحمه الله- على الأحاديث من صحيح البخاري ومسلم فليس فيه حديث ضعيف
2- أن هذه الأحاديث انتقاها إمام حافظ جهبذ من جهابذة العلماء ومن أئمة هذه الملة والدين مشهود له بالعلم والإمامة والجلالة وهو الإمام عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي – رحمه الله
وقد أثنى العلماء على هذا الإمام ثناءً عاطراً من معاصريه وممن جاء بعدهم وذلك لجلالة قدره وعظيم منزلته في العلم وكذلك في العمل فإنه كان يصلي من بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر ثلاثمائة ركعة يومياً ، وهذا يدل على اهتمامه بنفسه وعدم تضييعه لأوقاته وإنما كان يحرص على وقته ونفسه ويعلم أن كل لحظة تمضي من حياته يُنتقص من عمره ولذلك لم يضيع وقته سدى ولا هباءً ، كان يصلي العشاء ثم ينام نصف الليل ثم يقوم ثلث الليل ثم ينام السدس الأخير اقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وكان أكثر أيامه صائماً لله عز وجل يرجو رحمة الله وفضله وكان من بعد صلاة الفجر يجلس لإقراء القرآن وإقراء الحديث ويستمر على ذلك إلى ما بعد طلوع الشمس فإذا صلى الظهر استمر في التعليم والتدريس أو في نسخ الحديث والكتب إلى غروب الشمس وهو على هذه الحال إما أن يدرس وإما أن يكتب ، فإذا صلى المغرب فإن كان صائماً أفطر وإلا استمر في التدريس والتعليم ثم يصلي العشاء فيدخل إلى بيته فلا يختلط بأحد فينام إلى منتصف الليل وهكذا برنامجه
فهو قد وفقه الله لما علم من إخلاصه وتجرده ومثابرته على ما ينفعه في الدنيا والآخرة وحرصه على التزود من العلم النافع فقد كان يحفظ مئات الآلاف من الأحاديث ، ولما جاء رجل وقال : يا إمام إن رجلاً حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث فهل يحنث ؟ قال : لو حلف على أكثر من ذلك لكان غير حانث
فهذا يدل على أنه كان يحفظ مئات الألوف من الأحاديث ، حفظاً محرراً بمعرفة رجاله وفقهه ولغته وما يستنبط منه والخلافيات التي فيها وغير ذلك من العلوم المختلفة المتعلقة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم
هذا الإمام الجهبذ اشتغل بالعلم والتعليم وله مؤلفات عظيمة منها :
– [ الكمال في أسماء الرجال ] وهو أعظم كتاب في علم الرجال فقد ترجم فيه للمحدثين الذين روى عنهم الأئمة الستة [ البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة ]
– ومن هذه المؤلفات هذا الكتاب العظيم الذي بين أيدينا [ عمدة الأحكام ]
وليس المقصود أنه أحاط فيه بالأحكام كلها ولكنه مختصر فعدد أحاديثه أربعمائة وثلاثة وعشرون حديثاً ، ولكنه أورد في كل باب الأصل الذي يعتمد عليه في هذا الباب
فعمدة الأحكام كتاب محرر قد اختاره المؤلف – رحمه الله – اختيار عالم بصير بالعلم والفقه وموارد الاستنباط ، ولذلك اخترنا هذا الكتاب لهذه الأمور
وعمدة الأحكام له شروح كثيرة وموسعة ، ولكن أيسرها وأسهلها شرح الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام – رحمه الله – المسمى ( تيسير العلام شرح عمدة الأحكام )
والشيخ عبدالله البسام – رحمه الله – من العلماء المعاصرين وهو عالم متفنن فقيه ومفسر ومحدث وكان قاضياً وفي آخر حياته كان رئيس هيئة التمييز بمكة المكرمة وله عدة مؤلفات ومنها هذا الكتاب المبارك وهو فعلاً مُيَّسـر فليس فيه تعقيد فيذكر فيه المعنى اللغوي للحديث ثم المعنى الإجمالي ثم يذكر ما فيه من فوائد من غير دخول في الخلافيات ولا غيرها وأحياناً إذا كان الخلاف كبيراً يذكر طرف الخلاف ولا يتوسع فيه وهذا مناسب لحالنا نحن لأننا الآن نريد أن نتفقه في ديننا ونمشي رويداً رويدا
نسأل الله تعالى أن يجعل لنا فيه خيراً وبركة وأن ينفعنا به كما نفع به عباده الصالحين من قبلنا ، فإن العلماء وطلاب العلم أكبوا عليه تعلماً وتعليماً وتدريساً
والمطلوب منا جميعاً أن نراقب الله تعالى في أقوالنا وأعمالنا وحركاتنا وسكناتنا فإذا حصل هذا ووفق العبد إليه فهو قمة العلم وقمة الانتفاع بالعلم قال الله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر:28]
قال السلف – رحمهم الله – منهم عبدالله بن مسعود وغيره ، قالوا : من خشي الله فهو العالم
فحقيقة العلم ومقصوده أن تحصل للعبد الخشية من الله وأن يكون الله نصب عيني العبد وحاضراً في قلبه في كل لحظة وهو الإحسان : (( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ )) أخرجه البخاري برقم (50) وأخرجه مسلم برقم (9)
وهذا قمة الدين وخلاصته
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المحسنين
كتاب الطهارة
قال المؤلف – رحمه الله – :
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (( إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ – وَفِي رِوَايَةٍ : بِالنِّيَّةِ – وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى , فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا , فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ )) أخرجه البخاري ومسلم
بدأ المؤلف – رحمه الله – بهذا الحديث لأمرين :
الأمر الأول : الاقتداء بإمام الحديث وسيد الحفاظ وإمام المسلمين في زمانه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري – رحمه الله – فقد افتتح كتابه الصحيح بهذا الحديث مع أنه أورده في ستة مواضع بعد ذلك إلا أنه جعله في أول كتابه الصحيح ، لذلك العلماء من أمثال الحافظ عبدالغني – رحمه الله – يقتدون بالإمام البخاري
والاقتداء بالصالحين نور وبركة وخير فإذا كان ذكر الصالحين تتنزل عنده الرحمات فكيف بتقليد أعمالهم الصالحة ؟
لا شك أن في هذا بركة وخير وكذلك اعتراف من المتأخر بفضل المتقدم
الأمر الثاني : أن السلف – رحمهم الله – أطبقت عباراتهم جميعاً على تعظيم شأن هذا الحديث وعظيم منزلته في الدين والعلم ومن عباراتهم المتداولة أنه ينبغي على من ألف في العلم أن يجعل هذا الحديث في بداية كل باب لأن هذا الحديث يدخل في كل باب من أبوب العلم ، العلم الذي يولد العمل فأي علم يحتاج إلى أن يُذّكر الإنسان فيه بهذا الحديث لأن هذا الحديث أصل قبول الأعمـال عند الله عز وجل فلا أجر ولا ثواب إلا إذا حقق العبد الإخلاص لله تعالى في العمل الذي يعمله
فالدين قسمان متلازمان :
القسم الأول : الباطن وهو ما في القلوب وهذا القسم يبينه ويوضحه ويعالجه هذا الحديث ولذلك يهتم به العلماء كما سبق
القسم الثاني : الظاهر هو الذي يراه الناس جميعاً سواءً كان قولاً أم فعلاً ويبينه حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : (( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ )) متفق عليه [ البخاري برقم (2697) ومسلم برقم (1718) ]
وفي رواية لمسلم برقم (1718) : (( مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ))
وعند أبي داود برقم (4606) : (( مَنْ صَنَعَ … ))
ومن هذا نفهم قول الله تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]
قال السلف : إن العمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً صواباً :
والخالص هو : أن يكون لله تعالى لا رياء ولا سمعة ولا طلب محمدة عند الناس
والصواب : أن يكون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه
والنية الصالحة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها ثابت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فبالنية الصالحة يحصل المؤمن على أجر عمله الصالح وعلى تركه للعمل الفاسد
وبالنية الصالحة يثاب على المباحات فمن أكل مباحاً أو شرب مباحاً فنوى قربة إلى الله فإن الله يثيبه على إتيانه المباح مع استمتاعه به وكذلك قضاؤه شهوته فإذا نوى بذلك التقرب إلى الله فإنه يستمتع بشهوته ويكون له أجر وثواب قال صلى الله عليه وسلم : (( وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ )) قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ : (( أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ )) أخرجه مسلم برقم (1006)
بل أعجب من ذلك أنه يُثاب على العمل الصالح إذا قصده ونواه حتى ولو لم يعمله والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد في المسند برقم (18031) (29/561-562) طبعة الرسالة في أثناء حديث طويل وأخرجه قبل ذلك من طرق أخرى مختصراً على القدر المذكور هنا باختلاف يسير برقم (18024) (29/552) طبعة الرسالة :
عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ : عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حَقَّهُ ، قَالَ : فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ ، قَالَ : وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا قَالَ : فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ، قَالَ : فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ، قَالَ : وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ ، قَالَ : وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ، قَالَ : هِيَ نِيَّتُهُ فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ ))
فنية العبد الصالحة تنفعه وإن لم يعمل ولذلك ورد : [ نية المؤمن خير من عمله]
للنية مرتبتان :
المرتبة الأولى : نية العمل بأن يكون العمل خالصاً لله عز وجل فيبتغي به وجه الله والدار الآخرة فلا رياء ولا سمعة ، فالناس يعملون نفس العمل كالصلاة مثلاً ثم يتفاوتون في الأجر تفاوتاً لا يعلمه إلا الله بسبب تحقق الإخلاص فإن المصلي إذا كان دافعه إلى العمل الناس ونظرهم إليه فعمله باطل وهذا غالباً لا يصدر من مسلم وإن طرأ عليه في أثناء العمل فإن دافعه وكره ذلك الوارد فإنه يثاب ثواب المجاهدين وينال حظاً من قول الله تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت :69]
