بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير القرآن الكريم
تأليف
علي بن عبد الرحيم الغامدي
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد
فهذا درس في التفسير أقترحه بعض الإخوان جزاهم الله خيراً ، وأرادوا بذلك الانتفاع ونفع إخوانهم ، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما علمنا ، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح .
كلام الله عز وجل لابد من قراءة تفسيره ؛ لأن الإنسان إذا لم يطلع على أقوال أهل العلم في كلام الله عز وجل وتفسيره لا يصل إلى مراد الله عز وجل ، خاصة في هذا الزمان الذي تبدل فيه اللسان وكثر فيه الجهل ، وفقد الناس أساسيات في العلم لا يعرفونها ولا يحيطون بها ، فلا يمكن في مثل هذه الأجواء أن يقرأ الإنسان القرآن ويصل إلى مقاصده ومعانيه ، وحتى لا يتقول على الله بغير علم فان القول على الله تعالى بغير علم خطره عظيم والشرك مع شدة خطره ما هو إلا نتيجة من نتائج القول على الله بغير علم .
قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} ]سورة لقمان الآية (13)[ ويقول سبحانه وتعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمونُ} ]سورة الأعراف الآية (33)[ .
فالإنسان لن يصل إلى القول على الله بعلم وعدل إلا بعد الإطلاع والتعلم وقراءة كلام أهل العلم ، لذلك كان المقترح أن يكون هذا الدرس في التفسير ، حتى نقرأ كلام أهل العلم في كتاب الله عز وجل .
وبعد النظر فان تفسير ابن كثير من أنفع ما يمكن أن يدرس في مثل هذا المكان وهو ولا شك كتاب حافل ولكنه واسع ، ومباحثه متعددة ومتشعبة وربما لا يستطيع الكثير المتابعة فلذلك وقع الاختيار على مخـتصر من المختصرات هو ( المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير ) .
وقبل البدء لابد أن نعرف شيئا عن مؤلفه الإمام ابن كثير – رحمه الله .
الإمام ابن كثير
هو الإمام الحافظ ، الحجة ، المحدث ، المؤرخ ، المـفسر ، الفقيه ، ذو الفضائل ، عماد الدين أبو الفداء ، إسماعيل ابن عمر ابن كثير القيسي القرشي النسب ، الدمشقي النشأة والتربية والتعليم ، الشافعي المذهب ، السلفي المعتقد ، هذا وصف العلماء ، فكل كلمه لها قدرها ولها معناها ولا يطلقونها إلا على أهلها الذين يستحقونها ، قال صلى الله عليه وسلم : (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ))[1] فأول خصائصهم أنهم يتكلمون بعدل ويعطون كل ذي حق حقه
ولد الإمام الحافظ ابن كثير في قرية مجدل من أعمال مدينة بـصرى من أعمال دمشق فالقطاع كله يسمى دمشق ومن مدن دمشق بصرى ومن أعمال بصرى مجدل .
وكان مولده في عام (700 هـ ) أو قبلها بقليل على التحقيق ، وقد نشأ في بيت علم فقد كان أبوه أبو حفص ابن كثير خطيبا ، فقيها ، عالما ، عني بالعربية ، واللغة ، لكنه مات وابنه إسماعيل صغير ، قال عن نفسه توفي والدي في جمادى الأول من سنة ( 703 هـ ) في قرية مجدل ، ودفن فيها بمقبرتها الشمالية عند الزيتون وكنت آنذاك صغيرا ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه إلا كالحلم ثم تحولنا من بعده في سنة ( 707 هـ ) إلى دمشق ، بصحبة كمـال الدين عبد الوهاب الكبير( أخوه الأكبر ) وقد كان لنا شقيقا ، وبنا رفيقا ، وقد تأخرت وفاة عبد الوهاب إلى سنة (750 هـ ) فاشتغلت على يديه بالعلم .
فالإمام ابن كثير – رحمه الله – عالم من أسرة علم ، أبوه كان عالما وكذلك أخوه عبدالوهاب ، وأخوه إسماعيل الكبير الــذي توفي قبل ولادته أيضا كان من العلمـاء يقول : اشتغلت على يده ( يدي أخيه ) بالعلم فيسر الله ما يسر وسهل من العلم ما تعسر وعندمـــا يريد الله بعبده الخير يقيض له أسبابه .
حياته العلمية
حياته العلمية تشمل جانبين :
أولا : تـشمل طلـب العلـم وطريقتـه في طلـب العلـم .
وثانيا : وتشــمـل مشـايـخه الـذين درس عليــهـم .
فأما طريقته في طلب العلم : فقد أشتغل بالعلم على يد أخيه /عبد الوهاب ، ثم أجـتهد في تحصيل العلوم على كبار علماء عصره ، وقد حفظ القرآن وعمره (11) سنة كما ذكر ذلك عن نفسه في كتاب ( البداية والنهاية ) لما ذكر أحد زملائه في الطلب وهو الشيخ نور الدين على ابن الهيجاء الكركي قال : ختمت أنا وهو في سنة إحدى عشرة وسبعمائة وإذا كان الحافظ ولد في سبعمائة وختم القرآن في إحدى عـشرة وسبعمائة فمعنى ذلك أنه ختم القرآن وعمره (11) سنة وقد منحه الله عز وجل حافظة قوية وفهما ثاقبا وعلما جما ، وإطلاعا واسعا ، شهد له بذلك شيوخه وتلاميذه ومن علامة حفظه ونبوغه ، أنه حفظ كتاب التنبيه في فقه الشافعية وهو لازال صغيرا وكذلك مختصر ابن الحاجب في الأصول ، ومما يدل على همته أنه سمع صحيح مسلم في تسعة مجالس بقراءة الشيخ محمد بن محمد بن سهل الأزدي الغرناطي سمعه على الشيخ / نجم الدين بن العسقلاني وغير ذلك كما سيأتي في ترجمة شيوخه .
شيوخه
شيوخه كثير ويصعب حصرهم ، لكن أ شهر هم وأكبرهم وأجلهم :
* – شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية – رحمه الله – الذي توفي عام ( 728هـ ) وقد لازمه ابن كثير وتخرج علـــى يديه وكان له خصوصية ومناضلة عنه وإتّباع له في كثير من أرائه ، وقد أمتحن بسبب ذلك ، وقد استفاد من شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرا وتأثر به في جميع مؤلفاته ، وخصوصا في كتاب التفسير ، وفي مجال العقيدة ، وتقرير مذهب أهل السنة والجماعة في العقائد ، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في كتابه الدرر الكامنة في ترجمة ابن كثير ، قال : واخذ عن ابن تيمية ففتن بحبه وأمتحن بسببه .
* – ومن مشايخه الشيخ المفتي/إبراهيم بن الشيخ تاج الدين الغزالي ، وهو من فقهاء الشافعية الكبار ، وسمع عليه صحيح مسلم ، كما ذكر ذلك عن نفسه في كتاب (البداية والنهاية) .
* – ومن مشايخه أيضا الحافظ الكبير الإمام أبو الحجاج المزي ، الذي توفى عام (742 هـ ) وكان من كبار الحفاظ في ذلك الزمان وعلمائه ، وله خدمات جليلة في مجال الحديث منها تهذيب الكمال وهو في أسماء رجال الكتب الستة ، ومن ذلك كتابه تحفة الأشراف في أطراف الكتب الستة ، وهو من أجل الكتب في مجال خدمة الحديث والمحدثين وقد لازم ابن كثير شيخه المزي وتزوج بابنته زينب ، وقرأ عليه كتاب تهذيب الكمال وكتاب الأطراف .
* – ومن مشايخه أيضا الحافظ المؤرخ أبي عبد الله شمس الدين الذهبي ، وقرأ عليه واستفاد منه ونقل كثيرا من كلامه خاصة عن الرجال والعلل ( علل الحديث ) .
تلاميذه
أما تلاميذه فهم كثير لأنه قد تولى كثيرا من المدارس ، والذي يتولى المدارس الكبرى في ذلك الزمان يكثر تلاميذه لكن من أشهرهم :
* – الحافظ العراقي الذي هو شيخ الحافظ ابن حجر .
* – ابن الجزري المقري المشهور صاحب النشر في القراءات العشر ولها منظومة اسمها ( طيّبة النشر ) .
مذهب الحافظ ابن كثير في العقيدة
مذهب سلفي يظهر ذلك من خلال تمسكه بعقيدة السلف ، وتقريره لها في مؤلفاته وخاصة التفسير ، حيث نجد أن تفسيره لآيات العقائد والأسماء والصفات يقرر فيها أصول العقيدة على مذهب أهل السنة والجماعة ، كـما أنـه قـرر عقيدة أهل السنة والجماعة ، فهو يدافع عنها ويذب عنها ويبين ضلال من خالفها ، كالخوارج ، والشيعة والمعتزلة ، وأمثالهم من فرق الضلال ، وهو في ذلك يمشي على طريق شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله .
أما في الفقه فقد كان شافعيا ، ولكن يختار ما يرجحه الدليل ، وهو من المجتهدين الكبار الذين ينظرون في الأدلة ، ويقررون الأحكام على ضوء ما يدل عليه الدليل من الكتاب والسنة ، ولذلك نجده في باب الفقه يخالف الشافعي إذا اتضح الدليل . وسيأتي في تفسيره إن شاء الله شيئاً من هذه المسائل .
فضل العالم
يظهر فضل العالم :
أولاً : من مؤلفاته .
وثانيا : من ثناء العلماء عليه .
* – قال فيه المحدث الفاضل ابن حبيب ، إمام ذوي التسبيح والتهليل وزعيـم أرباب التأويل سمع ، وجمع ، وصنّف وأطرب الأسماع بالفتوى ، وحدّث وأفاد ، وطارت فتاواه في البلاد واشتهر بالضبط والتحرير ، وانتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير .
* – وقال شيخه الذهبي – رحمه الله – إمام الجرح والتعديل في العصور المتأخرة قال في تذكرة الحفاظ ، وتذكرة الحفاظ إنما يضع فيها كبار العلماء والحفاظ فكونه يضع تلميذه في تذكرة الحفاظ هذا في حد ذاته يعتبر شرف عظيم وتزكية كبرى لتلميذه الحافظ ابن كثير .
قال سمعت مع الفقيه المفتي المحدث ذي الفضائل عماد الدين إسماعيل ابن كثير البصروي الشافـــعي ، له عناية بالرجال والمتون والفقه ، خرّج وناضل وصنف وفسّر ، وقدم أي تقدم على غيره .
ويقول في المعجم المختص : الإمام المفتي ، المحدث ، البارع ، فقيه متفنن محدّث متقن مفسّر نقاد له تصانيف مفيدة .
* – قال تلميذه الحافظ أبو المحاسن الحسيني وهو أحد علماء الحديث والمؤلفين في الرجال ، أفتى ودرّس ، وناظر ، وبرع في الفقه والتفسير والنحو ، وأمعن النظر في الرجال والعلل .
* – قال تلميذه شهاب الدين ابن حجي ، كان أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث وأعرفهم بتخريجها ، ورجالها وصحيحها وسقيمها ، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك .
* – قال الإمام السيوطي : يقــول في طبقـات الحفاظ ، له التفسير الذي لم يؤلف على نمطه مثله .
وفاته
توفي في عام ( 774هـ ) بعد أن كف بصره ، أكرمه الله بعد هذا العلم وهذه المكانة وهذه المرتبة والتقدم بكف بصره حتى ينال ما بـشر به الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ أَذْهَبْتُ حَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ لَمْ أَرْضَ لَهُ بِثَوَابٍ دُونَ الْجَنَّةِ ))[2] .
* – قــال الإمام ابــن ناصـر الــدين : كــانت جنازته حافلة مشهورة ، ودفن بوصيه منه في تربة شيخ الإسلام ابن تيمية بمقبرة الصوفية ، فصاحب شيخه في حياته وأوصى بدفنه بجواره بعد موته خارج بيت النصر بدمشق .
ورثاه بعض طلبته بقوله :
لفقدك طلاب العلوم تأسفوا وجادوا بدمع لا يبيد غزير
ولوا مزجوا ماء المدامع بالدماء لكان قليل فيك يـا بن كثير
آثاره العلمية :
يـظـهـر فـضـل الـعـالم بثنــاء العـلمــاء عليه ، وبآثاره العلمية ومنها :
البداية والنهاية :
هي من أعظم المراجع التاريخية وتكلم فيها عن بدء الخلق ، بدء خلق السماوات والأرض وما فيها ، ثم تاريخ البشرية منذ خُلِقْ آدم إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يستدل في ذلك بما ورد في القرآن ، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ المسلمين إلى عام ( 700هـ ) تقريبا والجزئين الأخيرين تكلم فيهما عن الفتن وأشراط الساعة ثم القيامة ثم ما بعد القيامة من الحشر والنشر والجزاء والحساب والجنة والنار .
اختصار علوم الحديث :
علوم الحديث للإمام الحاكم صاحب المستدرك ، وابن الصلاح له على علوم الحاكم نوع من التلخيص والاستدراك والزيادة سماها مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ثم جاء الحافظ ابن كثير فاختصر مقدمة ابن الصلاح في كتابه ، اختصار علوم الحديث وبعضهم يسميه الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث ، وهو كتاب مشهور ومتداول يدرسه الذين يدرسون مصطلح الحديث ويقرر في بعض الجامعات .
السيرة النبوية :
وهى مطولة في البداية والنهاية الطبعة القديمة أكثر من ستة مجلدات أو قريبا منها ويقال أنه أفرد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في تأليف أطول ، و قد تكون هي التي في البداية والنهاية والبعض يقول إنه ألف السيرة المطولة ثم لّما ألف البداية والنهاية ضمها إليها ، وجاء عالم مصري اسمه مصطفى عبد الواحد – رحمه الله – فاستخلصها من البداية والنهاية وطبعها لوحدها .
الفصول في اختصار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم :
ذكر فيـه نسب الرسول صلى الله عليه وسلم وذكـر فيـه أيامه ومغازيه وأشياء مختصرة .
جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن :
وقـد جمـع فيـه الكتـب الستة ومسنـد أحمد ومسند البزار وأبي يعلى والطبراني ، جمعها مع الكتب الستة ورتبها على أسماء الصحابة رضي الله عنهم لكنه مات قبل أن يُكمله .
التكميل :
في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل ، جمع فيه تهذيب الكمال للمزي ، وميزان الاعتدال للذهبي ، وزاد فيه زيادات كثيرة في الجرح والتعديل ، لكنه إلى الآن مفقود وللأسف فإن مما يغبن العلماء أن مثل هذا الكتاب لازال مفقوداً .
شرح صحيح البخاري : لكنه لم يُكمله .
الأحكام الكبير :
دائما يذكره في التفسير ، ويقول : وقد استوفينا الكلام على هذه المسألة في الأحكام الكبير ، لكنه وصل إلى الحج ولم يكمله .
التفسير :
قال الإمام الزرقاني : وتفسيره هذا من أصح التفاسير بالمأثور إن لم يكن أصحها جميعا وقال الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – تفسير الحافظ ابن كثير ، أحسن التفاسير التي رأينا وأجودها وأدقها بعد تفسير إمام المفسرين أبي جعفر الطبري ، ولسنا نوازن بينهما وبين أي تفسير آخر مما بين أيدينا رأينا مثلهما ولا يقاربهما .
وتفسير ابن كثير طبع عدة مرات ومن أجود هذه الطبعات الطبعة التي في أربع مجلدات لأنها طبعت على نسخ مخطوطة قديمه ، وطبع الآن في الآونة الأخيرة طبعات جيده محققه منها : طبعة سلامة ، في ثمان مجلدات ومنها طبعة إبراهيم البنا ، ومحمد عاشور وغيرهم في سبعه مجلدات .
وأما مختصراته فكثيرة منها :
– ( عمدة التفسير ) اختصار وتحقيق الشيخ / أحمد شاكر – رحمه الله .
– ( تيسير العلي القدير ) اختصار الشيخ / محمد نسيب الرفاعي .
– ( لباب التفسير ) للشيخ / عبد الله محمد آل الشيخ .
– ( المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير ) لجماعة من العلماء بإشراف صفي الرحمن المباركفوري .
وأحسن هذه المختصرات مختصر الشيخ / أحمد شاكر – رحمه الله – وأقربها تناولا مختصر المصباح المنير .
وهناك مختصر نذكره من باب التحذير والتنبيه منه ، وهو ( مختصر الصابوني ) فقد أخل به وهو منتقد ، وسبب الانتقاد أنه أشعري ، وليس من أهل العلم بالحديث لذلك فهو يحذف حديثاً صحيحاً ويثبت حديثاً ضعيفاً .
والذي ينصح به العلماء الرجوع إلى الأصل وعدم الاعتماد على شيء من هذه الـمختصرات لأن الـمختصر لا يمكـن أن يبـقي المسائل والأقوال والمباحث كما أوردها المؤلف ، ولكن إذا كان الإنسان في البداية في طلب العلم يمكن أن يقرأ المختصرات حتى يتقوى ويدخل برفق .
مسألة
لماذا تميز تفسير ابن كثير على غيره ؟ وما هي الطريقة الصحيحة لتفسير القرآن ؟
لا شك أن ابن كثير سلك الطريقة الصحيحة أو أصح الطرق للتفسير ، لذلك تميز تفسيره وكثر الثناء عليه وأطبق عليه العلماء من قديم ، فسلك أفضل الطرق وأحسنها في تفسير القرآن وهو التفسير بالمأثور .
والتفسير بالمأثور معناه أن يفسر القرآن بالقرآن أو يفسر القرآن بالسنة أو يفسر القرآن بأقوال الصحابة والتابعين ، بالإضافة إلى الاعتناء باللغة ، فإذا سلك العالم هذه الطريقة في التفسير تميز تفسيره وحصـل له القبول عند العلماء ، وهذه هي الطريقة السلفية في التفسير من بعد الصحابة إلى زماننا .
– الطريقة الأولى : أن يُفسر القرآن بالقرآن
لأن القرآن كلام الله فالله أعلم بمراده فالآيات توجز في مكان وتبسط في مكان آخر ، وهذا كثير في القرآن مثاله : في سورة البقرة قول الله تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}] سورة البقرة الآية (65) [هذا موجز .
وجاء البسط لهذا في سورة الأعراف ، قال الله عز وجل : {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون}] سورة الأعراف الآية (163) [هذا هو تفسيرها .
* – ومنهـا : أن في القـرآن في بعض المواضع إجمال وبيانه في موضع آخر ، كما في قوله تعـالى :{ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ }] سورة المائدة الآية (1) [ .
هذا معناه أن بهيمة الأنعام حلال واستثنـى الله عز وجل إلا ما يتلى علينا ، والذي تلاه علينا بينـه الله عز وجل في نفس السورة بعدها بآية فقال تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [3] فهذا مما حـــرمه الله علينا فبين سبحانه وتعالى ذلك الـذي أجــملـه في الآيـة الأولى .
* – ومنـهـا أن تكون الآية مطلقة في مكان ومقيدة في مكان آخر ، ومن ذلك قوله تعالى : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [4] هذه مطلقة ، وقد قيدها الله بمن مات على هذا ولم يتب ، ومن تمام هذه التوبة أن يسلم القاتل نفسه ليقتل أو يدفع الدّية ، فقال تعالى : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَعفْ لهُ العَذابُ يَومَ القِيامةِ ويَخلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إلا مَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فأولئـك يُبَدِلُ اللهُ سَيِئاتِهِم حَسَناتٍ وكَانَ اللهُ غَفُوراً رحِيماً * ومَن تَابَ وعَمِلَ صالحًا فإنّهُ يتُوب إلى اللهِ مَتَاباً} [5] .
* – ومـــن ذلك تخصيص العام ، يكون اللفظ عام ويرد في مكان آخر مخصص كأن ُيخرج منه بعض أفراده ، كما في قوله تعالى :{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [6] فخص الله تعالى نساء أهل الكتاب فقال :{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}[7] .