وإن استسلم له فإن كان من أول العمل فإنه يحبطه ويبطله وإن كان في أثناء العمل فقد اختلف العلماء : هل يبطل العمل كله أم ينقص على قدر ما تحقق الرياء فالله المستعان
المرتبة الثانية : التفريق بين الأعمال فيفرق بين العبادات بعضها من بعض كالتفريق بين صلاة الظهر وصلاة العصر والتفريق بين العبادات والعادات كالتفريق بين غسل الجنابة وغسل التبرد والتنظف
– ما المقصود بالنية ؟ وهل يجوز التلفظ بها ؟
حقيقة النية في الشرع قصد القلب وليس المقصود من النية أن يعذب الإنسان نفسه فلا يحتاج أن يتكلف العبد فيها كما يفعل البعض من التلفظ بها عند إرادة الصلاة والبعض يكبر ثم يعيد التكبير مرة ومرتين وثلاث كل ذلك بسبب تشديده على نفسه في أمر النية إذ التلفظ بالنية بدعة لا يجوز ولو قال به بعض العلماء فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
وأما الهجرة فقد كانت في أول الإسلام فرض وذلك لشدة الكفر وأهله على المسلمين حتى فتنوا بعضهم عن دينه فأوجب الله الهجرة من مكة إلى المدينة حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ثم لما فُتحت مكة انتهت فريضة الهجرة من مكة وبقيت في حق من أسلم في دار الكفر ولا يستطيع إظهار دينه وعبادة ربه فيجب عليه أن يهاجر إلى بلاد المسلمين وكذلك من كان في بلاد يحكمها أهل البدع ولا يستطيع العمل بالسنة فيجب عليه أن يهاجر إلى بلاد السنة
وقد تنوعت هجرة المسلمين على مراحل فمنها :
– هجرة من كان يؤذى إلى الحبشة فراراً بدينهم
– هجرتهم إلى المدينة
– هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقهوا في الدين
– هجرة ما نهى الله عنه وهذه لا ينفك المسلم عنها إلا بالموت
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا فالمقصود بالدنيا هنا حصول ما يطلب الإنسان من الدنيا من مال وغيره وهذا أكثر ما يدعو الناس إلى مفارقة أوطانهم
وذكر المرأة وهي من الدنيا التي يطلبها الناس ويهاجرون من أجلها لأنها أعظم متاع الدنيا وأكبر ما يحرص الإنسان على تحصيله
وقد قيل إن السبب في ذكر المرأة خصوصاً ما حصل من أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من أهـل المدينة فـشرطت عليه أن يهاجر فـهاجر فتزوجته وكان اسم المرأة أم قيس فكان يقال له : مهاجر أم قيس
والقصة صحيحة أخرجها الطبراني وغيره ولكن لم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحديث بسبب هذه الحادثة
وقد أراد أبو طلحة قبل إسلامه أن يتزوج أم سليم فشرطت عليه أن يُسلم فأسلم فتزوجته ولم يكن بذلك بأس
الحديث الثاني
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ ))
– أخرجه البخاري برقم (6954) في كتاب : الحيل باب : في الصلاة
– ومسلم برقم (225) في كتاب : الطهارة باب : وجوب الطهارة للصلاة وهذا لفظ البخاري
– وفي رواية : قال رجل من حضرموت : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : فساءٌ أو ضراط
– راوي الحديث :
هو الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه وقد اختلف في اسمه على خمسين قول وأرجحها أن اسمه [ عبدالرحمن بن صخر ] وهو دوسي أزدي من زهران
أسلم ووفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح خيبر فمنذ ذلك الوقت وهو ملازم للنبي صلى الله عليه وسلم إن جاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاع معه وإن شبع شبعَ معه حتى قال عن نفسه : لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً عليَّ من الجوع فيمر الرجل فيجلس على صدري فأرفع رأسي فأقول : ليس الذي ترى إنما هو الجوع
وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه من أهل الصفة وهم قوم من المسلمين ليس لهم أهل ولا مال يفدون إلى المدينة فينزلون في الصفة بالمسجد فإذا جاء للنبي صلى الله عليه وسلم شيء من الصدقة يرسلها لهم ولا يأخذ منها شيء فلم يكن يأكل الصدقة وإذا جاءته هدية أشركهم فيها وقيل أن أبا هريرة رضي الله عنه كان عريف أهل الصفة ، وقد لازم النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه الحديث فكان من أحفظ الناس بل كان أحفظ الصحابة رضوان الله عليهم ولذلك سبب فقد أخرج البخاري في صحيحه باب : حفظ العلم برقم (119) عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثاً كَثِيراً أَنْسَاهُ ؟ قَالَ : (( ابْسُطْ رِدَاءَكَ )) فَبَسَطْتُهُ قَالَ : فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : (( ضُمَّهُ )) فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئاً بَعْدَهُ
وفي رواية أنه حدّث ثم قال : (( أضْمم رِدَاءَكَ )) قال : فما نسيت بعد شيئاً
وقد ورد عنه أنه قال : ( مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثاً عَنْهُ مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ ) أخرجه البخاري في كتاب : العلم باب : كتابة العلم برقم (113)
فهل قال هذا على التحقيق أم على سبيل التواضع ؟
يحتمل أن يكون عبدالله بن عمرو من حيث الرواية أكثر ولكنه لم يحدث مثلما حدث أبو هريرة رضي الله عنه لأسباب مختلفة
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه بعض الصحابة كثرة الحديث فقَالَ : إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا وأصلحوا وبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ علَيْهِمْ وَأَنا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160-161]
إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لازم المدينة ولم ينتقل منها ولذلك كثرت الرواية عنه لأن المدينة كانت مأوى ومأرز للناس يفدون إليها فكان يجلس ويحدث الناس حتى قيل أن عدد من روى عنه أكثر من ثمانمائة شخص فهو من علماء الصحابة وفقهائهم وقد كان يفتي في زمن الكبار أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً
وكان أبو هريرة رضي الله عنه متواضعاً ومن ذلك أنه كان يُستخلَف على المدينة ، فيأتي بحزّمة الحطب على ظهره فيشق السوق ، وهو يقول : [ جاء الأمير ، جاء الأمير ] وفي رواية : [ طرِّقوا للأمير ] حتى ينظر الناس إليه
وكان أبو هريرة رضي الله عنه كثير العبادة قال أحد التابعين : ضفت أبا هريرة سبع ليالي فكان يقسم الليل بينه وبين زوجته وخادمه فكان كل واحد منهم يقوم ثلثاً ثم يوقظ الآخر
وكان كثير الصيام والتسبيح يسبح في اليوم الواحد اثني عشر ألف مرة
وقد ماتت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حياته فصلى عليها ، وفي قول أن أم سلمة رضي الله عنها كذلك ماتت في حياته فصلى عليها
وأما وفاته فقد توفي رضي الله عنه عام 59 للجرة وقد كان يقول : [ تعوذوا بالله من رأس الستين ومن إمارة الصبيان ] مسند الإمام أحمد (2/326 – الطبعة القديمة )
فتوفاه الله قبل أن يبلغ الستين لأن سنة الستين كانت سنة فتن عظيمة وفيها قتل الحسين بن علي رضي الله عنه وحصل فيها فتن كثيرة بين المسلمين
ولا حول ولا قوة إلا بالله
الفوائد والأحكام :
– قوله صلى الله عليه وسلم : (( لَا يَقْبَلُ اللهُ … )) أي أن هذه الصلاة لا ثواب فيها ولا أجر ، والشيخ – رحمه الله – فسر القبول بعدم صحة الصلاة ، فهل هناك تلازم بين الصحة والقبول ؟ أم أن أحدهما أخص من الآخر ؟
لا شك أن الصلاة إذا كانت مقبولة فهي صحيحة ولكن هل كل صلاة صحيحة تكون مقبولة ؟ هنا النظر ، فهل نقصد بالصحة ما ورد من صفة الصلاة فيما يظهر للناس أم المقصود بالصحة ما عند الله ؟
إذا كانت بالنسبة لما عند الله فلا شك أن المراد بالصحة القبول
وأما إذا كانت الصحة على حسب الأحكام الدنيوية فلا تكون الصحة ملازمة للقبول فقد تكون صحيحة فيما يظهر للناس أو فيما يظهر للمصلي ولكنها غير مقبولة مثال ذلك : من صلى ووضوءه ناقص نقصاً غير ظاهر فظاهرها الصحة بالنسبة لنا ، وأما بالنسبة لما عند الله فليست بصحيحة ولا مقبولة لأنها ناقصة
ومثال آخر : من صلى وهو مكمل للطهارة والشروط والأركان ولكنه لم يخشع في صلاته أي لم يكن حاضر القلب قال صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلاَّ عُشْرُ صَلاَتِهِ تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا )) أخرجه أبو داود برقم (796)
وقد ورد : (( لَيْسَ لِلْمَرْءِ مِنْ صَلاَتِهِ إلاّ مَا عَقَلَ مِنْهَا )) أي : ما حضـر فيها عقله وقلبه وقد يأتي وقت لا تقبل الصلاة بالكلية بسبب عدم حضور القلب أو من أخل بالطمأنينة كالمسيء صلاته فإنه في نفسه قد صلى صلاة صحيحة ولكن بيّن النبي صلى الله عليه وسلم بطلان صلاته
فالصحة والقبول بينهما عموم وخصوص ، أي أن القبول أخص من الصحة فقد تكون الصلاة صحيحة فيما يظهر ولكنها غير مقبولة أما إذا كانت مقبولة فلابد أن تكون صحيحة
– قوله صلى الله عليه وسلم : (( … صَلَاةَ أَحَدِكُمْ … )) هذا الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم ليس خاصاً بمن كان يسمعه بل هو خطاب للأمة كلها الرجال والنساء الصغار والكبار لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشرع فخطابه للواحد خطاب للأمة كلها حتى لو كلم شخصاً بعينه فكلامه له تشريع للأمة إلا إذا بين أن هذا خاص بهذا الإنسان
– قوله صلى الله عليه وسلم : (( …. إِذَا أَحَدَثَ ….. )) في رواية مسلم : أن رجلاً من حضرموت سأل أبا هريرة رضي الله عنه فقال : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : ( فساءٌ أو ضراط )
فلماذا قال : فساء أو ضراط ؟
الجواب : أن هذا يحتمل عدة معاني :
– إما أنه ذكره لأنه خفي في الغالب
– وإما لأنه قد يخرج من الإنسان وهو في الصلاة بعكس الأحداث الأخرى
– وإما لأن بعض الناس يظن أن هذا ليس بحدث فليس ببول ولا غائط والدليل على هذا ما رواه الإمام أحمد عن عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَكُونُ بِالْبَادِيَةِ فَتَخْرُجُ مِنْ أَحَدِنَا الرُّوَيْحَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ … ))
وفي رواية : (( إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ ))
الحدث هو : ما ينقض الوضوء وهو نوعان :
أ- النوع الأول : الحدث الأكبر وهو الذي يوجب الغسل وهو قسمان :
– قسم خاص بالنساء وهو : الحيض والنفاس
– وقسم مشترك بين الرجال والنساء وهي : الجنابة ولها أسباب :
– السبب الأول من أسباب الجنابة : الجماع أي : جماع الرجل زوجته وذلك بمجرد إدخال الذكر في الفرج حتى تغيب الحشفة فهذا يوجب الغسل على الرجل والمرأة لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ )) أخرجه البخاري برقم (291)
وفي حديث آخر قال : (( إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ )) أخرجه الترمذي برقم (109)
وهذا ليس خاصاً بالحلال فقد يجاوز الخِتان الختان بالحرام – أعاذنا الله وإياكم – فهو أيضاً مما يوجب الغسل وإن كان حراماً
– السبب الثاني من أسباب الجنابة : الاحتلام فإذا احتلم المسلم رجلاً كان أو امرأة وجب عليه الاغتسال إذا رأى المني حتى لو لم يذكر الاحتلام
والدليل على أن الاحتلام يوجب الغسل : أن أم سليم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ قال : (( نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ )) أي : المني . أخرجه البخاري برقم (282)
أما خروج المني حال اليقظة فلا يوجب الغسل إلا إذا خرج دفقاً بلذة
أما إذا خرج بدون دفق ولذة فلا يوجب الغسل بل يوجب الوضوء
ب- النوع الثاني مما ينقض الوضوء : الحدث الأصغر وهو الذي يوجب الوضوء وهو الخارج من أحد السبيلين وهذا أمر متفق عليه بين العلماء ويدل عليه القرآن والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم
وهناك أشياء مختلف فيها وهي كثيرة :
– خروج الدم من غير السبيلين
– أكل لحم الجزور
– خروج الدم من الأنف [ الرعاف ]
– مس المرأة بشهوة
– خروج الطعام والشراب من المعدة [ القيء ]
– الردة عن الإسلام
– زوال العقل بنوم أو غيره
– مس الفرج
فما الذي يوجب الوضوء منها ؟
أبو هريرة رضي الله عنه لما فسر الحدث بالفساء والضراط كأنه حصر الحدث في الخارج من السبيلين وهذا الذي فهمه الإمام البخاري فبوب في صحيحه باب : مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ
ولكن هذا ليس على إطلاقه فالشيء المنصوص عليه يخرج بدليله
وما لم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو على الأصل في عدم نقضه للوضوء
– فالدم الخارج من البدن من غير السبيلين :
الأحاديث والآثار الواردة فيه تدل على أنه ليس بنجس وأنه لا ينقض الوضوء ومن ذلك : قصة الصحابي الذي كان يحرس الجيش في إحدى الغزوات فرماه طليعة المشركين بثلاثة أسهم فكان ينزعها ويمضي في صلاته ولما أيقظ صاحبه وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لم يقل أن صلاته بطلت بسبب خروج الدم
فلو أن الدم ينقض الوضوء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مـُشرّع والنبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت على شيء فيه مخالفة
وخاصة والناس يتعرضون كثيراً لمثل ما تعرض له ذلك الصحابي رضي الله عنهم جميعاً ولذلك بوب الإمام البخاري بقوله : وكان المسلمون يصلون في جراحاتهم
ولم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بغسل الدم من أجل الصلاة ولا قال لهم إن هذا حدث ينقض الوضوء ولا أن هذا الدم نجس فيجب أن يغسلوا منه أبدانهم وملابسهم وترك البيان عند الحاجة لا يجوز
– وأكل لحم الجزور :
قال الإمام أحمد وغيره : صح فيه حديثان ولذلك أخذ به الإمام أحمد
وأما الشافعي وجمهور العلماء فلم يأخذوا بهذا الحديث
ولكن البيهقي وهو عالم من علماء الشافعية قال : مذهب الشافعي الوضوء من لحوم الإبل لأن الشافعي قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في الوضوء من أكل لحوم الإبل فلازم هذا أن يكون الوضوء من لحوم الإبل مذهب للشافعي وهذا غاية الإنصاف
– وأما [ الرعاف ]
فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ من الرعاف وما ورد عن بعض الصحابة محمول على غسل الدم وليس الوضوء المعتاد
– [ والقيء ] فيه حديث ولكنه لا يصح
– وأما مس المرأة بشهوة فلا ينقض الوضوء
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ فيقبل بعض نسائه ثم يخرج إلى الصلاة ولا يعيد الوضوء
قد يقول قائل : أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فما جواب ذلك ؟
والجواب : أنه لابد من الدليل على أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فالأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم مشرع للأمة فما هو خاص به يبينه عليه الصلاة والسلام أو ينزل القرآن يبين أن هذا خاص به فإذا لم يرد دليل على التخصيص فكيف نعرف هذا ؟
قد يقول قائل : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قبل زوجته بشهوة فما جواب ذلك ؟
والجواب : ما من رجل يقبل زوجته إلا بشهوة هذا هو الأصل ولا يُنتقل عنه إلا بدليل
ويستدل من يقول أن مس المرأة ينقض الوضوء بقول الله تبارك وتعالى : {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]
والصحيح أن المراد بالملامسة هنا [ الجماع ] كما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن الله بين أن حكمها الغسل ومعلوم أن المس لا يوجب الغسل فأي ملامسة أو مس في القرآن فالمقصود به الجماع
– تنبيه : هناك خلاف يسير في مسألة خروج الدود أو الشعر من الدبر هل ينقض الوضوء أم لا ؟
قال بعض العلماء : لا ينقض الوضوء
والصحيح : أن أي شيء يخرج من دبر أو قبل الرجل أو المرأة فهو حدث قد يوجب الغسل وقد يوجب الوضوء
– والردة عن الإسلام تنقض الوضوء
– وأما زوال العقل بنوم أو غيره فإنه ينقض الوضوء بالإجماع
– ومس الفرج ينقض الوضوء لحديث بسرة بنت صفوان وغيرها
– يخرج من قبل الرجل أربعة أشياء :
– المني : وقد سبق بيان حكمه
– المذي : وهو يوجب الوضوء وغسل الأنثيين [الخصيتين] لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن المذي قال : (( ………. فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَكَ وَأُنْثَيَيْكَ … )) أخرجه أبو داود برقم (211)
والحكمة من غسل الأنثيين هو لتبريد الخصيتين لأن المذي نتيجة تفاعل الإنسان وتحرك شهوته فالماء يساعد على توقف سيلان المذي
– الودي : ويخرج بعد البول وهو يوجب الوضوء فقط
– البول : وهو يوجب الوضوء
وجميعها نجسة إلا المني فإنه طاهر
– ويخرج من فرج المرأة :
– دم الحيض ودم النفاس وهما يوجبان الغسل
– رطوبات فرج المرأة وهي مادة سائلة تخرج من فرج المرأة نتيجة تفاعلات في الرحم أو في المهبل وقد اختلف العلماء فيها هل هي طاهرة أم نجسة ؟
والصحيح أنها نجسة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي )) أخرجه مسلم برقم (346)
فالذي أصابه منها هي هذه الرطوبات
– البول وهو يوجب الوضوء
– المذي
– والمني
– وأما الودي فلا يخرج من المرأة
قوله صلى الله عليه وسلم : (( … حَتَّى يَتَوَضَّأَ )) [ حتى ] هذه لانتهاء الغاية أي ينتهي المنع من الصلاة إلى الوضوء فما بعد [ حتى ] يختلف عما قبلها فإذا توضأ انتقل من الحدث إلى الطهارة ونستفيد من هذا :
– أنه إذا توضأ جاز له أن يصلي بهذا الوضوء أي صلاة سواءً كانت صلاة نافلة أو صلاة فريضة أداءً أو قضاءً وسواءً كانت صلاة واحدة أو أكثر فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم للحدث غاية ينتهي إليها وهي الوضوء
– أن في هذا رد على الذين قالوا : لا يصلي بالوضوء إلا صلاة واحدة وعلى القائلين : أنه لا يصلي بهذا الوضوء إلا ما نوى فإن نوى نافلة فلا يجوز له أن يصلي به الفريضة
قوله صلى الله عليه وسلم : (( … حَتَّى يَتَوَضَّأَ )) :
الوضوء : معناه من الوضاءة وهي النظافة لأن الوضوء ينظف أعضاء المسلم نظافة حسية
والأمر الآخر وهو الأهم ما يحصل للمسلم من النظافة المعنوية كما ورد في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث : عبد الله الصنابحي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ )) أخرجه مسلم برقم (244)
قال : (( ثُمَّ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلاَتُهُ نَافِلَةً لَهُ )) أخرجه النسائي برقم (103)
والوضوء ورد ذكره في القرآن الكريم قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]
فقد جعل الله الوضوء شرطاً لصحة الصلاة فــ ( إِذَا ) هنا أداة شرط فإذا لم يتم الشرط لا يتم المشروط
[ والشرط : ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من جوده وجود ولا عدم لذاته ]
أن هذا الوضوء بهذه الصفة خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم والدليل ما رواه الإمام مسلم في صحيحه برقم (247) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : (( تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ )) قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا ؟ قَالَ : (( نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلَا يَصِلُونَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِي فَيُجِيبُنِي مَلَكٌ فَيَقُولُ : وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ؟ ))