* – ومن أوجه تفسير القرآن بالقرآن أن يكون اللفظ مبهم في مكان وموضح في مكان آخر كقوله تعالى :{يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} [8] هذا مبهم والتوضيح في نفس الآية وهو قوله تعالى :{لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} .
* – ومن ذلك النسخ كأن ترد آية في مكان وتنسخ في مكان آخر قال تعالى :{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِين}[9] فهذه كانت واجبة في أول الأمر فلمّا نزلت آية المواريث نسخت هذا الحكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : (( إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث )) [10] .
* – تفسير القراءات بعضها ببعض ، يقول مجاهد لو قرأت قراءة ابن مسعود قبل أن أسأل ابن عباسرضي الله عنه لما سألته عن كثير من المسائل .
– الطريقة الثانية : تفسير القرآن بالسنة
فالسنة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير قال تعالى : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[11] فالسنة هي الذكر الذي أُنزل ليبين للنّاس ما نُزّل إليهم ، مثاله قول الله في مواطن كثيرة : { َأَقِيمُوا الصَّلاةَ} ولم يبين هيئة الصلاة وأركانها وواجباتها ، ولا عدد الركعات فجاء البيان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وقال : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) [12] .
* – وأيضا ما جاء توضيح لمشكل كما في قوله تعالى :{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [13] فبعض الصحابة أخذ عقال أبيض وعقال أسود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( … إنما هو سواد الليل وبياض النهار ))[14] .
* – ومنها ما جاء مخصصا لبعض الآيات كما في قوله تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [15] فالنصاب الذي يُقطع فيه السارق لم يبينه الله فجاءت السنة فبينته كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال صلى الله عليه وسلم : (( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا )) [16] .
* – ومنها ما جاء تقييدا لبعض الآيات كما في قوله تعالى : {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فهذا السارق تقطع يده ، ولكن الموضع الذي تقطع اليد منه جاء في السنة كما في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال : أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا . قال قومها : فنحن نفديها – يعني أهلها – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اقطعوا يدها )) فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار . قال : (( اقطعوا يدها )) قال : فقطعت يدها اليمنى[17] .
* – ومنها ما جاء بيان لمعنى كلمه ، كما في قوله تعالى :{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } قال صلى الله عليه وسلم : (( ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي )) [18] .
وكذلك تفسيره صلى الله عليه وسلم أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين هم النصارى كما في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه .
– الطريقة الثالثة : تفسير القرآن بأقوال الصحابة رضي الله عنه والتابعين
لأن الصحابة هم أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ القرآن ومعانيه ، وذلك لخصائص خصهم الله بها ، فهم أهل اللغة ، والقرآن نزل بلغتهم ، وعلى تمكنهم من البلاغة واللغة فهم خير من يـفسر هذا القرآن .
وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لهم خاصية الصحبة فهم أحرى أن يُسددوا إلى القول السديد .
ويأتي بعد تفسير الصحابة تفسير التابعين ولهم أيضاً خاصية عن غيرهم فهم تلاميذ الصحابة مباشرة وأخذوا عنهم مباشرة .
يقول مجاهد عرضت المصحف من أول آية إلى آخر آية على ابن عباس أوقفه عند كل آية اسأله عنها .
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه – رحمه الله – إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته في أقوال الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين .
مـيـزات تـفسـير ابـن كثير
1- اختيار أحسن طرق التفسير .
2- اهتمامه باللغة .
3- تمسكه بعقيدة السلف أهل السنة والجماعة .
4- اهتمامه بذكر أسانيد الأحاديث ونقدها وبيان الصحيح منها والضعيف .
5- اهتمامه بذكر القراءات وأسباب النزول .
6- مناقشة أقوال المفسرين وأسانيدها ، وبيان الصحيح والضعيف والراجح من غيره
7- اهتمامه بالأحكام الأصولية والفقهية مع حسن العرض للخلاف وإيراد أدلة كل فريق مع ترجيح القول الذي تسانده الأدلة من غير تعصب مذهبي .
8- ذكر المعنى الإجمالي للآيات .
9- موفقه الواضح من الأخبار الإسرائيلية وتنبيهه على الكثير منها وبيان خطئها وخطرها .
10- أسلوبه في التفسير الذي يجمع بين القوه والجودة والسهولة واليسر فكان التفسير صالحاً للعلماء وطلاب العلم والعامة .
11- أمانته في النقل ونسبة كل قول إلى أهله .
12- وقوفه عند حد التفسير وعدم استطراده في كثير من المباحث وإن أخذ منها فبقدر الحاجة .
مــا يــؤخذ عــلى ابن كثير
1- ذكر بعض الإسرائيليات وفيها نكارة ، وفيه ما يدل على بطلانها .
2- ذكر بعض الأحاديث الضعيفة وعدم التنبيه عليها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير سورة الفاتحة
أسماء الفاتحة
* – يقال لها الفاتحة ؛ لأنه يفتتح بها الكتابة في المصحف ، ويفتتح بها الصلاة ويقال لها أم الكتاب عند الجمهور ، وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الحمد لله أُمُّ القُرْآنِ ، وأُمُّ الكِتَابِ ، والسَّبْعُ الـمَثانـِي )) [19] .
* – ويقال لها الحمد ، ويقال لها الصلاة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : (( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين … )) الحديث[20] .
* – ويقال لها الرقية ، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حين رقى الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( وما يدريك أنها رقية ؟ )) [21] .
– وهـي مـكيــه بالاتفــاق لقول الله عز وجل : {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[22] لأن هذه الآية مكيه بالاتفاق ، وورد في الحديث أن السبع المثاني هي الفـاتحة فـدل عـلى أنهــا نزلت بمكة .
– آياتها سبع آيات بلا خلاف .
*- وجوب قراءة الفاتحة في الصلوات :
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القران فهي خداجٌ )) – ثلاثا – غير تمام . فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه إنا نكون خلف الإمام فقال : اقرأ بها في نفسك فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : (( قال الله عز وجل : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} قال الله : حمدني عبدي وإذا قال :{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله : أثنى على عبدي وإذا قال :{مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} قال الله : مجدني عبدي وقال مرة : فوض إلي عبدي فإذا قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين } قال الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ))[23] .
فدل هذا على أنه لابد من القراءة في الصلاة وهو اتفاق من العلماء .
* – وثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) [24] .
* – وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تجزيء صلاة لا يقرأ فيها بأم القران )) [25] .
والصلاة قسمين : [ أقوال وأعمال ] .
فأحد جزيء الصلاة الأقوال ، وأعظم الأقوال القرآن ، وأعظم القرآن سورة الفاتحة ، وبما أنه يجب عليه القراءة في الصلاة ، إذًا يتحتم أن يكون أوجب شي أعظم شي في القرآن وهو سورة الفاتحة ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عباده ابن الصامت رضي الله عنه : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) نفي والنفي في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا لشيء واجب .
* – روى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وغيرهما من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال : (( إني لا أراكم تقرؤون وراء إمامكم ؟ )) قال : قلنا : أجل والله يا رسول الله هَذّاً . قال : (( فلا تفعلوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها )) [26] فهذا نص في المسألة .
* – أما الذين لا يرون وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة فدليلهم قوله تعالى : { فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }[27] فهذه آية عامة خصصها قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) فالمؤيد بالأدلة الكثيرة وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة على الإمام والمأموم ، والمنفرد .
الاستعاذة
الـجمهور علـى أن الاستعاذة مستـحبـه ليست بمتحتمة يأثم تاركها ، ودليلهم حديث المسيء في صلاته وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالاستعاذة .
والرد عليهم : أن هناك واجبات في الصلاة لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم غير الاستعـاذة .
وحكى الرازي عن عطاء ورجحه شيخنا – حفظه الله – أن الاستعاذة واجبه في الصلاة وغيرها لعدة أسباب منها :
1- ظــاهر الآيـة : { فَإِذَا قَــرَأْتَ الْقُـــرْآنَ فـَاسْتَعِــذْ بِاللَّهِ مِـنَ الشَّيْـطَانِ الرَّجِيـم } [28] وهـو أمـر ظـاهـره الـوجـوب .
2- مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، وهو بيان لمجمل القران ، ولو كان الأمر في الآية ليس للوجوب لتركه النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأحيان حتى يفهم الناس أنه ليس للوجوب .
3- ولأنها تدرأ شر الشيطان .
المواطن التي تشرع فيها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم
1- عند قراءة القرآن ، قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } (1) .
2- عند دخول الخلاء ، فعن أنس رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال : (( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )) (2) .
3- عند دخول المسجد ، فعن حَيْوَةَ ابن شريح قال : لقيت عقبة بن مسلم فقلت له : بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان إذا دخل المسجد قال : (( أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم )) قال : أقَطْ ؟ قُلت : نعم . قال : (( فإذا قال ذلك قال الشيطان : حفظ مني سائر اليوم )) (3) .
4- عند الخروج من المسجد ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم أعصمني من الشيطان الرجيم )) (4) .
وعند النسائي بلفظ : (( اللهم أجرني من الشيطان الرجيم )) (5) .
وعند ابن حبان بلفظ : (( اللهم أجرني من الشيطان الرجيم )) (6) .
وهو عند الحاكم بلفظ : (( إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم أجرني من الشيطان الرجيم )) (1) .
وعند ابن خزيمة بلفظ : (( اللهم أجرني من الشيطان الرجيم )) (2) .
5- عند إتيان الرجل أهله ، فعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فَـقُضِيَ بينهما ولد لم يضره )) (3) .
6- ودبر الصلوات المكتوبة ، فعن عقبه ابن عامر رضي الله عنه قال : (( أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة )) (4) .
وهو عند أبو داود (5) وابن حبان (6) بلفظ : (( اقرؤوا المعوذات في دبر كل صلاة )) .
وهو حديث صحيح ففي سورة الناس قوله تعالى : {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ }وهو الشيطان ، وسورة الفلق فيها قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } فيشمل الشيطان وغيره .
7- عند الاضطجاع ، فعن عائشة رضي الله عنه قالت : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما : قل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات )) (1) .
وحديث أبي الأزهر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال : (( بسم الله وضعت جنبي اللهم اغفر ذنبي واخسأ شيطاني وفك رهاني وثقل ميزاني واجعلني في الندي الأعلى )) (2) .
8- عند الفزع في النوم ، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا فزع أحدكم في النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لن تضره )) (3) .
9- عند الصبا ح والمساء ، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت ؟ قال : (( يا أبا بكر قل : اللهم فاطر السموات والأرض عـالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شي ومليكه أعـوذ بك من شر نـفسي ومن شر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم )) وهو حديث صحيح (4) .
10- عند الوسوسة في الصلاة ، فعن أبي العلاء أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليّ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا )) قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني (1) .
11- عند الغضب ، فعن سليمان بن صُرَدْ رضي الله عنه قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد أحمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) فقالوا للرجل : ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إني لست بمجنون (2) .
12- عند سماع نهيق الحمار ونباح الكلاب في الليل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا سمعتم صياح الديكة فسألوا الله من فضله ، فإنها رأت ملكا ، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنه رأى شيطانا )) (3) .
ولأبي داود عن جابر رضي الله عنه : (( إذا سمعتم نِبَاحَ الكِلاَبِ وَنَهِيقَ الحُمْرِ بالليلِ فتعوذوا بالله فإنهن يرين مالا ترون )) (4) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
أي أستجير بجناب الله من الشيــطان الرجيــم أن يـضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به ، أو يحثني على فعل ما نهيت عنـه .
الشيطان
مشتق من شطن إذا بعد ، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير وقيل مشتق من شاط ؛ لأنه مخلوق من نار ، والأول أصــح .
الرجيم
فعيل بمعنى مفعول ، أي مـرجــوم مـطرود عـن الخـير كـله . وقيـل : رجيم بـمـعنى راجـم ؛ لأنـه يـرجم النـاس بالوسـاوس والأول أصــــح .
بسم الله الرحمن الرحيم
أختلف العلماء هل البسملة آية مستقلة في أول كل سورة أو من أول كل سورة كتبت في أولها ، أو أنها بعض آية من كل سورة ؟
الصحيح : أن البسملة آية مـن كـل سـورة مـن القـران إلا سورة براءة ، وذلك لأدلة كثيرة منها :
* – عن قتادة رضي الله عنه قال : سئل أنس بن مالك رضي الله عنه : كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : (( كانت مداً ، ثم قرأ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَمُدُّ ببسم الله ، وَيَمُدُّ الرحمن ، وَيَمُدُّ الرحيم )) (1) .
* – عن نعيم المجمر قال : صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه : (( فقرأ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } فقال : آمين فقال الناس : آمين . ويقول كلما سجد : الله أكبر ، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال : الله أكبر ، وإذا سلّم قال : والذي نـفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم )) (2) .
* – عن عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة رضي الله عنها : أنها ذكرت – أو كلمة غيرها – قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يُقطعُ قِراءَتَهُ آيةً آية )) (3) .
* – ما ثبت عن عمر رضي الله عنه فقد أخرج أبو داود وغيره عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أن عمر يعني ابن الخطاب رضي الله عنه خطب فقال : (( إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا من بعده وإني خشيت إن طال بالناس الزمان أن يقول قائلٌ ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا قامت البينة أو كان حملٌ أو اعترافٌ ، وأيمُ الله لولا أن يقولَ الناسُ زاد عمرُ في كتاب الله لكتبتها )) (1) .
فهذا يبين على أن لم يكتب في المصحف إلا مـا أتُـفق عـلى أنه قرآن .
أما أدلة المخالفون فهي إما أدلة نافية أو أدلة مجملة ، منها :
– حديث عائشة رضي الله عنها : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة ، بالتكبير والقراءة ، بالحمدُ لله رب العالمين … )) (2) .
فهذا مجمل لأنه كما مر معنا أن من أسماء الفاتحة الحمد لله رب العالمين ، فقد يحتمل أن يكون هذا مرادها ، وأيضا الغالب في صلاة النبيصلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يجهر بالبسملة ، والمثبت مقدم على النافي ؛ لأن المثبت فيه زيادة علم .
المواطن التي يشرع فيها البدء بالبسملة
1- عند قراءة القران في أول كل سوره إلا براءة ، فالقراءة الواجبة تجب فيها البسملة كالفاتحة ، والقراءة المستحبة تستحب فيها البسملة .
2- عند تناول الطعام والشراب ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه … )) (1) .
وعن عمر بن أبي سلمه قال : كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي : (( يا غلام : سم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك )) (2) .
3- عند الصيد والذبائح ، قال تعالى : {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3) وعنـد الـذبـح قـــال صلى الله عليه وسلم : (( من لم يذبح فليذبح بسم الله )) (4) .
وفي رواية لمسلم : (( فليذبح على اسم الله )) .
4- عنـد الـوضـوء ، فعن أبي هريرة وسعيد ابن زيد وأبي سعيد رضي الله عنهم مرفوعاً : (( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )) (5) .
5- وكذلك في الرسائل ، فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم في كتبه ورسائله أنه يبدأ فيها بالبسملة كما في صلح الحديبية قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : (( اكتب الـشرط بيننا : بسم الله الرحمن الرحيم ، وهذا ما قاضى عليه محمد رسول الله )) (6) .
6- عند الخروج من المنزل ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال : (( إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال : يقال حينئذ : هديت وكفيت ووقيت فتتنحى له الشياطين فيقول شيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي )) (1) .
7- عند الدخول إلى المنزل ، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا ولج الرجل بيته فليقل : اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج ، بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا وعلى ربنا توكلنا ، ثم ليسلم على أهله )) (2) .
8- عند الدخول إلى الخلاء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : (( ستروا مابين أعين الجن وعورات بني آدم ، إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول : بسم الله )) (3) .
وهو عند ابن ماجه بلفظ : (( ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول : بسم الله )) (4) .
9- عند الاضطجاع ، فعن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلفه عليه ، ثم يقول : باسمك رب وضعت جنبي وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فأرحمها وإن أرسلتها فا حفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين )) (5) .
10- عند تعثر الدابة ، فعن أسامه بن عمير قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فعثرت دابته فقلت : تعس الشيطان . فقال صلى الله عليه وسلم : (( لا تقل : تعس الشيطان ، فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت ويقول بقوتي ، ولكن قل : بسم الله ، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب )) (1) .
11- عند ركوب الدابة ، فعن علي بن ربيعة رضي الله عنه قال : (( شهدت علياً وأتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون .. )) (2) .
12- عند تغسيل الميت ، يقول : بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
13- عند وضع الميت في قبره ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أدخل الميت القبر قال : (( بسم الله وعلى ملة رسول الله )) (3) .
وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع الميت في القبر قال : (( بسم الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم )) (4) .
14- عند الرقية من المرض ، فعن أبي سعيد رضي الله عنه : أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد اشتكيت ؟ فقال : (( نعم )) قال : بسم الله أرقيك . من كل شي يؤذيك من شر كل نفسٍ أو عين حاسدٍ الله يشفيك . بسم الله أرقيك )) (5) .
15- عند إتيان الرجل أهله ، وقد تقدم دليله في المواطن التي تشرع فيها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم .
لماذا البدء بالبسملة
البدء بالبسملة أدب كريم من الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام ولأمته .
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
{الله}
علم على الرب تبارك وتعالى : يقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) .
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}
اسمان ووصفان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة والرحمن أشد مبالغه من رحيم .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ}
الشكر لله خالصا دون سائر ما يعبد من دونه ، فعن انس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله ، إلا كان الذي أعطاهُ أفضلَ مما أَخَذَ )) (2) .
ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجة وحسنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( … وإذا قال : لا إله إلا الله له الملك وله الحمد . قال : صدق عبدي لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد … )) (3) .
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمدهُ عليها ، ويشرب الشربةَ فيحمدهُ عليها )) (1) .
( والحمد لله ) أبلغ من ( سبحان الله ) أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله ، والحمد لله ، تملآن أو تملأ مابين السماوات والأرض )) (2) .
فدل هذا على أن الحمد أبلغ من التسبيح ، وأيضا التسبيح تنزيه لله عن النقائص أما الحمد فهي إثبات الكمالات لله عز وجل ، وهى أول كلمه نطق بها آدم عندما عطس فقال : ( الحمد لله ) وآخر كلمه يقولها أهل الجنة ، قال تعالى :{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (3) .
ومن حيث الزمان فالحمد له في الأولى والآخرة ، كما قال تعالى :{ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (4) .
وكذلك شمل الحمد المكان : { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } (5) .
فشمل الزمان كله والمكان كله وهذا يدل على استغراق الحمد الذي دل عليه الألف واللام .
{رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الرب هو المالك المتصرف ، يعني أنه المربي للعالمين جميعا .
{الْعــَالَمِين}
يشمل من في السماء والأرض وما بينها ، قال موسى عليه السلام إجابة لفرعون حين سأله :{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}(1) .
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
يوم الدين يوم الحساب للخلائق ، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر والدين الجزاء والحساب :{ومَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ } (2) وخص الله الملك بيوم الدين لأنه لا أحد يدعي شي في ذلك اليوم .
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعينِ}
أي لا نعبد إلا إياك ، ولا نتوكل إلا عليك وهذا هو كمال الطاعة ، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين ، وهذا كما قال بعض السلف : الفاتحة سر القرآن وسرها : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعينِ } .
وأول أمر في سورة البقرة قول الله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} (3) وهو معنى :{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} .
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ المستقيم }
أي ألهمنا أو وفقنا أو ارزقنا أو أعطنا الصـراط المستقيم ، والـصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه .
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
أي أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم لا يهتدون إلى الحق .
والهداية : هدايتان :
1- هداية توفيـق 2- وهــداية إرشـاد .
وقـد وردت في القـرآن ، هــداية التـوفيـق في قـوله تعالى :{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} وهذه لا يملكها إلا الله عز وجل قال تعـالى لـرسولهصلى الله عليه وسلم وهـو خـيرته مـن خـلقه :{إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (1) وهي لا تطلب إلا من الله عز وجل ، وهداية إرشاد وبيان وتعليم ، فهذه يملك الرسل وأهل الله من الدعاة والمصلحين وهذه الهداية هي التي قال الله تعالى عنها :{وإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
{ آمين }
أي اللهم استجب ، والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال : (( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ :{غيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين} فقال :{ آمين } مد بها صوته )) (2) .
وعند أبي داود بلفظ : (( رفع بها صوته )) .
تفسير سورة البقرة
اللهم أعنا يا كريم
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} .
أولاً : اختلف العلماء في هذه الحروف المقطعة هل لها معنى في ذاتها أم لا ؟
والصحيح أن لها معنى وإن خفي على الناس ؛ لأنه لا يتصور أن ينزل كلام من الله الحكيم العليم الذي هو هداية للناس ولا يكون له معنى في نفسه ؛ لأن هذا عبث والله تعالى منزه عن العبث جل جلاله .
– وقد اختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم في المعاني التي يمكن أن تدل عليها هذه الحروف المقطعة :
1- فمنهم من قال : أنها أسماء لله تعالى .
2- ومنهم من قال : أنها أسماء السور التي نزلت بها .
3- ومنهم من قال : أنه يتركب منها جمل أو كلمات تدل على معاني ومنها :
اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب ولكن لا يعرف كيف تركيبه ..الخ .
4- ومنهم من قال : أنها على حساب الجُمّل فيها بيان مدة هذه الأمة كم تستمر وهو اضعف الأقوال التي ذكرت في كتب التفسير . وقد قال به اليهود ولكن الله أخلف قولهم .
ثم كان كلام الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في النهاية : أن مع اختلاف الناس وعدم إجماعهم على معنى واحد أن هذا يجعل الإنسان يتوقف حتى يظهر له دليل يرجح معنى من هذه المعاني على غيره فإذا ظهر الدليل وإلا توقف سواءً في هذه المسألة أو غيرها من مسائل الدين ؛ لأن الإقدام بغير علم خطر فقد يوقع الإنسان في القول على الله بغير علم .
ثانياً : ما الحكمة من إنزالها في أوائل السور ؟
– اختلف العلماء في ذلك :
1- فمنهم من قال : أنها للتنبيه .
2- ومنهم من يقول : أن المقصود هو الإعجاز ، أي أنتم الذين كذبتم بالقرآن وكذبتم الرسول وأعرضتم عن دين الله وتقولون أنه كلام بشر ، فهذه الحروف التي نزل بها القرآن هي حروفكم التي تتكلمون بها ، فلماذا لا تأتون بمثله وأنتم تقولون أنه كلام بشر ، فتحداهم الله تعالى بأن يأتوا بمثله كما في قوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (1) .
وقال سبحانه : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (2) .
وقال جل وعلا : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (1) .
ومع ذلك عجزوا وهم ملوك البلاغة والفصاحة والبيان وقت إنزال القرآن ، فلم تبلغ أمة ما بلغته العرب في البيان والفصاحة والتصرف في الكلام وأساليبه من شعر ونثر وخطابة وغيرها ، ومع ذلك عجزوا عجزاً تاماً عن أن يأتوا بسورة أو بعـشر سور أو مثله ، فدل هذا على أنه من عند الله فليس بمقدور البشر أن يأتوا بمثله ، فهم يقولون أن الذي يعلمه القرآن أعجمي كما ذكر الله ذلك عنهم فقال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ }(2)
وقوله تعالى : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } التقوى : هي البر وهداية القرآن لأهل البر سواءً كانوا قبل الإسلام وأدركهم الإسلام أو كانوا بعد دخولهم الإسلام أي يشمل الأمرين كما ذكر الحافظ ابن كثير .
فالخير والشر كان معروفاً عند الناس قبل الإسلام وتعظيم الخير ومحبة الخير مجبولة عليه فطر كثير من الناس وبغض الشر كذلك ، فالذين كانوا يحبون الخير ويعظمونه ويبغضون الشر ويكرهونه كانوا أقرب إلى قبول الإسلام والاهتداء بالقرآن لما نزل لأنه يوافق ما عندهم من قبول الخير وكره الشر ؛ ولأن القرآن نزل بالترغيب في الخير والحث عليه والأمر به والتحذير من الشر والنهي عنه والزجر والمنع .
فالذين اتصفوا بالبر والتقوى وتعظيم الفضائل والدعوة إليها كانوا أكثر انتفاع واهتداء بالقرآن ؛ لأن الهداية منازل ومراتب ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (1) .
وقال تعالى :{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً } (2) .
إذاً هناك زيادة في الهداية وترقي فهؤلاء الذين يعظمون الفضائل ويحبون المكرمات ويجلون الأخلاق الفاضلة هؤلاء يزدادون بالقرآن هداية بعد هداية ويتنقلون من هداية إلى هداية أعظم ويرتفعون درجات حتى يصلون إلى مراتب الإحسان التي هي مراتب الكمال البشري في العبودية لله عز وجل وتحقيق الهداية .
بينما الآخرون الذين هم أهل فجور يحبون الرذائل ويقبلون عليها وربما زهدوا في الفضائل وربما حاربوها هؤلاء يكون القرآن عمى عليهم – والعياذ بالله – بدركات متفاوتة : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (3) يعني حرمهم الانتفاع بالقرآن والاهتداء بهديه وحرمهم التوفيق فيزدادون – والعياذ بالله – عمى على عمى حتى ربما يصل بهم الأمر إلى الهلاك الأبدي نسأل الله العافية والسلامة .
والهداية كما ذكر الحافظ هدايتان :
1- هداية الإرشاد والتعليم والتوجيه والتربية ، وهذه يملكها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهي دعوتهم : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (1) أي : تدل وتعلم وترشد .
2- وهداية التوفيق وهي تحريك القلوب إلى الانتفاع والقبول ، فهذه لا يملكها إلا رب العالمين : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (2) فالله عز وجل يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } وهناك يقول : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (3) فكيف نجمع بينهما ؟
معنى ذلك أن المسألة فيها نوعان من الهداية فهداية الإرشاد والتعليم يملكها النبي صلى الله عليه وسلم وأما هداية القلوب إلى قبول الحق والانتفاع به فلا يملكها إلا الله تعالى فمن علم الله أنه يستحق الهداية هداه أي وفقه وشرح قلبه وحركه إلى الخير وصرفه عن الشر .
قال الله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (4) .
فأولئك القوم الذين هم ثمود هداهم الله تعالى هداية الإرشاد بإرساله نبيه صالح عليه الصلاة والسلام ولكنهم قابلو دعوته بالصد والاستكبار فحرمهم الله تعالى بعدله التوفيق فلم ينتفعوا ببعثة رسول الله صالح وهكذا كل من قابل هدى الله الذي أرسلت به الرسل عليهم الصلاة والسلام بالصد والاستكبار تكون عقوبته العاجلة أن يحرم التوفيق كما في الآية السابقة { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (1) وما ربك بظلام للعبيد .
وقوله تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } (2) .
الإيمان : كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل ، هذا هو الصحيح ، لا يوجد في لغة العرب أن الإيمان هو التصديق فقط، هذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وتكلم فيه كلام طويل في كتاب الإيمان وفند قول من يقول أن الإيمان في اللغة هو التصديق .
وأما اللفظ الشرعي للإيمان فلا يكفي فيه مجرد التصديق ، فلو كان الإيمان مجرد التصديق لكان أبو طالب مؤمنا لأنه كان مصدقا للنبي صلى الله عليه وسلم وأشعاره في ذلك معروفة فلما لم ينجه ذلك عند الله عُلم أن مجرد التصديق لا ينجي عند الله ، فلابد في الإيمان من الإقرار والقبول والإذعان ولابد من العمل سواءً عمل القلب أو عمل الجوارح ؛ لأن الإيمان في الشرع كلمة مركبة من أجزاء تشمل : معرفة القلب وعلمه وإقراره وتصديقه مع عمل القلب كالخشية والإخلاص والنية والرجاء والخوف من الله والتوكل على الله ثم عمل الجوارح ولابد ، فلا يوجد إيمان من غير عمل ظاهر وباطن .
وقوله تعالى :{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي يقيمون الصلاة بفروضها . وقال الضحاك عن ابن عباس : إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها . وقال قتادة : إقامة الصلاة والمحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها . وقال مقاتل بن حيان : إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الوضوء لها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إقامتها .
قلت : هذا كله مراد ؛ لأن الاختلاف اختلاف تنوع وليس تضاد فكل الكلام الذي ذكره المؤلف – رحمه الله – عن السلف مقصود في الصلاة أي لا تقام الصلاة إلا بهذا كله الذي ذكر .
وقوله تعالى :{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} قال علي ابن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس : زكاة أموالهم . وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} قال نفقة الرجل على أهله وهذا قبل أن تنزل الزكاة . وقال جويبر عن الضحاك : كانت النفقات قربان يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات هن الناسخات الُمثبتات .
قلت : وهذا الكلام فيه نظر ؛ لأن نفقة الرجل على أهله واجبة كالزوجة والأولاد والوالدين والمماليك .
فائدة : كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والأنفاق من الأموال فإن الصلاة حق الله على عباده وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعاءه والتوكل عليه .
والإنفاق : هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ثم الأجانب ، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( بني الإسلام على خمس : شهادةِ أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله ، وإقامِ الصلاةِ ، وإيتاءِ الزكاةِ ، والحجِّ ، وصومِ رمضانَ )) (1) .
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء ، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة بشروطها المعروفة وصفاتها وأنواعها المشهورة .
قلت : هذا رد على من يقول أن الصلاة هي الدعاء فقط ، وهذا ليس بصحيح فالصلاة في أصل اللغة الدعاء ولكن الشرع نقل اللفظ اللغوي واستعمله استعمالا مخصوصا فلا تسمى صلاة في الاصطلاح الشرعي : إلا بأفعال مخصوصة وهيئات مخصوصة وكلام مخصوص في وقت مخصوص بطريقة مخصوصة .
هذا هو القسم الأول من أقسام البشر ؛ لأن الله تعالى بين في أول سورة البقرة أقسام البشر بالنسبة لهداية الله عز وجل ودينه الذي رضيه لخلقه :
– فمنهم من قبل هذا الدين وهذه الهداية باطناً وظاهراً وهم أهل الإيمان .
– ومنهم من رفضها باطناً وظاهراً وهم الكفار .
– ومنهم فريق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء قبلوها ظاهراً ورفضوها باطناً وهم المنافقون .
فبين الله تعالى أحوال هؤلاء الطوائف ثم مآلهم ، فكانت هذه الأربع الآيات في وصف الذين قبلوا الإيمان أو قبلوا الإسلام باطناً وظاهراً وهم المؤمنون ووصفهم وأعمالهم التي يتحقق بها أنهم قبلوا الإسلام باطناً وظاهراً فشمل ذلك أعمال الباطن من الإيمان بالغيب بمعناه الأعم الأشمل فيدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وما يتعلق بالله عز وجل فيثبتون لله ما أثبته لنفسه وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه وما أثبته له رسوله يثبتونه وما نفاه عنه رسوله ينفونه ويُخضّعون قلوبهم وجوارحهم لله عز وجل الواحد القهار هذه صفتهم ، ويؤمنون بعد ذلك بالغيب المتعلق باليوم الآخر وبالأنبياء السابقين والكتب المنزلة والملائكة وأمور الغيب الأخرى ، وأيضاً ينفذون أعمال الإسلام الظاهرة إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله عز وجل سواءً كانت نفقات واجبة أو نفقات مستحبة ، فمن علامة صدقهم في الإيمان أنهم يتقربون إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة حتى وإن لم تكن مفروضة عليهم فيطعمون الطعام ويبذلون المعروف ويغيثون الملهوف تقرباً إلى الله فهذا من علامة قبولهم للإسلام باطناً وظاهراً ومن علامة إذعانهم لله جل وعلا ومن علامة تصديقهم باليوم الآخر ؛ لأنهم يعلمون أن اليوم الآخر فيه الأجور العظيمة لمن تقرب إلى الله بهذا .
فبين عز وجل أن هؤلاء هم المهتدون الذين ينتفعون بالقرآن : {أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} وأنهم هم أهل الفلاح : والفلاح كلمة عامة جامعة شاملة تشمل حصول المطلوب الذي طلبوه وهو رضوان الله والفوز بجناته ونعيمه ، والنجاة من المرهوب وهي النجاة من عذاب الله وسخطه ، وهم أمة الإجابة التي استجابت لله وللرسول .
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) } .
الكفر في لغة العرب : الستر فيقال للزارع كافر ؛ لأنه يغطي الحب بالتراب حتى ينبت وسمي الكافر كافرا ؛ لأنه يستر الحق ويغطيه كأنه غيّب عقله وقلبه عن قبول الحق .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي غطوا الحق وستروه ، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك ؛ لأن الشقاء والسعادة والهداية والضلال إنما هي بيد الله تعالى وحده فهم لما رفضوا الحق عاقبهم الله عز وجل بأن صرفهم عنه { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }(1) فهم وإن كان لهم مشيئة واختيار ولكن فوق ذلك مشيئة الله تعالى وتدبيره لهؤلاء الذين رفضوا الحق بعد أن سمعوه بآذانهم ولكنه سمع غير سمع الاستجابة ولذلك يقول الله تعالى في آية أخرى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} (2) لأنه سمع غير سمع الاستجابة والإذعان والقبول ، بل هو سمع حسي ولذلك قال الله تعالى : {لا يَعْقِلُونَ } لأن المقصود تعقل هذا الكلام وتدبره والانتفاع به .
قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1) فهذا ليس ظلم من الله تعالى ولكن هذا اختيارهم لأنفسهم ، فالله جل وعلا لما علم دسائس أنفسهم وفساد طوياتهم وفساد قلوبهم وإعراضهم عن الحق صرف الله قلوبهم وختم عليها .
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له الشقاوة في الذكر الأول .
قلت : لأن الله سبحانه وتعالى خلق الجنة وكتب لها أهل قبل أن يخلقهم وقال : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي ، وخلق النار وكتب لها أهل قبل أن يخلقهم وقال : هؤلاء إلى النار ولا أبالي ففي مسند الإمام أحمد قال ثنا هيثم وسمعته أنا منه قال ثنا أبو الربيع عن يونس عن أبي إدريس عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فاخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر وضرب كتفه اليسرى فاخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم فقال للذي في يمينه : إلى الجنة ولا أبالي وقال للذي في كفه اليسرى : إلى النار ولا أبالي )) (2) .
فهو سبحانه وتعالى أعلم بمن يستحق السعادة وبمن يستحق الشقاوة ، ولذلك ورد في الحديث : (( … إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )) (1) .
بعلم الله السابق بدخائل القلوب ودسائسها ، ولذلك ينبغي للإنسان أن يجاهد قلبه أعظم مما يجاهد جوارحه ؛ لأن القلوب إنما سميت القلوب لكثرة تقلبها ، فعن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )) قال فقلنا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ قال : فقال : (( نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها )) (2) .
هذا وهو رسول الله وخيرة الله من خلقه ومع ذلك كان في أعظم مظاهر العبودية لله عز وجل يدعوا بهذا الدعاء .
ولذلك ورد عن السلف كما في قول سفيان الثوري وغيره : أنه ما جاهد أحدهم شيئاً كجهاده لنيته . أي لقلبه ؛ لأن الله تعالى إنما ينظر إلى القلوب وحركاتها وأعمالها فكم من إنسان ظاهره أمام الناس شيء والله يعلم من دواخله شيءٌ آخر – نسأل الله الستر ونعوذ به من الفضيحة .
وقوله تعالى :{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال السدي : ختم الله أي طبع الله . وقال قتادة في هذه الآية : استحوذ عليهم الشيطان إذا أطاعوه فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون .
قال الله عز وجل : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (1) .
وقال ابن جريج : قال مجاهدا : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قال : الطبع ثبتت الذنوب على القلب فحفت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم . قال ابن جريج : الختم على القلب والسمع . قال ابن جريج وحدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : الران أيسر من الطبع والطبع أيسر من الإقفال والإقفال أشد من ذلك كله .
أي ثلاث دركات : الران ثم الطبع ثم الإقفال : { أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } (2) نسأل الله العافية والسلامة .
قال القرطبي : وأجمعت الأمة – أي هذا مذهب أهل السنة والجماعة – على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع عل قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } (3) .
وهذا ليس ظلم من الله تعالى لهم وليس جبراً لهم على الكفر بل إن الله تعالى بين لهم الهدى وأرسل لهم الرسول وأنزل لهم الكتاب فأبوا إلا الكفر فعاقبهم الله بجزاء أعمالهم والله علم أحوال الخلق قبل خلقهم وقدر أعمالهم قبل أن يعملوها ولكنه سبحانه لم يأمرهم بالكفر والمعاصي وإنما أمر بالإيمان والطاعة وبالتالي فهو سبحانه إنما يجازي الخلق بأعمالهم التي عملوها ، وذكر المؤلف الأدلة هنا وفي الأصل أدلة أخرى من الكتاب والسنة في أن هذا جزاء أعمالهم وأن الله ليس بظلام للعبيد :{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1) فهم تعاطوا شيئاً فعاقبهم الله بما عملوا ، فالله تعالى منزه عن الظلم فهو رب العالمين ولكنه جل وعلا يجازيهم بأعمالهم وهذا عدل منه سبحانه وتعالى أن يجازي الكافر بكفره والعاصي بمعصيته إلا أن يتجاوز عنه إن كانت دون الكفر ، والله تعالى يتفضل على المؤمنين بتوفيقه وهدايته ويسبغ عليهم رضوانه وإذا عاقب الكافر فإنما يعاقبه بعمله ( بكفره ) ولا يعاقبه بعلمه سبحانه وتعالى فقط ، بل إن الكافر يفعل الكفر فيعاقبه الله بالكفر من معاندته لله ومحاربته لله ولرسله ، وأما المعتزلة فيقولون : هذا لا ينسب إلى الله (2) ؛ لأنهم في تنزيههم كما يزعمون يدعون أن الله لم يقدر الأعمال وزعموا أنهم لو أثبتوا تقدير الله للأعمال لنسبوا إليه الظلم في حال معاقبة العامل بالكفر أو المعاصي .
قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)} .
البلاء بالمنافقين ليس محصوراً في زمان دون زمان ولكنه منذ أظهر الله دينه ونصر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وهزم الأحزاب إلى قيام الساعة والنفاق موجود في كل عصر ، والمنافقون خطرهم شديد وتلبيساتهم على المؤمنين كبيرة ، ولذلك ذكر الله عز وجل أوصافهم لأن الأعيان تختلف فيموت الأول ويأتي الآخر ، فلذلك ذكر الله الأوصاف فكل من اتصف بوصف من صفات المنافقين فإما أن يكون فيه شعبة من النفاق وإما أن يكون فيه أكثر من شعبة وقد يطبق النفاق على بعض الناس والعياذ بالله .
والنفاق إما أن يكون ظاهرا وإما أن يكون باطنا ، فالظاهر الكذب فإذا رأيت إنسان يعتاد الكذب ويتخذه – والعياذ بالله – منهجا ومسلكا فأعلم أن فيه خصلة من النفاق وكذلك خُلف الوعد ومنه خُلف العهد والميثاق ومنها الفجور في الخصومة : (( إذا خاصم فجر )) ومنها خيانة الأمانة فهذه خصال عملية أي ظاهرة ، فإن صاحَبَها اعتقاد في القلب فاسد فهو النفاق القاتل الأكبر الذي صاحبه مخلد في نار جهنم وهو في الدرك الأسفل من النار .