– حصل خلاف في مسألة وهي : إذا أحدث وهو في الصلاة فكيف يفعل ؟
قال الشافعي ومالك : يذهب يتوضأ ثم يعود ويكمل صلاته
وهذا ليس بصحيح بل هو باطل ودليل بطلانه قوله صلى الله عليه وسلم : (( …. إِذَا أَحَدَثَ )) فإذا أحدث فقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم صلاته بالحدث
والدليل الآخر قوله صلى الله عليه وسلم : (( … لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا )) أخرجه البخاري برقم (177) ومسلم برقم (316)
فعلق الانصراف من الصلاة بالحدث
– قوله صلى الله عليه وسلم : (( … لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا )) هل المقصود السماع أو الشم بذاته أم المقصود اليقين ؟
الجواب : المقصود التيقن فإذا تيقن الحدث وجب عليه الانصراف من الصلاة
– من أحدث بغير اختياره هل يستمر في صلاته ؟
الجواب : يجب عليه أن ينصرف فوراً ولو كان إماماً للناس ولو قبل السلام بلحظة ولو سلم التسليمة الأولى فأحدث فإنه ينصرف
– من صلى وهو يعلم أنه محدث ، فما الحكم ؟
الجواب : اختلف العلماء هل هو كافر أم لا ؟
– فعند الإمام أبي حنيفة : أنه كافر لأنه مستهزئ بالله تعالى
– وعند جمهور العلماء : أنه ليس بكافر ولكنه على خطر عظيم
– واختار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : إن كان مستحلاً لهذا فهو كافر وإن لم يكن مستحلاً له فيؤدب تأديباً بليغاً
– قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( … حَتَّى يَتَوَضَّأَ )) الأصل في الوضوء هو استعمال الماء فإذا لم يجد الماء أو عجز عن استعماله أو كان الماء يضره فإنه ينتقل إلى البدل وهو التيمم قال تعالى : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43]
وقال صلى الله عليه وسلم : (( الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ … )) أخرجه الإمام أحمد
– من لم يجد الماء ولا استطاع استعمال الصعيد فماذا يفعل ؟
الجواب : يصلي على حاله مثل الـمقيد الذي قُيدت يداه ورجلاه فـهذا يُـسمـى : [ فاقد الطهورين ] فهذا يصلي على حالته التي هو عليها ومثله المريض العاجز عن الحركة وليس له من يعينه فإنه يصلي على حاله
الحديث الثالث
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم قَالُوا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ ))
رواة الحديث :
أما عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فهو صحابي جليل من المكثرين من حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى قيل أنه أحفظ من أبي هريرة رضي الله عنه وقد أُخذ من قول أبي هريرة رضي الله عنه : ( مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثاً عَنْهُ مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ )
فمن هنا قال بعض أهل العلم أن عبدالله بن عمرو أكثر حفظاً من أبي هريرة
ولكن الرواية لأبي هريرة أكثر من الرواية لعبدالله بن عمرو العاص فقد نُقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أكثر من خمسة آلاف حديث بينما لم يُذكر لعبدالله بن عمرو إلا سبعمائة حديث فمن هنا حصل الخلاف أيهما أكثر
والمقصود أن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان من المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يكتب من النبي صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى اعترضت عليه قريش وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب والرضا وعبدالله بن عمرو يكتب كل ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : (( اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا حَقٌّ )) رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه الألباني ، فكان يكتب كل ما يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسلم عبدالله بن عمرو صغيراً حتى قيل أنه أسلم قبل أبيه فقد أسلم وعمره عشـر سنوات ولازم النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته مع أبيه وكان من كبار علماء الصحابة وأجلتهم وفي نفس الوقت كان من المكثرين من العبادة فقد كان يصوم الدهر ويقوم الليل ويقرأ القرآن في ليلة لأنه حفظه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( اقْرَأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ )) قَالَ : إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : (( اقْرَأْهُ فِي كُلِّ ثَلاَثٍ )) أخرجه الإمام أحمد
فدل هذا على أن القرآن لا يُقرأ في أقل من ثلاث ومن قرأه في أقل من ثلاث فإنه لا يفقهه
ولما قال رجل لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ المفصل في ليلة قال : هذاً كهذ الشعر ، فالقرآن يُقرأ بترتيل وتدبر كما أمر الله عز وجل حتى ينتفع به القارئ وتحصل الفائدة التي نزل القرآن من أجلها وهي هداية القلوب وانشراح الصدور وزيادة اليقين ورفعة الإيمان
ومن كثرة عبادة عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما شكاه أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال عبدالله بن عمرو : زَوَّجَنِي أَبِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيَّ جَعَلْتُ لَا أَنْحَاشُ لَهَا مِمَّا بِي مِنْ الْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، فَجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى كَنَّتِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهَا : كَيْفَ وَجَدْتِ بَعْلَكِ ؟ قَالَتْ : خَيْرَ الرِّجَالِ لَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا وَلَمْ يَعْرِفْ لَنَا فِرَاشًا ، قال : فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَعَضَّنِي بِلِسَانِهِ ثم قَالَ : أَنْكَحْتُكَ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَعَضَلْتَهَا وَفَعَلْتَ ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَطَلَبنِي فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ لِي : (( أَتَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ ؟ )) قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : (( لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَمَسُّ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)) أخرجه الإمام أحمد
وفي الصيام رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى صيام داود عليه الصلاة والسلام وهو صيام يوم وإفطار يوم فقال : إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : (( لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ )) أخرجه البخاري برقم (1976)
فدل هذا على أن صيام أكثر من يوم بعد يوم لا يسوغ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لأن ذلك يؤدي إلى أن يأتي وقت من الأوقات فينقطع الإنسان وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب لأمته وأصحابه من بعده أن يداوموا على العمل إذا عملوه
وفي قيام الليل رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام داود عليه الصلاة والسلام فقد كان ينام نصف الليل ثم يقوم ثلثه ثم ينام سدسه لِيُجم نفسه ويعطي زوجته حقها ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا : (( وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا )) أخرجه البخاري برقم (1975)
وعبدالله بن عمرو بن العاص من علماء الصحابة ومن المفتين وقد أخذ زاملتين من كتب أهل الكتاب بعد معركة اليرموك وربما حدث منها ولذلك يحتاط العلماء في الأخبار التي يرويها عبدالله بن عمرو بن العاص ليست بمسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لاحتمال أن تكون من الإسرائيليات التي أخذها من تلك الزاملتين ولذلك بعض العلماء تجده يقول : ربما كان هذا من الزاملتين
وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُطيع أباه ولذلك لما جاءت الفتنة بين الصحابة رضوان الله عليهم أحب أن يعتزلها ولكن أباه أمره بالمشاركة في حرب صفين وقد كان مع جيش معاوية رضي الله عنهم جميعاً ولما جاء قاتل عمار برأس عمار رضي الله عنه ونافسه فيه آخر كل منهما يقول أنا قتلته ، قال عبدالله بن عمرو بن العاص : فلتطب نفس أحدكما للآخر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن عمار : (( تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ )) فقال معاوية : فلم تشاركنا ؟ قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أطيع أبي . أخرجه البخاري برقم (447)
وأما مشاركته في هذه الحرب فقد كانت بمسكه للراية ولم يجرد سيفاً ثم ندم على هذه المشاركة طيلة حياته إلى أن توفاه الله رضي الله عنه
عاش عبدالله بن عمرو رضي الله عنه كريماً عالماً معلماً للخير وقيل أنه توفي رضي الله عنه في سنة ثلاث وستين من الهجرة ودفن في مصر رضي الله عنه وأرضاه
أما أبو هريرة رضي الله عنه فقد سبقت ترجمته وأما عائشة رضي الله عنها فستأتي ترجمتها قريباً إن شاء الله
هذا الحديث له سبب ففي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص قال : تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سَفْرَةٍ سافرناها فأدركنا – وقد أرهقتنا الصلاة – ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أَرْجُلنَا فَنَادَى بأعلى صوته : (( وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) مرتين أو ثلاثاً . أخرجه البخاري في كتاب : العلم ، باب : من رفع صوته بالعلم برقم (60)