فمن وقع في مثل هذه الأمور العملية بغلبة الشهوة وغلبة الهوى فإنه على خطر عظيم لأنها إن تمكنت من قلبه تحولت إلى نفاق اعتقادي .
أما مجرد التلبس بهذه الصفات من صفات المنافقين فهو خطر وهي معاصي وكبائر وصاحبها على خطر عظيم أن يقع الزيغ في قلبه فيتحول إلى نفاق اعتقادي لا حيلة فيه الذي هو أغلظ أنواع الكفر- أعاذنا الله وإياكم .
فالمقصود أن النفاق موجود والمنافقين مع المسلمين ولذلك اشتد خطرهم وكثر البلاء بهم فهم مع المسلمين فقد يصلّون ويشاركونهم في البيع والـشراء والأسواق والتجمعات وهم في الحقيقة كفار ليسوا بمؤمنين ، فخطرهم عظيم ولذلك ذكر الله أوصافهم وجلاّها في كتابه حتى يُحذر من أهل هذه الصفات ويكون المؤمن على حذر حتى لا يفسدوا على الناس دينهم ودنياهم .
المنافق يخالف قوله فعله وسره علانيته ، فهو يقول : {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } (1) وهو في الباطن – والعياذ بالله – كافر بالله وبرسوله ، ويخالف سره علانيته : ففي الـسر يكره الإسلام وأهله وفي العلانية يقول أنه يحب الإسلام وأهله وهكذا .
في مكة كان المسلمون مستضعفون يخفون إسلامهم فليس هناك حاجة أن يأتي إنسان فيقول أنا مسلم ؛ لأنه لو قال ذلك أوذي لذلك لم يكن في مكة نفاق بل كان عكسه فقد يكون مسلما فيقول للكفار أنا معكم حتى لا يؤذى مع أن قلبه مطمئن بالإيمان .
ولكن متى جاء النفاق ؟ جاء في المدينة لما أظهر الله دينه ورأى المنافقون واليهود أن دين الله قد انتصر وحمي الإسلام وقويت شوكته خافوا منه وكان بدء ذلك بعد غزوة بدر التي نصر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم وأعز جنده وكسر شوكة الكفر فغص اليهود والكفار في المدينة بريقهم وعلموا أنه لا طاقة لهم بالإسلام وأهله فعند ذلك قرروا محاربته بالكيد له من الداخل وذلك بالدخول فيه علانية ومحاربته باطنا ولذلك عظم خطرهم .
المنافقين مضطربين غير ثابتين فهم يريدون سلامة أنفسهم وإحراز أموالهم من الاستئصال والهلاك وهم في الحقيقة بهذا الفعل الشنيع الذي أوقعوا أنفسهم فيه إنما يهلكون أنفسهم وهم لا يشعرون ؛ لأن الله تعالى لهم بالمرصاد عاجلاً وآجلاً ، فأما في الدنيا فيهتك أستارهم ويكشف أسرارهم ، وأما في الآخرة فالعذاب الشديد الذي ينتظرهم . وهذا منتهى خداع الله لهم ، فهم يظنون أنهم يخادعون الله والله عز وجل في الحقيقة هو الذي يخدعهم فيحصل لهم خلاف ما يريدون ، ولو أنهم كانوا على الجادة لحصلت لهم السلامة والنجاة وتحريز أنفسهم فعندما يؤمنون بالله ويعملون صالحاً فهذا هو الحرز والأمان عاجلاً وآجلاً .
وقوله تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } قال : شك وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قلوبهم مرض قال : هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد .
قال تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } (1) فأجسامهم في منتهى القوة والصلابة وقد يكونوا من أجمل الناس ، وقد رأينا هذا خاصةً في الرافضة – عليهم لعائن الله – هذا إذا رأيتهم من بعيد ، ولكن إذا اقتربت منهم فإذا على وجوههم الغبرة والظلمة ظلمة النفاق والزندقة ، وفي الحقيقة أنهم هالكون – أجارنا الله والمسلمين .
وقوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وقرئ يكذبون وقد كانوا متصفين بهذا وهذا فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا .
أي إذا حَدثوا كذبوا وإذا حُدثوا كَذّبوا ، يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وفي نفس الوقت يتعاطون الكذب .
تنبيه : قول من قال كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك عزموا على أن يُنّفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم ، فأطلع على ذلك حذيفة .
فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } (1) .
وقال تعالى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } (2) ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كان تُذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (3) .
وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال : (( دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )) (1) ومع هذا لما مات صلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين ، وفي رواية في الصحيح : (( إني خيرتُ فاخترتُ ، لو أعلمُ أني إن زدتُ على السبعينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا )) (2) .
هذا من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم ومن رحمته بالناس ، مع أن عبد الله بن أبي بن سلول كان من أشد الناس في إيذائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد كان متولي كبر النفاق في المدينة ؛ لأنه كان سيداً فيهم فقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أجمع الأوس والخزرج على أن يكون عبد الله بن أبي بن سلول ملك على القبيلتين – مع أن القبيلتين كان بينهما حرب – فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعملون الخرز لتاج الملك ، فمن هنا دخل الحقد في قلبه على الإسلام وعلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو مسموع الكلمة في المدينة ولذلك اقتطب طائفة من الناس خلفه وأثر فيهم بالإضافة إلى أعوانه من اليهود – قاتلهم الله – وعندما أظهر الله دينه ونصر نبيه لم يستطع ابن سلول مقاومة الإسلام والمسلمين فمن هنا خاف على نفسه ورغِبَ في أن يبقى له مكانة محفوظة فدخل في الإسلام نفاق أظهر الإسلام وهو مبطن الكفر والحقد والكراهية للنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك لقي النبي صلى الله عليه وسلم منه الأمرين ، ففي وقت السلم يؤلب على المسلمين ويسعى بالتحريش بينهم وينـشر الإشاعات ويروج الأخبار الكاذبة بمساعدة اليهود ، ومن ذلك قصة الإفك فهم الذين بثوها وروجوها وحصل بذلك شر عظيم في المسلمين ، وإذا جاء عدو أوهنوا عزائم المسلمين وخوّفوهم وساعدوا العدو الخارجي عليهم .
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يداري عبد الله بن أبي بن سلول وذلك لأمور :
الأمر الأول : حتى لا يُنفّر الناس من دعوته ، فإنه إن قتل أحد المنافقين سينـتشر بين الناس أن محمداً يقتل أصحابه ، ولذلك لما قام عمر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق – يعني عبد الله بن أبي بن سلول – قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )) .
الأمر الثاني : رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس ، فهو رحيم صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (1) بل هو رحمة للعالمين قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (2) .
حتى الكفار النبي صلى الله عليه وسلم بعثته رحمة لهم ؛ لأنهم أمنوا بذلك من الاستئصال ونزول العذاب في الدنيا ، أما في الآخرة فالعذاب والخلود في النار .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان رحيماً بالناس فلما نهي عن الصلاة على المنافقين وخاطبة الله بقوله {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ } (3) قال صلى الله عليه وسلم : (( لو أعلمُ أني إن زدتُ على السبعينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا )) .
ولكن إنما ذُكر العدد على مجرى كلام العرب في أنهم إذا أرادوا أن يكثروا قالوا : سبعين وقد يكون أكثر من ذلك بكثير وقد يكون أبدي ، وكذلك الاستغفار للمنافقين لو استغفر لهم إلى الأبد فلا يغفر لهم لأن الله حكم عليهم بالخلود في الدرك الأسفل من النار قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} (4) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إني خيرت فاخترت )) ففهم النبي صلى الله عليه وسلم من قول الله تعالى :{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} فهم منه أنه تخيير في بداية الأمر ، وفي الحقيقة هو ليس بتخيير ، ولما نزلت الآية الأخرى في نهاية السورة وهي قول الله عز وجل : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } (1) فعُلم بذلك أنه لا يجوز الاستغفار لهم ، وكذلك قول الله تعالى : {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } (2) فعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنه ممنوع من الاستغفار لهم والصلاة عليهم والدعاء لهم ، فلم يقم على قبر أحد منهم ولم يصل عليه .
فهذا حال المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده مثله وأشد ؛ لأنه في زمن الوحي كانت تنزل الآيات تكشف أعمالهم وتهتك أسرارهم ، وأحياناً يتبين أحوال بعضهم مثل الذين أرادوا أن ينفروا ناقة النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة عندما كان راجعاً من تبوك ليسقط عنها فأرسل الله تعالى جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكيدهم ، وقد كان عددهم أربعة عشر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة رضي الله عنه بأسمائهم ، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يأتي إلى حذيفة فيقول : أنشدك الله هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، فإذا كان عمر رضي الله عنه يخاف على نفسه النفاق فمن يأمن النفاق على نفسه ؟ ولذلك قال السلف : لا يأمن النفاق على نفسه إلا منافق ولا يخافه إلا مؤمن . فالنفاق داء خطير ومرض وبيل من وقع فيه هلك وليس له سبيل للنجاة إلا أن يتداركه الله برحمة قبل الموت يتوب إلى الله توبة صادقة فنسأل الله عز وجل أن ينجينا وإياكم من أسباب عذابه وسخطه وأن يرزقنا وإياكم الإيمان باطناً وظاهراً وأن يعيذنا وإياكم والمسلمين من خصال النفاق .
وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) } . فهم تولوا الفساد من جهتين ( كذبوا من ناحيتين ) :
* – الناحية الأولى : إدعائهم الصلاح وحصره في أنفسهم ؛ لأن ( إنما ) تفيد الحـصر فكأنهم يحصرون ما بعدها فيهم ، وكذلك الضمير الذي بعدها ( نحن ) وهو ضمير الشأن فهذا التركيب يفيد الحصر التام للصلاح فيهم فلا يشركهم فيه أحد .
* – الناحية الثانية : إدعائهم الإصلاح ونفيه عن غيرهم ، فلم يقولوا : نحن صالحون ولكن بالغوا وزعموا أنهم مصلحون ، ولا يمكن أن يكون مصلح إلا إذا كان صالح وهذا يتضمن من ناحية أخرى نفي الصلاح والإصلاح عن المؤمنين الحقيقيين .
وهذا غاية ما يكون من الكذب والافتراء إذا علم أن هؤلاء خلاف ذلك ولذلك حصر الله الفساد فيهم بنفس الأسلوب والتركيب فقال عز وجل : {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} لأن هذه حقيقتهم فالدعاوى الكاذبة لا تنفع .
وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ } الناس هنا يراد بهم : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ؛ لأنه معلوم أن أكثر الناس كفار .
إذاً ما المقصود بقوله : {آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ} هل المقصود أناس مقيدين معلومين وإلا مطلق ؟
هو مطلق ، ويراد به فئة من الناس وهم في ذلك الوقت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فهؤلاء المنافقين – عليهم لعنة الله – يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم سفهاء . ويستدلون على ذلك : بأن هؤلاء يسعون في غير مصلحتهم فقد تركوا أوطانهم وأهلهم ومصالحهم المادية واستبدلوها بالفقر ومحاربة الناس لهم وأنهم غرباء في هذه الأرض .
فالمنافقين لضعف عقولهم يعتبرون أن الصلاح والرشد والعقل هو في محافظة الإنسان على المكتسبات المادية ومصالحة الدنيوية – كما نسمع الآن من اتهام المسلمين بشتى الاتهامات هي من هذا الباب – فهم إنما يؤمنون في الحقيقة بمظاهر الحياة الدنيا ويظنون أنه لا شيء بعدها ، فلضلال عقولهم ولسفههم يعتبرون أن كل من فرّط في هذه المظاهر الدنيوية – ولو كان تركه لها من أجل ما هو أسمى وأعلى – أنه سفيه .
فأي القوم سفهاء ؟ إنهم هم السفهاء كما حكم الله تعالى عليهم بقوله تعالى : {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} . لأنهم في الحقيقة لا يعرفون من الأمر إلا مظهر بسيط فتمسكوا بشيء من حطام الدنيا زائل وقالوا : هذا منتهى السعادة ولم يعلموا أنه البلاء الناقع عليهم عاجلاً وآجلاً :
* – فأولاً : تسبب في إضاعتهم الهدى وتركهم الدين الحق الذي به تمكينهم في الأرض واستمتاعهم بها على الوجه الكامل ، فإن الصحابة رضوان الله عليهم وإن أصابهم في أول الأمر جهد وفقر إلا أن العاقبة كانت فأطبق حكمهم على الأرض قاطبة في خلال سنوات ، ففي الحقيقة أن المؤمنين هم الذين كانوا على الرشد وهم أهل العقول الناضجة لأنهم ثبتوا على دينهم فمكن الله لهم فتمتعوا بالدنيا التي كانت سبباً في تفويت هذا الخير العظيم على المنافقين ، إذاً المنافقين هم أهل السفه والضلال والمؤمنون هم أهل الرشد وأهل البصائر طبعاً : { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } (1) .
فالمؤمنون مؤيدهم الله عز وجل أنار بصائرهم وهدى قلوبهم وأصلح أعمالهم فهم على نور من ربهم ، أما المنافقين في ظلماتهم وجهلهم يتخبطون فمن أين لهم بصيرة ونور ؟ ومع ذلك يتهمون المؤمنون بالسفه ؛ لأن الموازين عندهم مقلوبة – نعوذ بالله من شرهم .
* – وثانياً : أنهم ضيعوا الآخرة التي إليها يرتحل العالم كله البر والفاجر الصالح والطالح فقد فرطوا في المآل والمصير والمنقلب الذي هو الحياة الباقية سواءً في النعيم أو كانت – والعياذ بالله – في الجحيم .
وقوله تعالى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) }.
فهؤلاء القوم يخادعون الله وهو خادعهم وهم يستهزئون بالمؤمنين ويستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم – في نظرهم – فيأتون إليه ويقولون : نحن معكم ونحن مؤمنون فإذا انفردوا بشياطين الإنس والجن قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون ، وذلك من أجل تحقيق مصالح دنيوية ، منها الأمن على أنفسهم وعلى أموالهم وأن ينالوا من مكتسبات المؤمنين كالغنائم وغيرها .
واستهزاء الله بهم عاجلاً وآجلاً :
– فأما في العاجل : فإنه يمدهم في طغيانهم حيث يظنون أنه قد انطلت ألاعيبهم وأنهم قد فازوا ، وفي الحقيقة هم إنما يغررون بأنفسهم فلا يزدادون من الله إلا مقتاً ولا يزدادون من الله إلا بعدا ولا يزدادون بإمداد الله لهم في هذا الغي إلا سبباً في هلاكهم حتى إذا أخذهم الله أخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (1) .
– وأما في الآجل : فيوم يجمع الله الأولين والآخرين ويقسم الله الأنوار فيعطي المؤمنين أنواراً حقيقية ويعطي المنافقين أنواراً وهمية – غير حقيقية – فإذا مشوا تقدم المؤمنين على أنوارهم إلى الجنة انطفأ نور المنافقين فهذا الاستهزاء الأكبر والسخرية الكبرى فيظنون أنهم على شيء وإذا بهم على لا شيء ففي الحقيقة أنهم تسببوا في هلاك أنفسهم الهلاك الذي لا نجاة لهم بعده والكسر الذي لا يجبر والندامة والحسرة – نعوذ بالله من ذلك – فيصيحون على المؤمنين : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } فقد انتهى لعب المنافقين وعبثهم وأكاذيبهم ولم يعد لها مكان فليس هنا إلا الحقائق والجزاء ، فيرد عليهم المؤمنين : { قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ } أي في الدنيا ، فهل يستطيعون الرجوع إلى الدنيا ؟
لا ، إذاً هذه هي قمة السخرية والاستهزاء بهم ، فالذي يستهزئ فعلاً بهم هو رب العالمين ويسخر منهم .
وقوله تعالى جواباً ومقابلة على صنيعهم : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) } وقال ابن جرير : أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى :{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (1) .
وقوله تعالى : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (2) قال : فهذا وما أشبهه من استهزاء الله تعالى ذكره وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به .
وهذا إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (3) وقوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} (4) :
– فالأول : ظلم .
– والثاني : عدل .
فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما ، قال : وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك ؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع ، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك .
هذا متعلق بما ورد من أوصاف أفعال لله تعالى كقوله تعالى : { وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } (1) وقوله تعالى : {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً } (2) .
وردت على صفة المقابلة لمن يفعل هذا من أعدائه الكفرة والمنافقين .
فائدة :
أسما الله وصفاته فيها قواعد مهمة ينبغي لطالب العلم أن يُلِم بها ومنها :
* – أن الوصف إذا كان يحتمل معناً كاملاً ويحتمل معناً ناقصاً فإنما يثبت لله الكمال وينفى عنه النقص ، فهذا المكر والاستهزاء والسخرية والكيد إذا كان على سيبل العبث والخداع والغدر والخيانة كأفعال المنافقين والكافرين فهذا ذم ومذموم ويتنزه الله عز وجل عن ذلك ، وأما إذا كان على سبيل مقابلة المجرمين بما يستحقونه من العقوبات الرادعة لهم وأن يجازيهم من جنس أفعالهم فهذا غاية الكمال وغاية المدح ؛ لأنه يدل على علم الله المحيط بهم وقدرة الله عليهم وأن أمرهم لا يلتبس على الله .
هذا إذا كان اللفظ ورد في القرآن أو ورد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا لم يرد فلا نصف الله به إطلاقاً ، بل نتوقف فلا نتكلم في صفات الله بمجرد الاندفاع أو الغيرة أو الحماس إلا بشيء واضح بيّن ، ويكون الكلام على وفق القواعد التي قررها أهل السنة والجماعة وتحذر من كلام أهل البدع والضلال الذين تكلموا في الله وفي أسمائه وفي صفاته على خلاف ما ورد في كتابه ولسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأيضاً خالفوا منهج أهل السنة والجماعة .
وقوله تعالى : {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . روى السدي عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { وَيَمُدُّهُمْ } يملي لهم .
وقال مجاهد : يزيدهم .
وقال تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} (1) هذا سؤال إنكاري من الله تعالى ينكر عليهم حسبانهم الخاطئ ، فالله يمكر بهم ويملي لهم حتى تضيق عليهم السبل فلا يبقى لهم مجال فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } (2) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1/344) . وقال الألباني في المشكاة (1/53) : صحيح .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى (1/209) بلفظ : (( يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين )) .
1- رواه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
2- سورة الفرقان الآيات (68-71) .
5- سورة آل عمران الآية (154) .
2- الترمذي (2121) البيهقي في سننه الكبرى (1/256) ابن ماجة (2712) النسائي (3642) .
4- أخرجه البخاري (631) والدارمي (1255) والدارقطني برقم (1053) .
6- أخرجه مسلم برقم (1090) والبخاري برقم (1916) .
2- أخرجه البخاري في كتاب : الحدود برقم (6790) .
3- أخرجه الإمام أحمد (2/177 – الطبعة القديمة ) .
4- أخرجه الإمام مسلم برقم (1917) .
1- انظر سنن الترمذي برقم (3124) طبعة مكتبة المعارف .
2- أخرجه مسلم برقم (395) وأخرجه غيره .
3- أخرجه الترمذي برقم (2064) .
2- أخرجه مسلم برقم (394) والبخاري برقم (756) .
3- ابن خزيمة (1/248) وابن حبان (5/91) .
1- ابن خزيمة (3/36) وابن حبان (5/86) .
1- سورة النحل الآيات (98) .
2- أخرجه البخاري برقم (142) ومسلم برقم (375) .
3- رواه أبو داود (466) بإسناد صحيح .
3- أخـرجه البخاري (141) ومسلم (1434) والإمام أحمد (1/216-الطبعة القديمة) .
4- أخرجه الإمام أحمد (4/201-الطبعة القديمة) .
2- أخرجه أبو داود (5054) والحاكم (1/724) وهو حديث صحيح صححه الألباني – رحمه الله .