وفي رواية عند مسلم برقم (241) : رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماءٍ بالطريق تعجل قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عجال فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ))
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لم يغسل عقبه فقال : (( وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) أخرجه مسلم في باب : وجوب غسل الرجلين بكمالهما برقم (242)
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد دخل عليها عبدالرحمن بن أبي بكر يوم توفي سعد بن أبي وقاص فتوضأ عندها فقالت : يا عبدالرحمن أسبغ الوضوء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) أخرجه مسلم برقم (240)
وهذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم متواتر فقد رواه غير هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلٌ )) كلمة تستعمل للوعيد والتهديد وهي بمعنى الهلاك أي أصابه الهلاك ، وقد ورد في صحيح ابن حبان بإسناد اختلف فيه العلماء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِى بِهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَها ))
نسأل الله السلامة والعافية
استدل العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلٌ )) على أن إهمال العقب أو غيره من أعضاء الوضوء من كبائر الذنوب وأنه سببٌ في دخول النار وحصول العذاب أجارنا الله وإياكم من النار
قوله صلى الله عليه وسلم : (( لِلأعْقَابِ )) العقب هو مؤخرة القدم وخصه بالذكر لأنه يفوت في الغالب فليس أمام العين وربما قصرت اليد عنه
وهذا الحكم ليس خاصاً بالقدم بل أي عضو من أعضاء الوضوء يحصل فيه خلل فإن صاحبه معرض للعقوبة من الله عز وجل ، ومن ذلك أنه ورد الوعيد على ترك تخليل الأصابع فقد صح عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم منهم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وغيره أن الأصابع إذا لم تخلل فإنها تخللها النار – أجارنا الله وإياكم من النار – وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلْ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ )) أخرجه أبو داود برقم (142) والترمذي برقم (39) وابن ماجة برقم (447) وحسنه البخاري
وفي حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : (( أَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ …. )) الحديث أخرجه الأربعة وقد بوب البخاري قال : باب : غسل الأعقاب … ثم قال : وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ ثم ذكر الحديث
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته كما هو ثابت عنه عليه الصلاة والسلام وقوله صلى الله عليه وسلم في روايات هذا الحديث المختلفة : (( أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ )) الإسباغ هو تكميل العضو فإذا كان مغسولاً فإنه يعمم بالغسل ويصل الغسل إلى ما يجب غسله فرضاً وإذا كان من الممسوحات فإنه يعمم بالمسح جميع العضو كمسح الرأس أو مسح الجبيرة أو غيرها مما يمسح
أما الجورب والخف فقد وردت صفة مسحه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه أنه يمسح ظاهره ولذلك قال عليٌّ رضي الله عنه : (( لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْي لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاَهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ )) أخرجه أبو داود برقم (162) وصححه في التلخيص وحسنه في البلوغ
وذكره صلى الله عليه وسلم للعقب يدل على أن القدمين يغسلان فغسل القدمين هو فرض الله تعالى وهو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المتواترة وأما مسح القدمين من غير حائل فهذا مذهب شاذ لا يقول به الآن إلا الرافضة
وقد حصل خلاف في هذه المسألة في عهد السلف ، سبب هذا الخلاف الاختلاف في قراءة آية الوضوء وهي وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]
ففيها قراءتان :
– فمن قرأ الآية بالنصب : {وأرجلَكُمْ } قالوا : أن الأرجل معطوفة على ما قبل الرأس وهو اليدين وهي مغسولة فيكون حكم القدمين الغسل
– ومن قرأ الآية بالجر [ وهي قراءة سبعية ] : {وأرجلِكُمْ} قالوا : أن الأرجل معطوفة على الرأس والرأس ممسوحة فيكون حكم الرجل المسح
ولكن هذا الخلاف انقرض لأن الذين كانوا يقولون به من الصحابة رجعوا ولذلك يقول ابن أبي ليلى – رحمه الله – : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين
أما إذا كانت القدمان في خف أو جورب فإنها تمسح وبالتالي تبقى قراءة الجر : {وأرجلِكُمْ} لمن مسح على الخف أو الجورب
وتبقى قراءة النصب : {وأرجلَكُمْ } على من لم يكن على قدميه خف ولا جورب فإن فرضه أن يغسل القدمين
أما الرافضة فلا يُعتد بهم في الخلاف لا في الأصول ولا في الفروع لأنهم ليسوا من المسلمين ولكن بعض العلماء يذكر خلافهم ربما لكثرة ابتلاء الناس بهم في هذا الزمان
وقد قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : هم أجهل الناس بالسمعيات وأضل الناس في العقليات . انتهى
فلا عقل ولا دين نسأل الله السلامة والعافية
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في غسل القدمين أن يرفع عن الكعبين قليلاً حتى يشرع في الساق وذلك لاستكمال الكعبين اللذين هما غاية الوضوء وهما داخلان فيه ، وكذلك بالنسبة للمرفق مرفق اليد يغسله صلى الله عليه وسلم ويدير الماء على مرفقيه حتى يشرع في العضد وذلك ليستكمل غسل ما وجب غسله وهذا من الإسباغ الذي أَمرنا به صلى الله عليه وسلم
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) هذا يدل على أن من ترك شيئاً من أعضاء الوضوء فإنه معرض للعقوبة
وهذا يدعونا إلى أن نتأمل في مسألة ابتلي بها النساء في هذا العصر وهي ما يسمى [المناكير] أو غيرها مما يحجب الماء عن الوصول إلى ما يجب غسله وهذا يعني أن أكثر النساء لا تُقبل لهن صلاة ولذلك ترى الخلل والقصور في حياة هؤلاء النساء من المخالفات الشـرعية وارتكاب المنكرات والسبب هو إخلالهن بالطهارة وبالتالي اختلت الصلاة فبطلت ولم تصح ففي حديث عمر بن الخطاب وأنس بن مالك رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً وفي ظهر قدمه لمعة مثل الظفر لم يصبها الماء قال : (( ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ )) أخرجه أبو داود برقم (173) فرجع فتوضأ وأعاد الصلاة
ومعنى هذا أن الصلاة لا تصح بهذا الخلل ولو كان بمقدار الظفر
فكيف بالأظافر كلها إذا كان عليها هذا الطلاء المسمى [المناكير] ؟
من باب أولى أنها لا تُقبل ولا حول ولا قوة إلا بالله
ومما يفيده هذا الحديث :
– أن العذاب يوم القيامة يقع على الجسد والروح
– ويفيد أيضاً وجوب تعليم الجاهل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفع الصوت بذلك عند الحاجة
الحديث الرابع
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : (( إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً , ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ , وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ , وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ ثَلاثاً ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ))
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : (( فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخَرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ ))
وَفِي لَفْظٍ : (( مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ ))
– أولاً : هذا الحديث له روايات مختلفة فرواياته عند البخاري :
– أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذَا تَوَضَّأ أحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أنْفِهِ مَاءً ثم لِيَنْثُرْ )) فلم يذكر الماء لدلالة الكلام عليه وذلك أن قوله : (( إذَا تَوَضَّأ )) معناه : إذا استعمل الماء أو إذا فعل الوضوء وكلاهما يدل على الماء
وأيضاً فقد ذُكر في روايات أخرى والروايات يفسـر بعضها بعضاً : (( وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ ))
فلم يذكر الإناء : (( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَات يَدُه ))
– وعند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ))
وفي روايـة لـمسلم قال : (( يَغْسِلَهَا )) ولم يذكر ثلاثاً
فلم يذكر مسلم في روايته لهذا الحديث الاستنثار ولا الاستجمار
– عند البخاري برقم (161) ومسلم برقم (237) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ )) فهذا الحديث ليس فيه ذكر لغسل اليد إذا استيقظ من النوم
– وفي رواية عند مسلم : (( إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ وِتْرًا وَإِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ )) هذه الرواية الثانية عند مسلم التي فيها ذكر الاستنثار مع الاستجمار ولكن ليس فيها غسل اليدين عند الاستيقاظ
– وفي رواية : (( إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ ))
– وفي رواية عند أبي داود برقم (103) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ))
الفوائد والأحكام
هذا الحديث اشتمل على عدة قضايا :