3- أخرجه الترمذي (3528) وأبو داود (3893) وقال الترمذي : حسن غريب . وحسنه الألباني – رحمه الله .
4- أخرجه الترمذي (3529) وأبو داود (5067) والإمام أحمد (1/14- الطبعة القديمة) .
1- أخرجه الإمام مسلم برقم (2203) والإمام أحمد (4/216-الطبعة القديمة) .
2- أخرجه البخاري برقم (6115) ومسلم برقم (2610) .
3- رواه البخاري برقم (3303) ومسلم برقم (2729) .
1- أخرجه البخاري برقم (5046) .
2- أخرجه النسائي برقم (905) وابن خزيمة (1/251) وابن حبان (5/100) .
3- أخرجه أبو داود برقم (4001) .
1- أخرجه أبو داود برقم (4418) .
2- أخرجه مسلم برقم (498) وأخرجه غيره .
1- أخرجه مسلم (2017) .
2- أخرجه مسلم (2022) والبخاري (5376) .
3- سورة المائدة الآية (4) .
4- أخرجه البخاري (985) ومسلم (1960) .
5- أخرجه الإمام أحمد (2/814-الطبعة القديمة) وابن ماجة (399) والترمذي (25) وهو بمجموع هذه الأحاديث يرتقي ، وإلا فقد قال الإمام أحمد : ليس فيه شيء أي أن كل حديث على حدة فيه ضعف .
6- أخرجه مسلم (1783) .
1- أخرجه أبو داود برقم (5095) والترمذي برقم (3426) .
2- أخرجه أبو داود برقم (5096) .
3- أخرجه الترمذي برقم (606) .
4- برقم (297) .
5- أخرجه البخاري برقم (6320) ومسلم برقم (22714) وأبو داود برقم (5050) والترمذي برقم (3401) وابن ماجة برقم (3874) والإمام أحمد (2/246- الطبعة القديمة ) .
1- أخرجه أبو داود برقم (4982) .
2- أخرجه أبو داود برقم (2602) والترمذي برقم (3446) .
3- أخرجه ابن ماجة برقم (1550) والحاكم (1/520) وابن حبان (7/375) .
4- أخرجه أبو داود برقم (3213) وأخرجه الترمذي برقم (1046) وصححه الحاكم .
5- أخرجه مسلم برقم (2186) .
2- أخرجه ابن ماجه برقم (3805) .
3– أخرجه ابن ماجة برقم (3794) .
1– برقم (2734) .
2– برقم ( 223 ) .
3– سورة يونس الآية (10) .
4– سورة القصص الآية (70) .
5– سورة الروم الآية (18) .
1– سورة الشعراء الآيات (23 – 24) .
2– سورة المرسلات الآية (14) .
3– سورة البقرة الآية (21) .
1– سورة القصص الآية (56) .
2– أخرجه أحمد (4/316 – الطبعة القديمة ) وأبو داود (932) والترمذي(248) وقال : هذا حديث حسن .
1- سورة البقرة الآية (23) .
2- سورة يونس الآية (38) .
1– سورة هود الآية (13) .
2– سورة النحل الآية (103) .
1- سورة محمد الآية (17) .
2- سورة مريم الآية (76) .
3- سورة الصف الآية (5) .
1- سورة الشورى الآية (52) .
2- سورة القصص الآية (56) .
3- سورة الشورى الآية (52) .
4- سورة فصلت الآية (17) .
1- سورة الصف الآية (5) .
1- أخرجه البخاري برقم (8) ومسلم برقم (16) .
1- سورة الصف الآية (5) .
2- سورة يونس الآية (42) .
1- سورة يونس الآيات (43- 44 ) .
2- انظر المسند (6 /441-الطبعة القديمة ) وأخرجه أبو داود برقم (4703) والترمذي (3075) وغيرهم .
1- أخرجه البخاري برقم (3208) ومسلم برقم (2643) .
2- أخرجه الإمام أحمد (3 /112- الطبعة القديمة) والترمذي برقم (2140) وابن ماجة برقم (3834) .
1- سورة الأعراف الآية (179) .
2- سورة محمد الآية (24) .
3- سورة النساء الآية (155) .
1- سورة يونس الآية (44) .
2- هذا الكلام رد فيه ابن كثير – رحمه الله – على الزمخشري الذي ذكرنا لكم أن تفسيره مليء بالبدعة والضلال فلا يجوز لأحد أن يقرأه إلا أن يكون عالم بما فيه من ضلال .
1- سورة المنافقون الآية (1) .
1- سورة المنافقون الآية (4) .
1- سورة التوبة الآية (101) .
2- سورة الأحزاب الآية (60 – 61) .
3- سورة محمد الآية (30) .
1- أخرجه مسلم برقم (2584) والبخاري برقم (4905) .
2- أخرجه البخاري برقم (1366) .
1- سورة التوبة الآية (128) .
2- سورة الأنبياء الآية (107) .
3- سورة التوبة الآية (80) .
4- سورة النساء الآية (145) .
1- سورة التوبة الآية (113) .
2- سورة التوبة الآية (84) .
1- سورة النور الآية (40) .
1- سورة هود الآية (102) .
2- سورة آل عمران الآية (178) .
3– سورة الشورى الآية (40) .
4– سورة البقرة الآية (194) .
1– سورة النمل الآية (50) .
2– سورة الطارق الآيات (15-16) .
1- سورة المؤمنون الآيات ( 55 – 56) .
2- سورة الأنعام الآية (44) .
وقوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } إذا كان الإنسان عندما يشتري سلعة بمائة ريال وقسمتها الحقيقية تساوي عـشرة ريالات يعتبر عند الناس خاسر .
قال الشيخ ابن سعدي – رحمه الله – كيف إذا جاء بجوهرة ثمينة ولا تقدر بثمن وباعها بقليل من التراب ؟ فإنه هو أكبر خسارة ، فكيف بمن باع الهدى واشترى الضلالة ؟ أي دفع الهدى ثمناً للضلالة فأي خسارة أعظم من ذلك ؟ فهم خـسروا في الدنيا الخسارة الكبيرة فإن الله لما مكن للمسلمين حلّت بهم الذلة والهوان ، والخسارة الحقيقية هي عندما يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة قال تعالى : {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (1) .
قال أئمة التفسير : هذا يستوي فيه :
– من كان نفاقه أصلي – أي لم يدخل في الإسلام – مثل رؤوس المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول أو المنافقين من اليهود فإنهم لم يسلموا قطعاً .
– ومن دخل في الإسلام ثم ابتلاه الله بالفتنة فوقع الزيغ في قلوبهم ثم رجعوا إلى الكفر فهؤلاء ضلالهم أكبر لأنهم ذاقوا حلاوة الإيمان ثم رجعوا إلى الكفر والضلال .
فنسأل الله تعالى أن يسلّم قلوبنا من الزيغ وأن يرزقنا الثبات على دينه وأن يعيذنا من مضلاّت الفتن .
وقال تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} هذه أمثال يضربها رب العالمين للناس ليتفهموا وينتفعوا ، ولذلك جعلها مقاييس للعلماء ، قال تعالى :{ وَتِلْكَ الأمثال ُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} (1) وقد كان الرجل من السلف الصالح إذا مرّ به مثل من القرآن لم يفقهه يبكى ويقول : لست من العَالِــمين .
هؤلاء المنافقين الذي وصفهم الله تعالى بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى ضرب لهم مثلين في القرآن : مثل ناري ، ومثل مائي ، إما لكونهم متنوعين فصنف يوافقه المثل الناري وصنف يوافقه المثل المائي ، أو لكون هذين المثلين ينطبقان على المنافقين ، وأن { أو} هنا بمعنى أنهم إما أن يكونوا على هذا المثل أو على الآخر فكلا المثلين ينطبقان على حال المنافقين .
فأما المثل الناري : فمثلهم فيه كمثل الذي استوقد نارا ومن قبل كان في مكان مظلم فحاول أن يقتبس من غيره نار :{اسْتَوْقَدَ نَارًا} أي لم يكن عنده نار بل طلبها من غيره فلما أضاءت ما حوله ورأى ما يحيط به من الأخطار والآفات انطفأ النور فأصبح في خوف وهلع شديد لأنه قد رأى الأخطار والمخاوف حوله ولأن الظلام بعد النور أشد ولم يقل ربنا عز وجل أنه انطفأ الضياء ؛ لأن الضياء شيء زائد على النور ولكن قال جل وعلا : {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي اختفى النور بكامله وأصبحوا في ظلام دامس ، ولم يقل أن النار انطفأت ليدل على أنهم بقوا يعذبون بالنار ؛ لأن النار تشتمل على أمرين :
على النور ، وعلى الإحراق ، وبذهاب خيرها من النور والضياء لم يبق لهم الإحراق فبقوا يتمزقون نتيجة الشك والاضطراب ، وسبب هذا أنهم لما أنزل الله الضياء والنور الذي هو القرآن الكريم رفضوه وأعرضوا عنه وعن الإيمان به والتصديق بقوا في ضلالهم وغيّهم ولذلك وصفهم الله تعالى بأنهم : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} صم لم ينتفعوا بأسماعهم {وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا } (1) فالسمع إذا لم ينتفع به صاحبه فوجوده وعدمه سواء ، بل قد يكون الأصم أهون من هذا الذي يسمع وكان سمعه سبباً في هلاكه وكذلك من كان له بصر وكان سبباً في هلاكه ومن كان له فؤاد وكان سبباً في هلاكه لأنهم دفعوا الهدى ثمناً للضلالة .
وقوله تعالى :{فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون إلى الإيمان مرة أخرى ، هذا إذا قيل أنهم آمنوا ثم كفروا ؛ لأن الله تعالى ذكر عنهم في آيات أخرى أنهم آمنوا ثم كفروا كما في قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} (2) وقوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} (3) .
فحكم الله أنهم آمنوا وهذا معنى استضاءتهم بالنار ، ثم كفروا فطفئ نورهم وأذهب الله بركته لأنهم رفضوه فلا يرجعون مرة أخرى إليه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يزيغ قلوبهم قال تعالى : {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (4) أي يصرفها عن الهداية : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (5) .
هذا المثل الأول الذي ضربه الله عز وجل لهم ، على احتمال أنهم آمنوا ثم كفروا أو على احتمال أنهم سالموا في الظاهر – كما هو حال أكثرهم – وهذه المسالمة أعطتهم شيء من النور في الدنيا وهو حماية أنفسهم من القتل ، ولكن إذا ماتوا ستجتمع عليهم الظلمات كلها ظلمة القبر وظلمة كفرهم ومعاصيهم ويزدادون عند الله عز وجل مقتاً بإدخالهم النار ، أعاذنا الله والمسلمين من النار .
قوله تعالى : {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
الصيب : هو المطر النازل من السماء ، وبما أن المطر إذا نزل ينتفع به أقوام ويتـضرر به آخرون مع ما يصاحبه من برق ورعد وصواعق ، فالإيمان والقرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم كالغيث بل هي الغيث الحقيقي حياة الأرواح وحياة القلوب وسعادتها في الدنيا والآخرة ، فهذا الغيث الذي أنزله الله ببعثة نبيه صلى الله عليه وسلم وإنزال كتابه :
– ينتفع به المؤمنون فتحيا به قلوبهم وتزكوا به نفوسهم وتطهر به أفئدتهم وتستنير به أرواحهم ويمشون على نور من ربهم في هذه الدنيا ويوم القيامة يتمم الله لهم نورهم يوم يقسم الأنوار .
– وأما المنافقون فحالهم مع القرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم كحال أولئك الذين ما أصابهم من المطر إلا الرعد والبرق والصواعق ، فالمنافقون عندما لم يؤمنوا لم ينتفعوا بالقرآن ولا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم :{اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} فلم يبق لهم من الغيث الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا التهديد والوعيد الأكيد من رب العالمين لهم يزلزل قلوبهم .
بالإضافة إلى ما يتهددهم من أن يكشف الله أستارهم لنبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره بالاقتصاص منهم حال الحياة فهم على خوف دائم ووجل مستديم قال تعالى : { وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } (1) فهذا مثل لواقع المنافقين وما كانوا عليه .
الكفار جهلهم جهل مركب لذلك كانوا يقولون : نحن نطعم الحاج ونسقيه ونعمر المسجد الحرام ، فرد الله عليهم كما في سورة التوبة : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) فبين الله تعالى أن فعلهم هذا كان للفخر والخيلاء فهل يستوون مع المؤمن الذي يعلم أن الله خلقه وافترض عليه عبادته وأنه سيبعثه بعد موته ويجازيه على أعماله ؟ لا يستوون أبداً .
فهؤلاء الكفار يسيرون في طريق الكفر والضلال والعمى وهم مع ذلك يظنون أنهم سائرون في المسار الصحيح ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (3) قال : حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة .
قال : فكان ذلك استفتاحا منه ، فنزلت هذه الآية : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } (4) .
قال تعالى :{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) } .
من فوائد هذه الآيات :
1- إثبات صفة الكلام لله تعالى وهذا واضح من قوله تعالى :{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ }الآية وصفة الكلام لله تعالى تثبت من ناحيتين :
– أنها صفة ذاتية لله تعالى لا إله إلا هو ، فهو متصف بصفة الكلام أزلاً وأبداً .
– وهي أيضاً من صفات الأفعال وصفات الأفعال متعلقة بمشيئته سبحانه وتعالى فمتى شاء سبحانه أن يتكلم تكلم بما شاء جل جلاله .
فالبشر لا يدركون ولا تبلغ عقولهم أن يصلوا إلى كنه هذه الصفات وحقهم فقط أن يؤمنوا بها كما وردت في الكتاب والسنة فلا يزيدون على ذلك شيئاً فلا يدخلون في تأويلها أو تفسيرها إلا بما يحقق معناها الذي تفهمه العرب من لغتها أما ماعدا ذلك من كيفية الصفات أو أن يحدد على الله عز وجل حدا ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا تعرفه العرب في لغتها فهذا من الانحراف في باب الأسماء والصفات .
فالله تعالى تكلم بكلام مسموع بأصوات وحروف ولذلك ردت الملائكة على الله ، قال تعالى : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }الآية . إذاً فالصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يتكلم بحروف وصوت مسموع .
موسى عليه السلام عندما واعده الله جانب الطور وكلمه الله سبحانه سمع كلام الله تعالى وهو يقول :{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (1) فسمع كلام الله بحروف وصوت مسموع ولذلك استوعبه وبلغه بني إسرائيل .
2- أن الملائكة عباد عقلاء يسمعون ويخاطبون ويفهمون ما يلقى إليهم من الكلام كما وصفهم الله في كتابه وكما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خلقهم الله من النور كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وأنهم مجبولون على الطاعة وأن لهم مهمات مختلفة :
– فمنهم الموكل بالوحي . أي رسول من الله إلى أنبيائه وهو جبريل عليه الصلاة السلام
– ومنهم الموكل بالقطر والنبات ، ميكائيل عليه الصلاة والسلام .
– ومنهم الموكل بقبض الأرواح ، وهو ملك الموت عليه الصلاة والسلام .
– ومنهم الموكل بالنفخ في الصور إذا أمر الله بذلك .
– ومنهم ملائكة سوّاحون في الأرض يتتبعون حلق الذكر فإذا وجدوها انظموا إلى أهلها وحفوا بهم حتى يصلوا إلى السماء .وغير ذلك من الأعمال التي كلف الله بها الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، فهم مختلفون في الأعمال التي يقومون بها ولكنهم يتفقون في أمور منها :
– أن الله خلقهم من نور .
– أنهم مجبولون على الطاعة قال تعالى : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (2) .
– أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغوطون ولا يتناكحون ولا يتناسلون .
3- أن الملائكة يبغضون المعاصي والذنوب وأهلها ، ولذلك لما أخبرهم الله تعالى أنه سيجل في الأرض خليفة قالوا : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } .
فقول الملائكة هذا :
أولاً : هو ليس من باب الاعتراض على الله عز وجل ولكن استغراب منهم أن يوجد مخلوق يعصي الله ويفسد في أرض الله بعد أن أوجده الله من العدم وأنعم عليه بالنعم .
ثانياً : أنهم يسألون عن الحكمة من جعل هذا الخليفة في الأرض وهو يفسد فيها .
ثالثاً : هو من ناحية أخرى اعتراف منهم ضمني وإقرار بأنهم يجهلون عواقب الأمور والحكم والأسرار ولذلك سألوا الله عز وجل .
4- دلت الآية على خطورة سفك الدماء وأنها أعظم الجرائر والجرائم ، ولذلك ذكرها الملائكة بعد أن ذكروا الإفساد في الأرض مع أن الإفساد في الأرض يعم القتل وغيره ولكن نصوا على القتل لعظيم شناعته عند الله تعالى وهذا يدل على أن القتل بغير حق من أشنع الأمور .
5- كيف عرف الملائكة بأن هؤلاء الخلفاء في الأرض سيفسدون فيها ويسفكون الدماء ؟
الجواب : لا يتصور أن الملائكة شكت في أن آدم هو الذي سيفعل هذا ، لماذا ؟ لأن الله فضل آدم عليهم وخلقه بيده .
أما كون الملائكة عرفوا ذلك فهذا فيه احتمالات :
– أن يكون قد سبق آدم في الأرض خلق فحصل منهم هذا الذي ذكرته الملائكة ، فقاسوا ما سيحصل من المستخلفين في الأرض بفعل من سبقهم من الأمم ، وقد ذكر هذا بعض أئمة التفسير المتقدمين .
– ومنهم من قال : أن هذا بتعليم علّمهم الله عز وجل إيحاء أو إخبار بأن هؤلاء سيفعلون هذه الأفاعيل .
– ومنهم من قال : أن الملائكة فهمت هذا من تركيبة خلق آدم من الطين وأن فيه الضعف البيّن وما يكمن أن يعتري هذا الخلق من القصور والنسيان والغفلة والظلم كما ورد في الحديث الصحيح : أن الله قبض قبضة من جميع الأرض فخلق منها آدم لذلك تمايز بنوه فمنهم الأبيض والأسود والأحمر وكذلك تمايزت طبائعهم فكان منهم الطيب والخبيث .
6- قوله تعالى : {خَلِيفَةً }هل المقصود خليفة أي يخلف بعضهم بعضاً جيلاً بعد جيل ؟ أم أنه خليفة لله في الأرض يقوم بتنفيذ أحكام الله وتطبيق شرائعه وإقامة دينه ؟ قاله بعض أئمة التفسير . فهذا ممكن وهذا ممكن .
7- قول الملائكة : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } هذا ليس من باب تزكية الملائكة أنفسهم ، ولكن مكن باب الإخبار ، وأخذ منه بعض العلماء أن الإنسان إذا أخبر بما فيه ليس على سبيل الفخر والتعالي بل على سبيل الإخبار عند الحاجة خاصة فإن هذا لا بأس به ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر )) (1) وكذلك قول يوسف عليه الصلاة والسلام : {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }(2) هو من باب الإخبار وليس من باب الاستكبار .
وأما إن كان على سبيل الاستكبار فيدخل في قوله تعالى : {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } (3) .
8- قوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .
التسبيح : هو التنزيه لله عز وجل والتنزيه يشمل تنزيه الله عن النقائص والعيوب فالله سبحانه منزه عن النقص والعيب في ذاته وأسمائه وصفاته جل جلاله .
وقوله : { نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } تشمل النفي والإثبات أي ننزهك عن جميع النقائص والعيوب ونثبت لك المحامد التي تدل على الكمالات المطلقة .
وقوله : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } هل هي زيادة في التنزيه وإبعاد العيوب عن الله عز وجل ؟ أو نحن نطهر أنفسنا بتتبع مراضيك وطاعتك وعد الإخلال بشيء مما تأمرنا به ، هذا قاله بعض المفسرين .
وهي تحتمل هذا وتحتمل هذا ، ولكن الأقرب أنه راجع إلى الله عز وجل .