– الأولى : قوله صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيَسْتَنْثِرْ )) الاستنثار والاستنشاق روي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم
قال ابن عبد البر – صاحب كتاب التمهيد – رحمه الله – : هذا أبين حديث في الاستنشاق والاستنثار وأصحها إسناداً
يعني حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإلا فقد صح بهذا الحديث عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم وهي في الصحيحين
قال ابن عبد البر – رحمه الله – : أجمع المسلمون على أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء وكذلك المضمضة ومسح الأذنين
وفي كلام ابن عبد البر – رحمه الله – فائدة وهي : أن على طالب العلم أن يتعرف على لغة العلماء واصطلاحاتهم حتى يكون كلامه علمياً دقيقاً ونقله عن العلماء وفهمه لكلامهم صحيحاً وحتى لا يُقوّل العلماء ما لم يقولوا
فابن عبد البر – رحمه الله – قال : أجمع المسلمون على أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء … الخ ولم يقل إنه واجب أو مستحب لأن هذا مختلف فيه
اختلف أهل العلم في الاستنثار :
– فالإمام أحمد وغيره من العلماء يأخذون بظاهر هذه الأحاديث فيرون أن الاستنشاق والاستنثار والمضمضة واجبة في الوضوء من تركها فوضوؤه باطل لا يصح واستدلوا :
1- بعموم قوله تعالى في آية الوضوء : {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ومعلوم أن الأنف من الوجه وكذلك الفم
2- قوله صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ ))
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيَسْتَنْثِرْ )) فهذه ألفاظ صريحة في الأمر فــ [اللام] تدل على الأمر والأمر يقتضي الوجوب وهذه المسألة لم يرد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على صرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب
3- ومما يؤيد أن المضمضة والاستنشاق واجبة في الوضوء فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم العملي نُقل إلينا بالتواتر فمن الصحابة من رواه مطولاً ومنهم من رواه مختصراً فلم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك المضمضة والاستنشاق والاستنثار ولو مرة واحدة
ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أن الأمر إذا كان ظاهره الوجوب ولكن حكمه الاستحباب فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخالف هذا الأمر مرة واحدة أو عدة مرات حتى يبين للناس أن هذا الأمر ليس للوجوب وكذلك النهي إذا كان للتنزيه وليس للتحريم فإنه يخالفه ولو مرة واحدة ليبين ذلك للناس
4- ويستدلون بحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِماً ))
وفي رواية عند أبي داود قال : (( وَبَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةَ والاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِماً )) فهذا يدل على أن الـمضمضة والاستنشاق من واجبات الوضوء فلا يصح الوضوء إلا به
– وذهب الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – وغيره من العلماء إلى وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة فقط دون الوضوء
ولا أدري ما دليلهم في هذا التفريق
– وذهب الإمام الشافعي ومالك وغيرهما من العلماء إلى أنه : لا فرض في الوضوء واجب إلا ما ذُكر في الآية قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]
واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي : (( تَوَضْأ كَمَـا أَمَرَكَ الله )) فأحاله على آية الوضوء
والرد عليهم : أن هناك غير الآية فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ )) أخرجه الإمام أحمد
فالذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مثل القرآن وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً كما في الأحاديث المتواترة وفعلاً كما في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها الصحابة بالتواتر فلم يرد عن صحابي واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك المضمضة أو الاستنشاق أو الاستنثار والنبي صلى الله عليه وسلم مبين لمجمل القرآن
فإذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت في المسألة فهو الحجة ولا يُعارض بقول أحد
قوله صلى الله عليه وسلم : (( لْيَنْتَثِرْ )) الانتثار : إخراج الماء من الأنف بقوة النفس وسمي الانتثار بهذا الاسم من النثرة وهي طرف الأنف فسمي الفعل باسم المكان الذي يُحرك وهذا من أساليب القرآن والحديث في التعبير عن الفعل بموضعه كالغائط فإنه اسم للمكان المنخفض من الأرض فَعُبّر عن الخارج من الإنسان باسم المكان الذي يحصل فيه
والاستنثار يكون باليد اليسرى فقد بوب الإمام النسائي برقم (91) – رحمه الله – قال : بابٌ : بأي اليدين يستنثر ثم ذكر فيه حديث عَلِيٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه : ( أَنَّهُ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى فَفَعَلَ هَذَا ثَلاَثاً ثُمَّ قَالَ : هَذَا طُهُورُ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم )
والسبب أن الاستنثار إزالة للقذر الذي في الأنف وإزالة الأقذار تكون باليد اليسرى
وأما اليد اليمنى فتكون لما كان من باب التكريم ، وسيأتي معنا الحديث الخاص بهذه المسألة إن شاء الله تعالى
قـولـه صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيَسْتَنْشِقْ )) الاستنشاق هو سحب الماء إلى أعلى الأنف بقوة النفس وسيأتي حكمه فيما بعد إن شاء الله تعالى
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَإذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قبْلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا فَي الإنَاءِ ثَلاثاً فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَات يَدُه ))
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في البخاري برقم (3295) ومسلم برقم (238) : (( إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثًا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ ))
بينهما تلازم بوجه ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ففي الحديث الأول قال : (( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَات يَدُه ))
وفي الـحديث الثاني قال : (( فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ ))
أنه في أثناء نومه ربما تلبس الشيطان بيده لكونه بات على خيشومه وهذا من ضمن الأمور التي تدعو المستيقظ من نومه أن يغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ، وهو معنى لطيف مقبول جداً في هذه المسألة ومبيت الشيطان حقيقة لأنه الأصل والظاهر ولا يُصرف إلا بدليل ، ونقول هذا لأن بعضهم تأوله على غير الظاهر بدون دليل وهذا يدل على أن الإنسان حال النوم لا يدري أين باتت يده
وقد قال بعض المنافقين معترضاً على هذا الحديث : وأين تبات يدي ؟؟؟ كأنه يستهزئ بهذا الحديث فأصبح ويده في دبره ولم تخرج إلا بعد أن جأرا إلى الله بالتوبة
وهذا يدعو الإنسان إلى الإذعان والاستسلام وقبول حديث النبي صلى الله عليه وسلم وألا يقابلها بالاستهزاء فهذا خطر عظيم
قوله صلى الله عليه وسلم : (( قبْلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا فَي الإنَاءِ )) فخرج بذكر الإناء : الحياض والبرك
وفي رواية قال : (( في وُضُوءِهِ )) فيها فائدة عظيمة فتفسر إحداهما الأخرى
فرواية : (( في وُضُوءِهِ )) دلت على أن المنع هو إدخال اليد في الإناء قبل أن يغسلها فمثلاً لو كان هناك إناء كبير لا يستطيع أن يصب منه فإنه يغترف منه بإناء صغير فيغسل يديه ثلاثاً وإن لم يجد إناء صغير فإنه يغترف بفمه ويغسل يديه ثلاثاً أو يأخذ الماء بطرف ثوبه فيغسل يديه ثلاثاً
وكلمـة : (( في وُضُوءِهِ )) فـسرت المقصود بلـفظ : (( فَي الإنَاءِ )) وأن المقصود الماء
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَإذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم مِنْ نَوْمِهِ )) هل هو خاص بنوم الليل أم يشمل نوم الليل والنهار ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة :
– فذهب الإمام أحمد – رحمه الله – : إلى أن المقصود نوم الليل واستدل :
– بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( مِنْ مَنَامِهِ )) والمنام لا يطلق إلا على نوم الليل
– وبقوله صلى الله عليه وسلم : (( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَات يَدُه )) والمبيت لا يكون إلا في الليل وأما نوم النهار فلا يقال له مبيت
– واستدل بما أخرجه أبو داود : (( إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ ))
وفي رواية أخرى قال : (( إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلى الوُضُوءِ حِيْنَ يُصْبِح )) أخرجه الترمذي وغيره وهي رواية صحيحة ، وهذا كله يدل على أنه خاص بنوم الليل
– وذهب جمهور العلماء : إلى أنه عام في نوم الليل والنهار :
– قالوا : الحديث معلل والتعليل قوله صلى الله عليه وسلم : (( فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ )) فمن نام في النهار كذلك لا يدري أين ذهبت يده فيعم الكل بعموم العلة وهي قاعدة عند العلماء
– هل غسل اليدين عند الاستيقاظ من النوم واجب أم مستحب ؟
– ذهب جمهور العلماء : إلى أنه مستحب لأنه معلل بالشك في النجاسة : (( لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ )) والذي يشك في نجاسة يده لا يجب عليه غسلها .
واستدلوا بظاهر آية الوضوء قال تعالى : {إِذَا قُمْتُمْ} قال زيد بن أسلم : تفسير هذا : إذا قمتم من النوم ، وقد أمره الله بالوضوء إذا قام من النوم وأراد الصلاة ولم يأمره بغسل الكفين في أوله
ويستدلون أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قام من نوم الليل فتوضأ ولم يغسل يديه كما في حديث ابن عباس في قصة مبيته في بيت خالته ميمونة وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل
– وذهب الإمام أحمد : إلى أنه واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به والأمر يقتضي الوجوب ونهى عن غمس اليد في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً والنهي يـقتضي التحريم
– اختلف العلماء في حكم الماء الذي يغمس القائم من النوم يده فيه قبل أن يغسلها ثلاثاً على ثلاثة أقوال :
– الأول : أن الماء نجس ويجب أن يراق وهو قول بعض الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد قال : أحب إليّ أن يراق إذا كان من نوم الليل
– الثاني : إذا كان الماء أكثر من القلتين فلا ينجس وإذا كان أقل من القلتين فهو نجس وهو قول جمهور العلماء
– الثالث : لا ينجس إلا إذا حدثت فيه نجاسة غيرت أحد أوصافه الثلاثة اللون أو الطعم أو الرائحة
– هل غسل اليدين إذا قام من النوم من الوضوء أم أنه مستقل عن الوضوء ؟
هو مستقل فليس من واجبات الوضوء وله علاقة بالوضوء من حيث أنه إذا أراد أن يدخل يده في الماء الذي يتوضأ منه فيجب عليه أن يغسلها قبل أن يدخلها في الماء
– هل يلزم لها نية أم لا ؟
– الذين يقولون أنه للتعبد وأن الأمر للوجوب قالوا : تجب النية
– والذين يقولون أنه للشك في النجاسة قالوا : لا تشترط النية لأن إزالة النجاسة لا تحتاج إلى نية فمن وقعت على ثوبه نجاسة فعلقه ونزل عليه المطر وذهبت النجاسة فإن الثوب يطهر ولو لم ينو ذلك
– من استيقظ من النوم وتوضأ من صنبور الماء ولم ينو غسل يديه ثلاثاً من نوم الليل فما حكم وضوءه ؟
وضوءه صحيح لأن غسل اليدين بعد الاستيقاظ من النوم ليس متعلقاً بالوضوء ولكنه متعلق بإدخالها في الإناء
هذا الحديث إلى جانب أدلة أخرى يدل على أن النوم المستغرق ناقض للوضوء ومن هذه الأدلة حديث صفوان بن عسال : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لاَ نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ )) أخرجه الترمذي برقم (96)
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ ))
الاستجمار : من الجمار وهي الحصـى الصغيرة ولذلك يقال : رمي الجمرات فالجمرات جمع جمرة والجمرة هي الحجر الصغير
والمعنى : مسح محل البول والغائط بالجمار لإزالة النجاسة
والاستنجاء يكون باستعمال الماء
والاستطابة تكون بالماء وتكون بالجمار
– هل المقصود الحجارة في حد ذاتها أم أنه تعبير خرج مخرج الغالب ؟
الجواب : أن هذا تعبير خرج مخرج الغالب لأن غالب ما يستخدم الناس في الاستجمار الحجارة لكونها متوفرة وليس فيها كلفة وعلى هذا فيجوز الاستجمار بكل ما لم ينه الشرع عنه والشرع نهى عن أمور :
– نهى عن الاستجمار بالروث
– ونهى عن الاستجمار بالعظام
– ونهى عن الاستجمار بالأشياء المحترمة كالطعام والأوراق التي كتب فيها العلم خاصة كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم
– هل يلزم استعمال الماء مع الحجارة ؟
الجواب : لا يلزم ، وأكثر الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعرفون الاستنجاء بالماء وفيه حـديث يستأنس به وهـو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأَهْل قُبَاء : (( إن الله ذكركم بقوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] فَمَا هَذَا التَّطَهْر ؟ )) قَالُوا : إِنَّا نُتْبِعُ اَلْحِجَارَةَ اَلْمَاءَ ، فقال : (( هُوَ ذَاك ))
فقد كان لهم جيران من اليهود فتعلموا منهم الاستنجاء بالماء لأن اليهود قد شدد الله عليهم في الطهارة ومن ذلك أن أحدهم إذا أصابت ثوبه نجاسة فلابد أن يقرضها بالمقراض وقد فُسر الثوب بالجلد
والاستجمار ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : (( أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ )) أخرجه البخاري برقم (156)
قوله صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيُوتِرْ )) الإيتار : من الوتر أي يجعل المسح وتراً واحدة أو ثلاث أو خمس أو سبع
– وقد اختلف العلماء في الإيتار هل هو واجب أم مستحب ؟
– فذهب الإمام أحمد وأهل الحديث إلى أنه واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإيتار
– وذهب الأحناف إلى أنه لا يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر عبدالله بن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار فوجد حجرين ولم يجد ثالث أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحجرين فلو كان الإيتار واجب لأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه بثالث
والرد عليهم : ربما لم تمر عليهم الروايات التي فيها : (( ائْتِنِي بِغَيْرِهَا ))
ورواية : (( ائْتِنِي بِثَالِثٍ ))
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ائْتِنِي بِحَجَرٍ )) فهو صريح في الاتيان بحجر ثالث
– وذهب الجمهور إلى أنه مستحب لأن هذا من باب الآداب وليس من باب الأحكام والعبادات وما كان من باب الآداب فالأصل فيه الاستحباب
واستدلوا بحديث السنن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( … وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لاَ فَلاَ حَرَجَ … )) أخرجه أبو داود برقم (35) وحسن النووي إسناده وضعفه ابن حجر والألباني وغيرهما
والجواب : أن الأصل في أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم الوجوب ولا تخرج عن هذا إلا بدليل
– واستدل الإمام أحمد وأهل الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم : (( وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ ))
وحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : (( ائْتِنِي بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ )) أخرجه ابن ماجة برقم (314)
ولما جاء بروثة ألقاها وقال : (( ائْتِنِي بِحَجَرٍ )) وفي رواية : (( ائْتِنِي بِغَيْرِهَا ))
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قال صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ … )) أخرجه أبو داود برقم (40)
وبحديث سلمان رضي الله عنه عندما سأله أحد المشـركين مستهزئاً : علمكم نبيكم حتى الخراءة ؟ قال سلمان رضي الله عنه : (( أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ )) رواه مسلم كتاب : الطهارة باب : الاستطابة برقم (262)
والشاهد فيه قوله : (( أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ ))
وهو مذهب الشافعية والمالكية ألا يقل الاستجمار عن ثلاثة أحجار واشترطوا الإنقاء فإذا لم يحصل بثلاث زاد حتى ينقي مع الإيتار
وهو الصحيح واختاره الـمحققون من الـمذهب الحنبـلي كشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وغيره
الحديث الخامس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي , ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ ))
وَلِمُسْلِمٍ : (( لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ ))
1- اختلاف رواياته عند مسلم : (( لا يَبولَنَّ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ ))
وعند أبي داود برقم (70) : (( لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلاَ يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ ))
وعند النسائي برقم (397) : (( لاَ يَبُولَنَّ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ أَوْ يَتَوَضَّأُ ))
وعند الترمذي برقم (68) : (( ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ ))
ووقع في رواية عند البيهقي : (( … ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ أَوْ يُشْرَبُ )) وهو أيضاً عند ابن خزيمة وابن حبان
عند مسلم برقم (281) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ ))