9- فضيلة آدم عليه الصلاة والسلام فقد خلقه الله بيده كما في الحديث الصحيح : (( … خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه … )) (1) فهو مخلوق مكرّم فهذا تـشريف وتعظيم .
ومن فضائل آدم أن الله أمر الملائكة قبل خلقه بأن يسجدوا له إذا خلقه وصوره بيده ونفخ فيه من روحه قال تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } (2) وهذا فيه إشادة بآدم وتنويه بفضله قبل وجوده .
وكذلك فإن الله تعالى أظهر فضيلة آدم في ذاته بأن فضله على الملائكة بالعلم فعلّمه أسماء كل شيء فهذه فضيلة ذاتية أعطاها الله عز وجل لآدم فكانت تكريم بعد تكريم .
10- قوله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ذكر الإمام الحافظ ابن كثير – رحمه الله – الخلاف في هذه الأسماء :
– فمن العلماء من قال : أنها أسماء الملائكة .
– ومنهم من قال : أنها أسماء ذريته .
– ومنهم من قال : على الإطلاق أي أسماء كل شيء ، الاسم وماهيته وفائدته وهذا من اختلاف التنوع وليس من اختلاف التضاد .
وهذا كما مر معنا في أول التفسير : أن الخلاف إذا كان خلاف تنوع ومأثور عن السلف والآية تحتمل هذه المعاني فيحمل عليها كلها .
فظاهر الآية أنه علّمه الأسماء كلها لأننا إذا خصصناها بالملائكة نحتاج إلى دليل وإذا خصصناها بذريته نحتاج إلى دليل وإذا خصصناها بالآلات والمنافع نحتاج إلى دليل .
فالقول الذي يشمل هذا كله هو الأقرب إلى لفظ الآية { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } .
وكما سمعنا في قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه علّمه حتى الفسوة والفسية ، أي الاسم المكبر والمصغر حتى الأشياء المحتقرة فهذا بلغ في العموم غايته فإن ما كان أكرم من ذلك ( الفسوة والفسية ) وأكبر فهو من باب أولى .
11- الملائكة عليهم الصلاة والسلام عباد كرام ليسوا من أهل الكبر ولذلك أظهروا تواضعهم لله تعالى ونسبوا العلم لله تعالى فقالوا : {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وهذا غاية الأدب والتواضع مع الله وفيه تمجيد لله تعالى بأنه هو العليم الحكيم .
12- { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } أثنى الملائكة على الله بهذين الأسمين العظيمين وهما يناسبان المقام :
فالأول : العليم ، هو الذي يعلم كل شيء فلا يغيب عنه شيء أبداً أحاط علماً بما كان وما يكون وما لم يمن لو كان كيف يكون ، فعلم الله جل جلاله أزلي لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان بوجه من الوجوه .
والثاني : الحكيم ، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه سواءً كان شرعاً أو قدراً فإن الله سبحانه وتعالى حكيم في قدره وفي شرعه ، فأمره القدري هو لحكمة وبحكمة وفي غاية الحكمة ولا يصلح إلا ما قدره الله وقضاه ، وقد تدرك عقول العقلاء حكمته في شيء من خلقه وقضائه وقدره لكن لا يحيط بحكمته في الخلائق إلا هو سبحانه وتعالى لا إله إلا هو ، ومن ذلك أنه أوجد هذا الخليفة مع أنه سيوجد في ذريته من يفسد في الأرض ويسفك الدماء .
ولكن حكمته البالغة اقتضت أن يخفى على الملائكة عليهم الصلاة السلام كثير من منافع وفوائد إيجاد هذا المخلوق واستخلافه في الأرض ولذلك سألوا ذلك السؤال : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فغابت عنهم حقيقة كبرى وهي أن الله سبحانه وتعالى حكيم .
ومن حكمته سبحانه في خلق هذا المخلوق أن تظهر أسرار أسمائه وصفاته في الخلق كصفة الرحمة وصفة العدل .
ومن حكمته أن سخر له هذه الأرض وما على ظاهرها وما في باطنها وما في أجوائها فكل هذا سخره الله للإنسان من أجل أن يقوم بالخلافة التي وكله الله بها وهي الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } (1) .
والقيد أو الشرط أن يقوم بأداء الأمانة فيعمل بطاعة الله ويبتعد عما حرم الله .
وبهذا نفهم أن من ترك الأمانة أو ضيعها أو أخل بها فإنه لا يستحق من هذا الذي سخره الله شيء فهو معتدي عليه ، بل هو أحقر من تلك المخلوقات التي سُخرت له وكانت في الدنيا له خدماً قال تعالى : { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } (2) .
فأما إذا أدى الأمانة وقام بالواجب الذي وكل به وعظّم الله ونشر دين الله في الأرض فإنه يُفضل حتى على الملائكة وتصبح الملائكة خدماً له في الجنة فيدخلون عليه بالسلام والألطاف من رب العالمين ، قال سبحانه : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } (3) .
13- أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان والبشر لهذه الغاية العظيمة زودهم بالوسائل وسائل المعرفة ؛ لأن آدم إنما تميز على الملائكة بالعلم ولا يستطيع أن يحقق الرسالة التي وكلت إليه إلا بالعلم ، فقد زوده الله تعالى بوسائل العلم والمعرفة والتمييز والإدراك والحفظ ، فإن في ثنايا قصة آدم عليه الصلاة والسلام أن الله قد زوده بالعلم وإلا فكيف استطاع أن يخبر الملائكة بالأسماء كلها ؟
14- وهذا القصص أيضاً فيه بيان أن آدم علي السلام منذ أن خلقه الله فهو على صورته هذه وأن الله خلقه بيده وأسجد له ملائكته ، وهذا يذكركم بأن المسألة فيه رد من رب العالمين على ذلك اليهودي الخبيث الذي أراد أن يفسد فـطر الخلق وينسبهم إلى اللاشيء فـقال ( دارون ) في نظريته الممسوخة التي أراد أن يفسد بها فطر الخلق قال : بالنشوء والارتقاء وهي أن الخلائق كلها بدأت من الكائنات البسيطة وحيدة الخلية ثم تطورت ، ومع أن هذه النظرية تخالف الأديان والعقول والفطر إلا أن اليهود روّجوا لها ؛ لأنهم قد أطبقوا على مقدرات العالم في مجال الإعلام والتعليم وغيره ، وَدُرِّست في جامعات كثيرة ومن المؤسف أنها دُرِّست أيضاً في بلاد المسلمين من ضمن ما دُرِسَ من النظريات حتى أصبحت عند بعض المسلمين حقيقية وهي في الأصل نظرية تصادم القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين والعقول السليمة والفطر الصحيحة .
وهذا اليهودي كأنه عندما عرف أن منهم من مسخه الله قردة وخنازير أراد أن ينكل بالبشر فيقول : لا فضل لكم علينا معشر اليهود فكون الله مسخ بعضنا قردة وخنازير فكلكم يا بشر أصلكم قردة .
كأنه من هذا الباب واليهود معروفون بالخبث والكفر والفساد والإفساد .
15- قوله : {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} إذا كان الملائكة عليهم الصلاة والسلام قد عجزوا وأظهروا عجزهم عن علم ما لم يعلمهم الله عز وجل وأظهروا افتقارهم إلى أن يعلمهم الله عز وجل فإن غير الملائكة من باب أولى .
وهذا يدعونا معاشر البشر إلى أن نقف في العلم عند حدود قدراتنا وما علمنا الله وألا نتطاول على الله في هذا الباب فإنه باب خطير فالإنسان يتعلم ويقف عندما علم فإذا تعلم فليعلم ويخبر بما علم ، فما جهل يرده إلى عالمه ، ولا يستحي من أن يقول عن مسألة لا يعلمها أن يقول : لا أعلم ، هذا هو اللائق بالمخلوق القاصر الذي لا علم له إلا ما علمه الله فاللائق به أن يرد العلم إلى الله تعالى .
16- ومع أن هذه الآيات وغيرها كثير تبين فضل العلم وأهله إلا أن فيها إلماح وتحذير للإنسان من أن يتقدم إلى أمر لا يعلمه فإن التقدم على أمر لا يعلمه والتخوض فيه هو من القول على الله بغير علم وهو من أخطر المعاصي والذنوب ، وهو من أعظم مراد الشيطان أن يجترئ الإنسان فيقول على الله بغير علم ، قال تعالى عن الشيطان : {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (1) .
17- وعلى الإنسان وهو يسر في هذه الدنيا أن يتذكر أنه خليفة الله في الأرض أي أنه مأمور بأن يقوم بتنفيذ شرع الله والقيام بحقه من الطاعة والبعد عن معصيته فلا ينسى هذه القضية فإنه إنما وجد من أجلها ، وإنما كرم بما كرمه به في هذه الحياة الدنيا من إحسان خلقته {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (2) فهو متميز عن جميع المخلوقات ، بل هو على صورة الله تعالى كما ورد بذلك الحديث الصحيح : (( أن الله خلق آدم على صورته )) .
فإذا لم يقم الإنسان بشرع الله فلا يستحق هذا التكريم ، ولذلك من لم يقم شرع الله فسيرده الله إلى أسفل سافلين فبعد أن كان مكرماً يُـحقر ، وبعد أن كان عزيزاً يُذل وبعد أن كان كريماً يُهان .
18- أن أعظم خصوصيات العلم وأعظم مطالبه وفوائده أن يكسب أهله الخشية لله عز وجل : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) فإذا وجدت الإنسان يخشى الله تعالى فهو العالم ، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : كفى بخشية الله علما ، وكفى بالاغترار به جهلاً
وهذا يحتم على أهل العلم أن يكونوا أشد الناس خشية لله عز وجل وتواضعاً لله واحتراماً وإجلالاً لله عز وجل .
وهذا له مظاهر فمن مظاهره : أن ينشر دين الله ويدعى إلى الله ويؤمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأن لا تأخذ الإنسان في الله لومة لائم وذلك باللين والرفق والحكمة والبصيرة : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (2) .
فليكن الإنسان محبباً للخلق في ربهم عز وجل ولا يكن منفراً لهم عن الله وهذا من لوازم خشية الله .
قال تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (الآيات 34 – 36) .
1- هذه الكرامة الثالثة التي ذكرها الله عز وجل أنه أكرم بها أبانا آدم عليه الصلاة والسلام وهي أنه أمر ملائكته بأن تسجد لآدم : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} .
وهذا الأمر بالسجود كان قبل خلق آدم – كما ذكرنا ذلك سابقاً – كما في سورة الحجر قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (1) .
وهذا السجود من الملائكة لآدم :
– امتثال منهم لأمر الله ؛ لأن الله تعالى أمرهم فوجب عليهم أن يمتثلوا أمره .
– تكرمة لآدم عليه الصلاة والسلام ، وهذا السجود سجود تشريف وتكريم وليس سجود عبادة .
وأما سجود العبادة فمعلوم أنه لا يسجد إلا لله تعالى وحده لا شريك له .
وسجود التكريم والتعظيم كان في شرع من قبلنا جائزاً ، ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره من سجود إخوة يوسف ليوسف ، قال الله سبحانه وتعالى حاكياً عنهم : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } (1) وهذا من باب التكريم والتعظيم ليوسف وليس من باب العبادة .
ولكنه نسخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحد أن يسجد لأحد حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالسجود في ديننا هو لله عز وجل وحده لا شريك له .
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن أبى أوفى رضي الله عنه قال : قدم معاذ رضي الله عنه اليمن – أو قال الشام – فرأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها ، فروأ في نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ، فلما قدم قال : يا رسول الله ، رأيت النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها ، فروأت في نفسي أنك أحق أن تعظم ، فقال : (( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولا تؤدي المرأة حق الله عز وجل عليها كله ، حتى تؤدي حق زوجها عليها كله ، حتى لو سألها نفسها وهى على ظهر قتب لأعطته إياه )) (2) .
2- ومن هذا يتبين لنا أن الله تعالى يأمر بما يشاء ويحكم ما يريد فليس لأحد أن يعترض على الله تعالى في حكمه سبحانه لا إله إلا هو ، فالله تعالى له الحكم المطلق وأما غيره فحكمه مقيد بشرع الله تعالى .
3- إذا أمر الله تعالى بأمر يكون امتثال هذا الأمر في حال الأمر به عبادة لله عز وجل ومخالفته تكون من باب المعصية ، فالملائكة لما امتثلوا أمر الله بالسجود لآدم كانوا طائعين لله وأكرمهم الله بذلك ، وأما إبليس لما امتنع عن السجود كان ذلك معصية وسببا في طرده ولعنته إلى يوم الدين ، فعلى الإنسان أن يتنبه إلى الأمر في حينه .
4- أن الله تعالى قد يأمر بما هو في الأصل حرام فيكون امتثال الأمر طاعة لله تعالى فالسجود لغير الله حرام ، ولكن عندما أمر الله بالسجود لآدم فإن امتثال الأمر هنا واجب وهو طاعة له سبحانه وتعالى وقربة ، فالتحليل والتحريم حق لله تعالى لا يشاركه فيه أحد .
وكما أمر الله تعالى خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يذبح ولده قال تعالى : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (1) فبعد أن رزقه الله بإسماعيل وهو على كبر من السن فابتلاه الله بهذا ، ومعلوم أن ذبح البريء من أعظم الجرائم عند الله قال تعالى : {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (2) ومع هذا فامتثال إبراهيم لأمر ربه طاعة له تبارك وتعالى فقد اختبره الله وابتلاه : {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} (3) .
فاستجاب لربه فأكرمه بمنزله لم يبلغها أحد من الأنبياء والرسل قبله عليه الصلاة والسلام فاتخذه خليلا له سبحانه وتعالى : {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (1) فالأب امتثل أمر ربه والابن أعان أبيه على تنفيذ أمر ربه لأنه من شجرة مباركة طيبة تقدر الله حق قدره فإبراهيم خليل الله وإسماعيل نبي كذلك قد امتثالا أمر الله تعالى : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (2) أي أضجعه على وجهه حتى لا يرى السكين .
ففي مثل هذا لا يقال أن الله أمر بمعصية ؛ لأن الله له أن يحكم بما يشاء ، فإذا حكم الله بشيء فإنه يصبح طاعة وليس بمعصية .
فعلى المسلم أن يميز بين ما هو طاعة وما هو معصية فالدين ليس على أهواء الـبشر قال تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} (3) .
5- أن الله تعالى قد أخبر في آيات من القرآن أن إبليس ليس من الملائكة ، فقال سبحانه وتعالى في سورة الكهف : {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (4) فهو ليس من الملائكة بل من الجن ، وفي سورة سبأ قال الله تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (5) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( خلق الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم )) .
ثم إن الله تعالى أخبر عنه في القرآن أنه قال : {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (1) .
ولذلك لما أمرهم الله بالسجود كلٌ غلب عليه أصله فالملائكة خلقت من نور وإبليس خلق من نار فغلب عليه أصله فلحق بدرك الشقاء – نسأل الله العافية والسلامة .
6- أصل البلايا والشرور في هذا الكون ثلاثة :
– الحسد .
– الكبر .
– الحرص .
فأما الحسد فهو متمثل في حال إبليس فإنه لما رأى كرامات الله تتوالى على آدم وقع الحسد في قلبه .
وأما الكبر فإنه لما أمر بالسجود له امتنع قال تعالى : {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} أي منعه الكبر ، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه : (( بطر الحق وغمط الناس )) .
بطر الحق : أي رد الحق ، والحق هو أمر الله ، فإن أمر الله له بالسجود هذا حق وما أمر الله به فهو حق وعدل وهو الدين والصلاح والإصلاح سواء علم الخلق أم جهلوا .
وغمط الناس : هو احتقاره لآدم وازدراءه له : {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ففي نظر إبليس أن النار أفضل من الطين ، وهذا قياس فاسد من عدة وجوه :
*- الوجه الأول : لأنه في مقابل النص والقياس إذا كان في مقابل النص فهو قياس فاسد .
*- والوجه الثاني : أنه ليس بمسلم أن النار أفضل من الطين ، بل الطين أفضل من النار ولا مقارنة بينهما ، فإن النار فيها خفة وطيش وإفساد ، وأما الطين فإن فيه الرزانة والثبات والاستقرار .
*- الوجه الثالث : أنك إذا استودعت التراب شيئاً رده إليك أضعاف مضاعفة ، فإنك إذا وضعت فيه الحبة أخرج لك سنبلة والسنبلة تولد لك ما شاء الله من السنابل ، بينما لو ضعتها في النار أحرقتها وأتلفتها وخانة الأمانة .
*- الوجه الرابع : أن الأرض مستودع خيرات الخلق جميعهم طعام الإنس والجن والدواب والبهائم فعلى المخلوق أن يبحث عن رزقه فيجده موفوراً ، وأما النار فأي رزق فيها ؟ ليس فيها إلا الإحراق والإفساد .
*- الوجه الخامس : أن المخلوقات منها ما هو مستغن عن النار طيلة حياته مثل البهائم والوحوش بل تهرب منها ، والإنسان قد يستغني عن النار دهور وأيام وشهور لكن التراب ليس له عنه غنى أبداً ، حتى النار لا تستغني عن التراب فلا قيام لها إلا بوجود التراب .
وأما الحرص نابع من شهوة أو نابع من إغراء وتسويل وليس نابعاً من الكبر ، مثل ما حصل لآدم عليه الصلاة والسلام فإنه لطمعه في الخلود في الجنة وعدم الخروج منها فمن فرط غلبة الشهوة عليه نسي أن الله قد نهاه عنها قال الله عز وجل : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (1) .
داء الحسد والكبر صاحبه لا يرجى له في الغالب أن يتوب بل يتمادى لأنها تُعمى بصيرته لكونه معجب بنفسه مفتخر بها متعاظم فلا يهون عليه كسر نفسه حتى يتوب فالتوبة تحتاج إلى تواضع وانكسار وخضوع وهذا مفقود عند المتكبر .
وأما صاحب الحرص ومن تغلبه شهوته فإنه إذا تذكر يرجع ، ولذلك آدم عليه الصلاة والسلام لما تذكر أن هذه معصية رجع وأناب فتاب الله عليه ، بينما إبليس تمادى في طغيانه ، فمع أن الله لعنه وطرده من الجنة قال : { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (2) فهذا غاية التحدي والعناد لأن منشأ هذه المصيبة الكبر والكبر لا يزيد النفس إلا طغيان وكفر وانتفاش .
7- كل شر في العالم هو بسبب إبليس وجنده ووسوسته وتسويله للناس فالكفر وما بعده من المعاصي والذنوب والفجور والبغي والعدوان والظلم والاستبداد في العالم أصله معصية إبليس وتعاليه وتكبره على رب العالمين ، فلخطورة هذه المصيبة العظمى التي حلت بالعالم بسبب هذا المخلوق أعادها الله تعالى في القرآن وكررها وذلك ليحذرنا منها غاية التحذير ، وحتى لا يغتر المخلوق بصفة عامة بظواهر الأحوال ولا يعجب بنفسه أو عمله مهما عمل فإن إبليس كان مع الملائكة يعمل كأعمالهم ولكنه لما عصى الله طُرد من ذلك كله .
فعلى المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى ويحتمي بجنابه ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر مع ما أعطاه الله من الخصائص التي لم يعطها نبي قبله ومع هذا يقول في سجوده : (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )) .
وكذلك خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أثنى الله عليه في القرآن وفضله على كثير من الخلق وهو في الفضل بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يقول داعيا ربه ملتجأً إليه : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (1) .
فهل يتصور أن إبراهيم الذي كسر الأصنام من أجل الله ورمي في النار المؤججة بسبب هذا أنه يعبد الأصنام ؟ لا يتصور هذا ، ولكن خوفاً على نفسه وإزراء وتواضع لله .
فالمسلم من باب أولى عليه أن يخاف على نفسه من المعاصي والذنوب .
8- المعاصي نوعان :
النوع الأول : إما ترك أمر .
النوع الثاني : وإما ارتكاب نهي .