2- فسر النبي صلى الله عليه وسلم الدائم بقوله : (( الَّذِي لاَ يَجْرِي )) وهذا فيه إخراج للمياه التي تجري
3- قوله صلى الله عليه وسلم : (( ثُمَّ يَغْتَسِلُ )) يمكن أن تكون بالرفع ويمكن أن تكون بالجزم والذي في الصحيحين بالرفع ومعناه أي : مآله أن يغتسل منه
وبالجزم معناه النهي عن الاغتسال فيه ويؤيده رواية مسلم الأخرى : (( لا يَغْتَسِلْ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُب ))
4- دل الحديث برواياته :
أ- النهي عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل فيه
ب- النهي عن الاغتسال في الماء الدائم وهو جنب
ج- النهي عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل منه
د- النهي عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل منه أو يتوضأ منه
هـ- النهي عن البول في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب
الفرق بين فقرة [ ب ] و [ ج ] الأولى الانغماس فيه والثانية الاغتراف منه
5- سئل أبو هريرة رضي الله عنه كما عند مسلم برقم (283) : كيف نصنع يا أبا هريرة ؟ قال : (( يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً ))
6- قوله : (( لاَ يَبُولَنَّ )) (( لا يَغْتَسِلْ… )) هذا نهي والنهي هنا للتحريم إذ لا صارف له عن التحريم
7- منطوق هذا الحديث في الماء الراكد ومفهومه عدم تحريم البول أو الاغتسال من الجنابة في الماء الجاري
8- وأما المياه المستبحرة فقد انعقد الإجماع على عدم التحريم
9- التغوط مثل البول أو أقبح منه
10- إذا بال بقرب الماء الراكد بحيث يجري إليه البول فيدخل في النهي
11- وفي الحديث : (( نَهَى عَنْ اغْتِسَال الجُنب فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ )) وهو للتحريم أيضاً إذ لا صارف له
12- النهي عن البول في الماء الراكد والاغتسال فيه من الجنابة هل هو من أجل أنه ينجس بذلك أو من أجل أنه يقذره ويفسده بالتتابع في ذلك ؟
وهل يتعدى النهي عن الاغتسال الجنابة أو هو خاص بها ؟
وهل يكون الماء مستعملاً برفع الحدث فيه ؟
وهل يؤثر الوضوء مثل الغسل من الجنابة ؟
13- مفهوم الحديث جواز الاغتسال في الماء الراكد لغير الجنابة وهذا إذا كان المنع من أجل الحدث
فأما إذا كان المنع من أجل التقذير فلا فرق بين الغسل من الجنابة أو غيرها
14- يظهر من هذا الحديث وأمثاله كالنهي عن اللعانين وهو التبرز في طريق الناس أو ظلهم وكذلك تحت الأشجار المثمرة وأمثال ذلك رعاية الشـرع لمصالح الناس وصيانة مرافقهم وحفظ حقوق المسلمين وتحريم التعدي في ذلك كله
15- وأيضاً فإن التبول والاغتسال في المياه الراكدة قد يتسبب في انتشار الأمراض والأوبئة والقاعدة الشرعية : [ لا ضرر ولا ضرار ] وهذا يقتضـي تحريم ومنع كل ما يتسبب في الإضرار بالناس أو الحيوان من حيث أن الحيوان قد يتأثر بهذه المياه الملوثة فيصاب أيضاً بالأمراض المنتقلة عبر هذه المياه الملوثة
16- حكم الماء المستعمل في رفع الحدث :
ذهب أبو يوسف إلى نجاسة الماء المستعمل لأن البول ينجس الماء فكذلك الاغتسال من الجنابة وقد نهى عنهما معاً وهو للتحريم فيدل على نجاسة الماء بهما جميعاً
وذهب أحمد بن حنبل والشافعي ومالك وغيرهم أن الماء المستعمل غير مطهر
والقول الراجح أن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا إذا غلب على لونه أو طعمه أو ريحه نجاسة
17- مما يدخل في هذا الباب المياه النجسة إذا زالت نجاستها ولم يبق للنجاسة أثر في لون الماء أو طعمه أو ريحه فهل يطهر ويجوز التطهر به أم لا ؟
في قرار هيئة كبار العلماء برقم 64 في 25/10/1398هـ وقرار مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13/رجب /1409هـ أن ماء المجاري النجسة إذا نقي بحيث لا يبقى للنجاسة أثر في طعمه ولونه وريحه فإنه يصير طهوراً يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به
1- القاعدة : أن الأوامر للوجوب إلا إذا دل دليل على خلاف الوجوب
وقد ذهب بعضهم إلى أن الأوامر للاستحباب إلا بقرينة واستدلوا بورود أوامر لا تدل على الوجوب بل على الاستحباب فـجعلوا هذا هو الأصل أن الأوامر للاستحباب إلا بقرينة تدل على الوجوب
والصحيح الذي يدل عليه القرآن والسنة وإجماع الصحابة أن الأصل في الأوامر الوجوب ولا يصرف الأمر عن الوجوب إلا بدليل
ومن هذه الأدلة قول الله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] قال الإمام أحمد : أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقع الزيغ في قلبه فيهلك
ومنها قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ …. } [البقرة:34] فامتنع إبليس فكان سبب لعنة الله له
وقوله : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]
ومنها قوله : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب:36]
وقوله : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [النساء:64]
وقوله : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132] وآيات كثيرة يصعب حصرها
وأما السنة فمنها قوله صلى الله عليه وسلم : (( فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ )) أخرجه البخاري برقم (7288) ومسلم برقم (1337)
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ )) أخرجه مسلم برقم (252) والبخاري برقم (887) والإمام أحمد
ومنها قول بريرة رضي الله عنها : أَتَأْمُرُنِي بِذَلِكَ ؟ قَالَ : (( لاَ إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ )) أخرجه أبو داود برقم (2231)
وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد كانوا يعملون بالأمر من غير سؤال هل هو للوجوب أو للاستحباب وهذا متواتر عنهم يصعب التمثيل لكثرة الوارد
ومنها دلالة النظر فإن أحداً لو قال لمملوكه أعطني ماءً فلم يعطه فعاقبه لما اعترض عليه بحجة أن الأمر للندب وليس للوجوب
والنهي للتحريم ويدل لذلك أن جميع النواهي في القرآن مثل قوله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء:32]
وقوله سبحانه :{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } [الإسراء:33]
وقوله تبارك وتعالى : {لا تَأْكُلُوا الرِّبا } [آل عمران:130]
ونحو ذلك أنها تدل على التحريم
وأجمع الصحابة على أنها للتحريم وتعاملوا مع هذه النواهي على هذا الأساس
وأيضاً قوله تعالى : {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : (( … وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ ))
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( … أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ )) أخرجه مسلم برقم (532)
وإجماع أهل اللغة أن السيد لو قال لعبده : لا تفعل كذا ففعله ثم عاقبه فليس هناك من ينكر عليه بحجة أن النهي لغير التحريم
2- هذا النهي معلل وقد اختلف العلماء هل هو معلل بالاستقذار الحاصل في الماء بسبب البول وهذا عام في القليل والكثير
وإذا كان الماء قليلاً فمن يرى تنجيسه بوقوع النجاسة فيه فيزيد علة أخرى وهي إفساد الماء وتعطيل منافعه على غيره
وزاد بعضهم علة أخرى فيما إذا كان البول في الماء بالليل ، وهو ما قيل : إن الماء بالليل للجن ، فلا يبال فيه ولا يغتسل منه خوفاً من انتقامهم منه ، ولكن هل يثبت ذلك ؟
3- الماء المستبحر خرج من النهي بالإجماع
4- والماء الجاري خرج بمفهوم المخالفة ، وعلل بأن البول لا يستقر في الجاري وأن جريه يدفع النجاسة وتخلفه على التوالي الطهارة
5- عند أبي يوسف أن الجنابة تنجس الماء الراكد القليل واستدل بالاقتران في الحديث بين البول والغسل من الجنابة ولكنها ضعيفة
وأيضاً فإن الحديث لم يتعرض لقضية نجاسة الماء
6- حصل الخلاف في النهي في هذا الحديث هل هو للتحريم أم للتنزيه بسبب اختلافهم هل ينجس الماء بملاقات النجاسة ويصير مستعملاً برفع الحدث أم لا؟
فمالك يرى أن النهي للتنزيه لأن الماء لا ينجس إلا بالتغير قليلاً كان أم كثيراً
والشافعي وأحمد يفرقون بين القليل والكثير ويزيد أحمد تخصيص بول الآدمي وعذرته في الكثير وأنه ينجس بها واختلفوا في حد الكثير والقليل