فترك الأوامر أخطر من فعل النواهي في الجملة ، وتبين لنا ذلك من قصة إبليس وعصيانه لأمر الله وعدم سجوده لآدم فطرده الله ولعنه ، وأما آدم عندما فعل ما نهاه الله عنه ثم تاب وأناب تاب الله عليه وغفر له .
فالذي يحبه الله تعالى فإنه يأمر به إما أمر إيجاب أو أمر استحباب فإذا فعلت ما أمر الله به فأنت تفعل ما يحبه الله ، ثم إن ترك ما أمر الله به نوع من المحادة والمعاندة والتحدي لله عز وجل ، وهذا لا يتصور أن يحدث إلا من نفس خبيثة متكبرة متغطرسة وهذه الغطرسة والكبر تؤدي إلى الكفر فإن إبليس لما حصل له هذا نقله إلى الكفر قال تعالى : {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .
وتارك الأمر فيه تشبه بإبليس ؛ لأن إبليس ترك أمر الله عز وجل ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( من تشبه بقوم فهو منهم )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( ليس منا من تشبه بغيرنا )) فيخشى على المتشبه بإبليس أن يكون حاله كحاله وأن يكوم مآله كمآله .
بينما فاعل النهي غاية ما فيه أنه فعل كفعل أبيه آدم عليه الصلاة والسلام فيرجى له أن يمن الله عليه أن يتوب فيتوب الله عليه .
وهذا فيه رد على الذين يمجدون أنفسهم ويمدحونها في تركهم للمنهيات مع أنهم لم يقوموا بالأوامر ، فأخذ العلماء من هذا قاعدة : ( أن تارك الأمر لا يمدح في تركه للنهي ) ؛ لأن تركه للأمر أخطر من فعله للنواهي ، فمثلاً من يستخدم المخدرات ويصلي هو أهون من الذي لا يستخدمها ولا يصلي ؛ لأن ترك الصلاة كفر .
ولا يعني هذا التقليل من فعل النواهي فإنها مصيبة وطامة كبرى ، فلو لم يكن من نتائجها إلا أن آدم عليه الصلاة والسلام أُخرج من دار النعيم المقيم التي لا مرض فيها ولا سقم ولا نصب ولا موت خرج منها إلى دار النكد والتعب والعناء والمرض والأسقام ثم الموت ، ومن ذرية آدم من لا يرجع إلى الجنة فيحرم منها بسبب شركه أو نفاقه أو معاصيه ، فهذا يدل على أن فعل النواهي ليس سهلاً .
9- وفي هذه الآية دليل على كفر تارك الصلاة ، فإن الله سبحانه وتعالى لما حكم بكفر إبليس بقوله تعالى : {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} بسبب امتناعه عن سجدة أمره الله أن يسجدها لآدم ، ومع ذلك حكم الله بكفره لأنه امتنع من السجود لغير الله فكيف بمن أمر بالسجود لله فامتنع ؟ فهو من باب أولى أن يكون كافر .
10- في هذه القصة إلماح إلى خطورة الجليس السوء ، فآدم عليه الصلاة والسلام كان في الجنة هو وزوجه مطمئنين يأكلون منها حيث شاءا ، فجاءهم الشيطان فوسوس لهما فأخرجهما من النعيم المقيم .
فالجليس السوء وراء كل بلاء ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم مثله بمثل حسي مشاهد ، كما في صحيح مسلم من حديث أَبِى مُوسَى رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً )) (1) .
11- يجب على المخلوق أن يراقب قلبه وسريرته فإن أي عمل يعمله العبد لا يقبله الله حتى ينظر إلى سريرة العبد قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) (2) .
فإبليس أسر سريرة خبيثة في نفسه مع أنه مع الملائكة يسجد ويركع ولكن الله مطلع على سريرته فلم ينظر إلى عمله ولذلك لم يزكيه فكشفه الله على رؤوس الخلائق الملائكة وآدم والسماوات والأرض ، فعلى الإنسان أن يراقب قلبه فيخلص أعماله لله تعالى وحده ولا شريك له .
قال صلى الله عليه وسلم : (( … إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَهْوَ مِنَ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ )) (1) .
12- الله جل وعلا قادر على أن يخلق حواء من طين كما خلق آدم عليه الصلاة والسلام ولكن حكمة بالغة في خلقها من ضلع آدم ليكون السكن والمودة بين الجنسين والتعاطف والتراحم مسألة جبلة وطبيعة وأصل أصيل لا يمكن انفصاله ، فإنها لو خلقت من التراب مباشرة مثل آدم فربما كان بينهما نوع من الانفصال .
فانجذاب الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل ليست مسألة مؤقتة كما يدعي الخبيث فرويد اليهودي وغيره من علماء اليهود الذين يقولون : أن العلاقة بين البـشر علاقة جنسية بحته ، بل العلاقة علاقة مودة ورحمة وتعاطف لا يمكن أن تنقطع وتنتهي .
فالعلاقة الحقيقة بين الرجل والمرأة علاقة تعاطف وتراحم وصلة وكونهما ذكر وأنثى هذا من أجل بقاء الجنسين واستمراره ، وهذا يدل على أن الدعوات المشبوهة التي تنادي بتحرير المرأة وإعطائها حقوقها دعوة فاسدة يراد منها إفساد المجتمعات والشعوب ، فقد صوروا المرأة وكأنها واقعة تحت سيطرة الرجل واستبداده وكأنها من عالم آخر أنها وأنه استولى عليها لذلك يريدون إخراجها من ظلمه وبطشه .
والواقع الذي تدل عليه الشرائع السماوية والفطرة الإنسانية والواقع التاريخي للبـشر منذ خُلِقَ آدم تُكذب هذه الدعوات الفاسدة وترد عليها خاصة إذا علمنا أن الذي يقف وراءها هم اليهود الذين هم أتباع الشيطان منذ تمردوا على موسى عليه الصلاة والسلام بعد أن أنقذهم من تعذيب فرعون واضطهاده لهم .
13- إثبات الأسباب وأن فيها قوة مؤثرة تؤثر في مسبباتها ، والله تعالى هو الذي خلق هذه الأسباب وخلق فيها القوى المؤثرة فإذا شاء سبحانه وتعالى أبطل هذه الأسباب وهذا مأخوذة من قوله تعالى : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} نسب الإخراج للشيطان؛ لأنه هو السبب مع أن الذي أخرجهم منها هو الله عز وجل قال تعالى : { وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } .
ومن الأسباب مثلاً أن النار محرقة فلما شاء الله سبحانه وتعالى أبطل هذا السبب : {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (1) فالأسباب موجودة وثابتة والله عز وجل خلقها وخلق القوى المؤثرة فيها ولكنها ليست بمنفردة فهي تحت سيطرة الله تعالى وتصرفه فإذا شاء سبحانه وتعالى أبطلها .
وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان في عقيدته مع الأسباب أن يعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الأسباب والمسببات وجعل فيها قوة تؤثر في المسببات هذا بإرادة الله عز وجل فلا يؤله الأسباب فيجعلها رب من دون الله ولا ينكر الأسباب ؛ لأن إنكار الأسباب تغييب للعقل .
14- قوله تعالى : {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } هذا دليل على أن الحياة في الدنيا مؤقتة وليست بدائمة والنعيم فيها مؤقت وليس بدائم وأن للإنسان أجل سينتهي ، فينبغي للإنسان أن يستعد للموت فيشكر الله على نعمه ويراقب الله في أقواله وأفعاله لأنه محاسب عليها .
ومن ناحية أخرى فيها إثبات قضية البعث والنشور وأن الله بعد ذلك سيبعث الناس من مستقرهم : {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } ثم بعد ذلك ينقلهم الله منها ، وبالتالي نعرف أن قول الناس عن الميت ( انتقل إلى مثواه الأخير ) أن هذا باطل وليس بحق ؛ لأن المثوى الأخير إما الجنة وإما النار وأما الأرض فليست بمثوى أخير إنما هي إلى حين يعلمه الله عز وجل ثم يخرجهم الله تعالى كما قال سبحانه : {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} (1) .
قال تعالى : {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الآيات 37 – 39) .
هذه الآيات فيها فوائد وعبر وعظات نثرها أهل العلم في مؤلفاتهم في كتب التفسير فمن هذه الفوائد :
1- أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته سواء كان من الإنسان أو النبات أو الحيوان أو الجماد أو في السماء أو في الأرض فالكل خلهم الله لعبادته عز وجل .
وهذه العبودية نوعان :
*- النوع الأول : عبودية قدرية ، وهي التي لا ينفك عنها ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، قال تعالى : {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} (1) لأنه سبحانه وتعالى متفرد بخلقهم وإيجادهم ومتفرد بتـصريف أمورهم وتدبير بقائهم ونهاياتهم .
*- النوع الثاني : عبودية شرعية خاصة ، وهي امتثال الأمر والنهي وهي لا تحصل إلا بالاختبار والامتحان بأن يأمر الله عبده بأمر فإما أن يطيع ويذعن وإما أن يعرض ويتكبر ، فمن أذعن فهو العبد عبادة شرعية ، وكل من في السماوات والأرض مذعن لله عز وجل في أمره قال الله تعالى عن الملائكة : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2) .
وقال عنهم : {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (1) .
وقال عن السماوات والأرض : { ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (2) .
وقال سبحانه وتعالى عن السماوات السبع ومن فيهن والأرضين : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (3) .
وآيات كثيرة دالة على أن جميع الكائنات في السماوات والأرض لا تتخلف عن أمر الله عز وجل وأنها مذعنة لله عز وجل مستسلمة منقادة خاضعة لربها جل وعلا ، إلا متمرد الإنس والجن فقد شذ عن هذه القاعدة .
النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن حجراً بمكة يعرفه كان يسلم عليه بالنبوة وهو في مكة ، وقصة الرجل الذي شهد الذئب أمامه للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاةً ، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه ، قال : فصعد الذئب على تل فأقعى واستثفر فقال : عمدت إلى رزق رزقنيه الله عز وجل انتزعته منى ، فقال الرجل : تالله إن رأيت كاليوم ذئبا يتكلم ، قال الذئب : أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين ، يخبركم بما مضى وبما هو كائن بعدكم ، وكان الرجل يهودياً ، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ، وَخَبَّرَهُ ، فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنها إمارةٌ من إمارات بين يدي الساعة ، قد أوشك الرجلُ أن يخرجَ فلا يرجع حتى تحدثه نعلاه وسوطه ما أحدث أهلُهُ بعدَهُ )) (4) .
2- اقتضت حكمة الله عز وجل أن تكون هناك دارين :
*- دار للامتحان والاختبار ( اختبار العبودية الشرعية ) .
*- دار يجازى فيها العاملون على حسب عملهم .
3- ما هي الحكمة من إسكان الله تعالى لآدم في الجنة أولاً ؟ وقد قال سبحانه : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } (1) .
هذه أمور غيبية ، ولكن مما يمكن أن يقال فيها والله أعلم أنه لو لم يسكن الجنة لما عرف قيمتها فليس الخبر كالمعاينة ، فلما عاين النعيم الذي لا يخطر ببال في الجنة وذاق حلاوته وعاش فيه فترة قيل : أنها مائتين وخمسين سنة من سنين الأرض ، ومنهم من قال : أكثر ومنهم من قال : أقل ، فبهذا يعرف قيمة الجنة فيبقى متلهفاً متعطشاً للرجوع إليها ولذلك ورد في مقالات المتكلمين في التفسير أن آدم عليه الصلاة والسلام مكث مائة سنة يبكي ، حتى قيل : لو جمعت دموع أهل الأرض إلى دموع داود عليه الصلاة والسلام لغلبت دموع داود لما بكى على ذنبه : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (2) ولو جمعت دموع أهل الأرض مع دموع داود إلى دموع نوح عليه الصلاة والسلام لغلبت دموع نوح ، ولو جمعت دموع أهل الأرض مع دموع نوح إلى دموع آدم عليه الصلاة والسلام لغلبت دموع آدم .
ومن الأمثلة على ذلك أن الله تعالى أخبر موسى عليه الصلاة والسلام أن قومه عبدوا العجل فأيقن وصدق وتحسر على ذلك ، ولكن لما رآهم رأي العين وهم يعبدون العجل اشتد غضبه وألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي خطه الله بيده وأخذ برأس أخيه وهو رسول نبي كريم فجره فليس الخبر كالمعاينة ، وكذلك آدم عليه الصلاة والسلام لو أخبره الله عن الجنة لصدق وآمن ولكن لما رآها كان الأمر أعظم حتى أصبح همه الوحيد أن يرجع إلى الجنة التي أخرج منها .
4- أن الابتلاء الحقيقي هو في الإيمان بالغيب ، فلا تنفع العبد التوبة عندما يرى الملائكة ويصبح الغيب مشاهدة قال الله عز وجل : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } (1) .
فكل ما كان إيمانه بالغيب أعمق كان قدره ومنزلته أعلى ، وكلما كان إيمانه بالغيب أضعف كان قدره ومنزلته أدنى ، ولذلك في القرآن من أوله إلى آخره إنما مدح الذين يؤمنون بالغيب ، فنزول آدم إلى الأرض من أجل أن يتحقق هذا الأصل الأصيل الذي يمدح فيه المخلوق أو يذم بسببه وهو الإيمان بالغيب .
5- أن الله تعالى لما أراد أن يخلق آدم قبض قبضة من كل الأرض كما في الحديث الصحيح ، وهذه القبضة فيها الطيب والخبيث ومعلوم أن الجنة طيبة ولا يسكنها إلا طيب فلا يمكن أن يبقى فيها الخبيث فاقتضت حكمة الله تعالى أن ينزل آدم إلى الأرض حتى يخرج الخبيث ويتميز الخبيث عن الطيب ليرجع الطيب إلى دار الطيبين الجنة والخبيث يذهب إلى دار الخبثاء وهي الجحيم ، قال تعالى : {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (1) .
6- أنهم بنزولهم إلى الأرض تتحقق آثار ربوبية الله لهم ، والربوبية نوعان :
*- ربوبية عامة ، وهي خلق الخلق وإيجادهم وتدبير أمورهم فيشترك فيها المسلم والكافر والطيب والخبيث الصالح والطالح الحيوان والإنسان فيمد كلا إلى أجله .
*- ربوبية خاصة ، وهي ربوبيته لأوليائه بالعائد الصالحة والأخلاق الحميدة فمن يستح الهدى هداه ومن يستحق الضلالة أضله : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}(2) من يعلم سبحانه أن فيه خير هده للخير ، ومن يعلم سبحانه أنه لا يقبل الخير وأنه من أهل الشر صرفه عن الخير وولاه ما تولى .
7- إظهار آثار أُلوهيته فإنه سبحانه هو الإله الملك الذي يحكم بما يريد فإذا أُطيع أحسن الجزاء وأكرم وأنعم وتفضل ، وإذا عُصي عذب وأهلك وعاقب ، فبأحكامه الشرعية يفرق سبحانه وتعالى بين المؤمن والكافر وبين المسلم الموحد والمشرك وبين المؤمن والمنافق وبين الطائع والعاصي على حسب تقبلهم للأوامر وقيامهم بها أو تخلفهم عن الأمر وارتكابهم للنهي فتتحقق بهذا ألوهية الله عز وجل لخلقه ولكه سبحانه وتعالى لهم .
8- أن الله أظهر بإنزاله آدم إلى الأرض ما علمه من أحوال هذا المخلوق وذريته مما جهلته الملائكة فإن الملائكة قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (1) . فلما وجدوا في الأرض كان منهم الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام والأنبياء والأولياء والصديقون والشهداء والصالحون الذين قدموا محاب الله عز وجل على محاب أنفسهم وقدموا طاعة الله عز وجل على الهوى .
9- أن الجنة حفت بالمكاره فلا يصل إلى الجنة إلا من طريق المكاره وهي ما يشق على النفوس فلا يصل العبد إلى الجنة حتى يجاهد نفسه مجاهدة عظيمة ويجاهد عدوه الشيطان فيتحقق بذلك حكمة الله في أنه حف الجنة بالمكاره .
10- ومن فوائد إنزال آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض أنها تظهر آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى تظهر في الخلق ، فإن الله سبحانه وتعالى من أسمائه التواب ومن صفاته أنه يتوب على المذنبين إذا تابوا وأنابوا إلى الله ، فإذا لم يكن في الأرض خلق يذنبون ويتوبون لا تظهر آثار هذا الاسم العظيم وهذا الوصف لله تعالى المقدس فلما وجد الخلق وجد من ينسى فيعصي الله أو يغفل فيعصي الله ثم يتوب فيتوب الله عليه .
11- ومن الحكم أن الجنة درجات متفاوتة فلو بقي آدم وذريته في الجنة من الأصل لكانوا في منزلة واحدة ، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن ينزلوا إلى دار الامتحان والابتلاء وهنا يتفاوتون في قبول الأمر والنهي بحسب أعمالهم فيكون منهم السابقون ومنهم المقربون ومنهم الظالم لنفسه الذي خلط بين العمل الصالح والعمل السيئ : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (1) .
12- ومن الحكم أيضاً أن آدم عليه الصلاة والسلام مع أن الله أكرمه وفضله إلا أنه مع ذلك مخلوق ضعيف ينسى قال الله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (2) والله تعالى لعلمه بحال هذا المخلوق الضعيف حفه بلطفه ففتح له باب التوبة وباب الرجاء فتقبل توبته ما لم يغرغر وما لم تطلع الشمس من مغربها كل ذلك لتظهر عناية الله عز وجل بهذا المخلوق الذي ينسى ويغفل وتغلبه شهوته وطمعه فإن الله قد أباح لآدم عليه الصلاة والسلام الجنة كلها وبقيت شجرة واحدة فطمع أن يخلد في الجنة لما أقسم له إبليس فنسي أن الله نهاه عنها وغلبه طمعه .
13- أن الله تعالى ألهم آدم عليه الصلاة والسلام التوبة وأوحى إليه ما يتوسل به إلى الله تعالى ليقبل توبته ثم بعد ذلك لما عرض توبته بل الله عز وجل منه التوبة فتاب عليه فكانت فضائل عظيمة ونعم متتابعة :
*- ألهمه التوبة ولم يجعله يتمادى .
*- أوحى إليه بالكلمات التي يتوسل بها إلى الله عز وجل كما قال تعالى : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (1) .
وهو مشتمل على أنواع من التوسلات :
أنهمـا توسلا باسم الرب سبحانه وتعالى ، ودائماً في دعاء الأنبياء إنما يدعون الله بالرب لأن اسم الرب مشتمل على ربوبيته الله لخلقه العامة والخاصة فيناسب أن تدعوا في حال طلبك باسم الرب .
*- ثم قبل الله سبحانه وتعالى منه التوبة .
*- الاعتراف بالذنب ، والاعتراف بالذنب من أسباب غفران الذنب وهذا مثلما في حديث سيد الاستغفار : (( … أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عليّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي ، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ … )) (2) أي أعترف وأقر بذنبي ، ومن اعترف بذنبه على سبيل الندم ومحاسبة النفس عليه والإقلاع عنه فإن الله سبحانه وتعالى يقبل هذا المقر بالذنب إذا كان بهذه الصفة ، وآدم عليه الصلاة والسلام لما قال : { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} هو متراجع عن الذنب نادم عليه ومتحسر .
*- افتقارهم إلى الله عز وجل: { وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي ليس لنا إلا أنت فهذا فيه غاية الافتقار وإظهار الفاقة والفقر إلى الله عز وجل وإذا انكسر القلب إلى هذا الحد فإن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة التائب وندمه وانكساره .
*- تفويض الأمر إلى الله : { وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا} أي : من يغفر الذنب إن لم تغفره أنت .
14- ورد في هذه الآيات اسم الله الكريم ( التواب ) ورد بصيغة المبالغة :
*- إما لكثرة توبته على عبده مهما تكرر منه الذنب وتنوع فإن الله يغفر الذنوب جميعاً قال تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) . وفي الحديث : (( … يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة …. )) .
بل أعظم من ذلك يبدلها حسنات قال تعالى : {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (2) .
وكما في صحيح مسلم – رحمه الله – من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال : (( أذنب عبدٌ ذنباً . فقال : اللهم اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له ربا يغفر الذنبَ ، ويأخُذُ بالذنبِ . ثم عاد فأذنبَ . فقال : أي رب اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنباً . فعلم أن له ربا يغفرُ الذنبَ ويأخذُ بالذنبِ . ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا . فعلم أن له ربا يغفرُ الذنبَ ، ويأخذُ بالذنبِ . اعمل ما شئت فقد غفرت لك )) (3) .
*- وإما لكثرة من يتوب عليهم فإن كل بني آدم خطاء إلا من عصم الله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
نسأل الله أن يلهمنا وإياكم والمسلمين التوبة وأن يجعلها في الوقت الذي يقبله الله عز وجل ، فإن التوبة لها شروط كما ذكر العلماء :
*- أن يكون الدافع لها والقصد وجه الله تعالى .
*- أن تكون في الوقت الذي يقبلها الله فيه ، أي قبل أن تغرغر الروح ؛ لأن الروح إذا بلغت الحلقوم وكشف الحجاب فلا تنفع التوبة لأن الغيب أصبح مشاهد .
*- وأن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها ؛ لأن الشمس إذا رجعت من مغربها ترجع من باب التوبة فتغلقه فلا تنفع التوبة حينئذ .
*- والندم على الذنب قال صلى الله عليه وسلم : (( الندم توبة )) .
*- الإقلاع عن الذنب .
*- إرجاع الحقوق إلى أهلها .
*- العزم على ألا يعود إليه مرة أخرى وهو يستطيع .
قال تعالى : {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ( الآية 38 ) .
الهدى نوعان :
*- هداية إرشاد وتعليم .
*- هداية توفيق .
فقوله تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} فدل هذا على أن الهداية من الله وحده جل وعلا سواءً كانت هداية أرشاد أو توفيق ؛ لأن هداية الإرشاد إنما هي من كتبه المنزلة ورسله الذين أرسلهم فهي من الله ، فالناس قبل بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام ونزول الكتب لا يعرفون الهدى ، وهذا فيه رد على الذين يقولون أن هداية الإرشاد يملكها كل أحد فإن الناس قبل إنزال الكتب وإرسال الرسل لا يعرفون شيئاً .
وفيه رد على الذين جعلوا العقل المصدر الأول للتلقي والتكليف ، فلا شك أن هذا القول خطأ وضلال ؛ لأن الأصل هو الكتاب والسنة ، فقبل الكتاب والسنة كان العقل ضالٌ يعبد الأصنام ، ولما قيل لعمرو بن العاص رضي الله عنه (1) : كيف كان يخفى عليك أمر الإسلام ؟ قال : هوّن عليك يا ابن أخي لقد عشنا مع رجال أحلامهم كالجبال الراسية فغيبنا عقولنا اعتماداً على عقولهم فلما غابوا عنا نظرنا فإذا هو الحق .
قوله تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً}أي إذا أرسلت الرسل وأنزلت الكتب بعد هذا يتبين من يهتدي ومن يضل .
إذا اهتدى الإنسان بهداية الله عز وجل فله السلامة في المستقبل والأمن على الماضي قال تعالى : { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) لأن بعض الـمفسرين يقول : لا خوف عليهم في المستقبل ولا هم يحزنون على الماضي .
ومنهم من قال : أنه يحزن على ما يترك من الأولاد الصغار القُـصّر والنساء فيحزن عليهم فالله تعالى يطمئنه على ما ترك خلفه فالله خليفة كل مؤمن ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( والله خليفتي على كل مسلم )) فقد استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا الحي القيوم مالك الملك سبحانه وتعالى له ملكوت السماوات والأرض يجير ولا يجار عليه لا إله إلا هو .
فالله هو الكافي لمن اتبع هداه واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن بما جاء به وعمل بذلك عملاً يقبله الله عز وجل على وفق شريعته عز وجل .
وهذه الآية تفيد على وجه الخصوص أن من تعبد لله بشيء لم يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو باطل غير مقبول فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على هذه القضية في كل خطبة يقول : (( إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )) .
فإذا أراد العبد السلامة والنجاة والقبول فليكن على هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، ولما جاء الثلاثة النفر يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا الخير ولكن عندما جاءهم شيء من النزعة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أَنَسَ ابْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال : جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ , قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَداً . وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَداً . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : (( أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي )) (1) .
فالمقصود أن يكون التعبد لله وقبول الهدى على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } (2) فهذا هو القسط أن يكون الناس على هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كل أمة على هدي نبيها .
فإذا قام ميزان الكتاب قام القسط والعدل وطمأنينة الناس وإذا اختل هذا الميزان اختلت حياة الناس واضطربت .
وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ( البقرة 39)
1- الكفر هنا نوعان :
– النوع الأول : كفر تكذيب ، فمن كذب الخبر فهو كافر (1) .
– النوع الثاني : كفر استكبار ، فمن استكبر على الخبر فهو كافر ، وهذا مثل كفر إبليس قال تعالى : { إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (2) .
وأما قول من قال : أن الكفر نوع واحد وهو كفر التكذيب أو الجحود فهو قول باطل فإن إبليس لم يكن يجحد وجود الله فقد قال الله عنه أنه قال : {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (3) فهو مقر بأن الله جل وعلا هو الرب ، فكيف يقال أنه لا يجود كفر إلا كفر الجحود ؟
وقالوا أيضاً : أن كفر الاستكبار إنما هو دليل على كفر الجحود فالجحود موجود في النفس ، كيف هذا والله يقول عن فرعون : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} (4) فهذه القضية الآن يروج لها وقد أُلف فيها كتب باطلة مخالفة لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل السنة والجماعة فانتبهوا بارك الله فيكم لهذا .
وهناك نوع آخر من الكفر وهو الاستكبار على الأمر .
2- قوله : {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} الآيات :
– وإما أن تكون آيات كونية ، مثل السماوات والأرض والشمس والقمر الدالة على عظمة خالقها وعلى وجوده واقتداره وعلمه وحكمته وتدبيره للخلق وأنه لا قيام لمخلوق من المخلوقات إلا بالله ، وكثير من الكفار مذعنون بهذه الحقيقة لا يكابرون فيها ، قال الله عز وجل : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (1) وآيات كثيرة دالة على هذا .
– إما أن تكون آيات شرعية هي آيات الأنبياء الكتب المنزلة بالأمر والنهي .
ولابد من الإيمان بالآيات الكونية والشرعية فمن آمن بواحدة منها وكفر بالأخرى فلا ينفعه إيمانه .
والآيات الشرعية يعجز الخلق أن يأتوا بمثلها خاصة القرآن وما فيه من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة والحكم الباهرة والأسرار التي لا تنتهي ، فالبشر عاجزون على الاتيان بمثل أقصر سورة منه ، فقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا ، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا .
والتحدي لا زال قائماً وكل من حاول أخزاه الله فقد حاول بعض المتمردين على الله والزنادقة ولكن أخزاهم الله في الدنيا ولهم في الآخرة ما يستحقون .
3- قوله : {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} لا تأتي في وصف الموحدين الذين يستحقون النار ثم يخرجون منها وإنما تأتي في وصف من يدخلون النار فلا يخرجون منها .
4- قوله تعالى : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دل هذا على خلود أهل النار .
وهنا سؤال : هل الخلود أبدي لا نهاية له ؟ وأن النار لا نهاية لها وأنها أبدية ؟ أم أن الخلود مؤقت ثم بعد ذلك تنتهي النار ؟
الجواب : الله تعالى ذكر في القرآن الكريم في ثلاث آيات التخليد الأبدي لأهل النار وذلك في ثلاث سور :
– الآية الأولى : في سورة النساء قال عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} (1) .
– والآية الثانية : في سورة الأحزاب قال سبحانه : {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (2) .
– والآية الثالثة : في سورة الجن قال تبارك وتعالى : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (3) .
وقد أجمع أهل السنة والجماعة – بعد خلاف يسير كان في عهد الصحابة ثم انتهى – أجمعوا على أهل النار خالدين فيها أبدا لا يخرجون ولا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها ، نسأل الله تعالى أن يجيرنا وإياكم منها .
5- هذا الأسلوب العظيم الحكيم وهو أن الله تعالى يقرن بين الترغيب والترهيب فإنه جل وعلا لما ذكر الذين يهتدون وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ذكر بعد ذلك الذين يكذبون وأنهم من أصحاب النار هم فيها خالدون .
قال تعالى : { يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } ( الآية -40 ) .
1- سورة البقرة كما هو معلوم بدأت بأن قسم الله عز وجل الناس إلى ثلاثة أصناف :
– الصنف الأول : مؤمنون موقنون ينتفعون بالقرآن ويتبعون هدى الله ويؤمنون بالغيب ويعملون الصالحات أولئك هم المفلحون .
– والصنف الثاني : الذين كفروا بالله وكذبوا الرسل وما جاءوا به وعاندوا أمر الله وهؤلاء الكفار الصرحاء هم أصحاب النار .
– والصنف الثالث : أظهروا الإسلام علانية وأبطنوا الكفر لأغراض شتى ، فمنهم من يظهر الإسلام رغبة في الدنيا ومنهم من يظهره خوفاً من القتل وهذا الصنف أخبث أصناف الكفار ، ولذلك كشف الله أستارهم وبين أعمالهم وأطال الحديث عنهم كما في سورة البقرة وغيرها من السور التي بين الله تعالى فيها أعمالهم وأخلاقهم وصفاتهم وبين الأعمال التي من عملها فهو منهم حتى يُعرفوا ويُـحذروا ؛ لأن خطرهم شديد فهم مع المؤمنين يصلون معهم ويعاشرونهم ويدخلون معهم المساجد ويتسمون بأسمائهم ، بل وأحياناً يزعمون أنهم هم المصلحون وفي الحقيقة أنهم مفسدون : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} (1) ثم بعد ذلك أمر بعبادته سبحانه وتعالى .
وحذر من الشيطان ومكره وكيده وبين سبحانه وتعالى أن الشيطان هو العدو الحقيقي وأن عداوته لا تنتهي حتى يقف في أتباعه خطيباً في نار الجحيم كما قال تعالى : {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
والله جل وعلا لم يترك عباده هملا فأنزل الإنسان إلى هذه الأرض ليكون فيها خليفة كما اقتضت حكمته ذلك ، وأنزل الشيطان ليكون فتنة للإنسان .
ومع هذا لم يتركهم هكذا بمجرد أن أخرج آدم من الجنة ورأى الشقاء والتعب وبذلك تتحقق عنده عداوة الشيطان فلم يتركهم لهذه الحقيقة التي عايشها آدم معايشة ذاتية بل تكفل الله عز وجل أن يبين من طريقه سبحانه وتعالى طريق الهداية حتى يتبعها من أراد السلامة والنجاة وأراد العودة إلى الجنة ومن أعرض عنها فمعنى ذلك أنه سلك سبيل الشيطان فلا أسف عليه .
بعد هذا تبين للخلق كلهم انقسام الخلق إلى الأقسام الثلاثة وما هو المطلوب من الجميع وما أسباب الانحراف وما سبيل الجناة .
بعد هذا جاءت القضايا الخاصة ، فالقضية الكبرى أنه أهل الكتاب يدعون دعاوى عريضة بأنهم هم أهل الكتاب وأنهم أتباع الرسل وأن العالم كله في ضلال وأنهم هم المهتدون ، فجاءت المخاطبة لهؤلاء الذين عندهم شيء من الحق فعندهم كتب أنزلها الله على الرسل من السماء ورسل بعثهم الله فيهم ، فجاء الخطاب لهم ، فالسورة هذه مدنية ومعلوم أن مكة لم يكن فيها يهود ولا نصارى ، وبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أصبح المجتمع فئات :
– الفئة الأولى : المسلمون .
– والفئة الثانية : طائفة بقيت على دين الجاهلية والكفر ولكنها بقيت متخوفة من الدين الجديد ولم تستسلم لله عز وجل ولم تنقد فبقيت على دينها فلما ظهر أمر الإسلام وبدأت انتصاراته في بدر خافوا على أنفسهم أو طمعوا في الدنيا فأظهروا الإسلام وبقوا على عقائدهم في الباطن .
– والفئة الثالثة : أهل الكتاب الموجودين في المدينة وهم اليهود كانوا ثلاث قبائل :
– بنوا النظير .
– وبنوا قينقاع .
– وبنوا قريظة .
وأجدادهم كانوا من ذرية هارون عليه الصلاة والسلام وكانوا في بني إسرائيل هم حفظة التوراة ولما رأوا ما حل ببني إسرائيل من استيلاء الكفار عليهم وتهديم بيت المقدس وقتلهم وتشريدهم ارتحل هؤلاء الذين هم من ذرية هارون عليه الصلاة والسلام والذين هم علماء بني إسرائيل وخيارهم لما وجدوا في التوراة أن نبياً سيبعث في آخر الزمان من بني إسماعيل وأن مولده مكة ومهاجره إلى المدينة ارتحلوا إليها ليكونوا في البلد الذين سيكون مهاجراً للنبي صلى الله عليه وسلم ليكونوا أول المؤمنين به ومن جنده وأنصاره وحزه لكونهم أعلم الناس به هذا السبب الذي جعل اليهود ينزلون المدينة ولكن لما ذهب الأجيال التي تعلم هذا وتؤمن به وجاء أجيال حرفت وغيرت وبدلت وارتكبوا ما ارتكب غيرهم من بني إسرائيل من المفاسد والآثام من أكل أموال الناس بالباطل وتحريف الكتاب ليوافق أهواءهم وتسلطهم على الناس والتحكم في رقاب الخلق فغيروا وبدلوا في أحكام الله عز وجل فبالتالي تطبعوا بخلال وخصائص من الحقد على الأمم الأخرى غير اليهود والتعالي عليهم والكبر .
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت هذه الصفات الذميمة قد تمكنت من نفوس اليهود وأطبقت عليهم وأصبحت هي دينهم وأخلاقهم ومذهبهم ، فيتلون التوراة ولا يعملون بها سوءا بالنسبة لتشريعاتها وأحكامها لليهود أو فيما يتعلق بإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وامتثال أمر الله لهم بإتباعه ونصرته والإيمان به ، هكذا كانت أخلاق علمائهم وكبرائهم وأهل المعرفة فيهم والقيادة والتمكن .
واليهود في المدينة كانوا يتميزون عن العرب ؛ لأن العرب أمة أمية لم يقرأوا كتاب ولا بعث فيهم نبي قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلا إسماعيل عليه الصلاة والسلام وليس له كتاب وإنما هي بقايا عند العرب من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام توارثوها من غير كتاب ، فكان اليهود يتطاولون على العرب بأنهم هم أهل الكتاب وأنهم أحباء الله وأبناءه وأن الله خصهم بما خصهم به لمكانتهم وأنهم سادة البشرية ، مع أنهم في الحقيقة لم يؤمنوا بالرسل ولم يتقيدوا بالشرائع التي جاءت بها الرسل وإنما اتبعوا أهواءهم وحرفوا وبدلوا حتى في حال وجود الرسل العظام مثل موسى عليه الصلاة والسلام وعيسى وداود وسليمان عليهم الصلاة والسلام .
واستمروا في التكذيب والعناد فأعرضوا كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعرفوه كما يعرفون أبناءهم ، بدأ الله تعالى بالكلام مع هذه الفئة في آيات بلغت قرابة المائة آية في سورة البقرة يتحدث رب العالمين فيها عن بني إسرائيل عما أعطاهم وما أنعم به عليهم وما أخذ عليهم من العهود والمواثيق وعن معاندتهم للرسل وما فعلوه مع موسى عليه الصلاة والسلام .
فهذه المناسبة للحديث عن بني إسرائيل أن الله تعالى لما رسم خط البشرية كاملاً بدأ يتكلم عن فئة تعايش النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وتأثر في الأحداث ومجرى التاريخ بطريقة لا يقبلها رب العالمين ، هي نتاج أخلاق ساذجة مشى عليها هذا الصنف من البشر وهو العناد والمكابرة وطمس الحقائق ورد الحق كما أخر الله عنهم : { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (1) .
فمن خلال هذه الآيات :
*- أن الله تعالى يقررهم بالدين الحق .
*- أن الله تعالى يكشف للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته حال هذا الجنس من البشر حتى يكونوا على حذر واستعداد لمواجهتهم .
*- أن الله تعالى يكشف التلبيس والتدليس الذي يتعاطونه مع الناس .
*- أن الله تعالى يتهددهم ويتوعدهم ، وهذا أشد عليهم من ضرب السيوف ، فلما يسمعون تهديد الله لهم كما في قوله : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} تكاد تنخلع قلوبهم من شدة الرعب ؛ لأنهم يعلمون أن هذا هو الحق وأن الله سبحانه هو الذي يتكلم بهذا الكلام .
فبدأ ربنا عز وجل بمخاطبتهم وتذكيرهم بأنهم ينتسبون إلى نبي كريم وهو إسرائيل عليه الصلاة والسلام فإن إسرائيل هو يعقوب وهذا بإجماع المفسرين .
فإبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام ولد له إسحاق وولد لإسحاق يعقوب وجاء من يعقوب يوسف وإخوته ثم بنوا إسرائيل هم بنوا أبناء يعقوب وكان عددهم اثنا عشر ولداً .
فيذكرهم الله تعالى بأجدادهم الكرام أئمة الخير والفضائل فلا ينبغي أن يكونوا مكذبين لآبائهم ولا معاندين لهم ولا كافرين بهم ؛ لأنهم إذا كفروا بالله أو كفروا بعيسى أو كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنما هم يكفرون بإبراهيم عليه الصلاة والسلام وإسحاق ويعقوب ؛ لأن يعقوب لما جاءه الموت قال لأبنائه : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) فجعلوا إسماعيل الذي هو عمهم أباً لهم ؛ لأنهم أسرة واحدة .
فهذا الذي يليق بالذرية الصالحة التي تريد أن تكون على منهج آبائها الكرام فالله تعالى لما قال : {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} إنما يذكرهم بهذا الأصل ، وهذا ينفع مع إنسان كريم يريد الخير والصلاح والإصلاح ، أما من يريد الفساد والإفساد فلا تنفعه الذكرى .
فكان هذا من باب إقامة الحجة عليهم وتقريعهم إذا كفروا وتوبيخهم بأنكم قد اتخذتم منهجاً وديناً غير منهج ودين آبائكم .
قال تعالى : {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} النعم على الخلائق كثيرة جليلة لا تعد ولا تحصى : {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وقال تعالى : {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } (2) وبنوا إسرائيل خصهم الله بنعم زيادة على هذا .
والإنسان لا يستطيع أن يؤدي شكر نعم الله عليه ، ولكن بمجرد أن يؤمن ويذعن لله عز وجل ويقيم دين الله فهذا أدى شكر جميع النعم وزاد ، ولذلك يجعل الله له جزاءً نعم غير منتهية أبد الآبدين ، وبالمقابل فإنه إذا كفر حاسبه الله عز وجل على جميع النعم التي يعلمها والتي لا يعلمها ؛ لأنه يعذبه عذاباً أبدي لا نهاية له .
وقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل بنعم خاصة بهم ، منها :
*- جعلهم من سلالة الأنبياء ، التي يفتخرون ويتطاولون بها على البشر .
*- أن الله أنقذهم من الأقباط في مصر الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب .
*- أن الله أذاق عدوهم الذل والهوان وهم ينظرون فشفى صدروهم .
*- أن الله فضلهم على العالمين من أهل زمانهم فلا أحد أفضل منهم زمن طاعتهم لله تعالى ، فإن قوله تعالى : {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ليس على عمومه إلى آخر الزمان بل في فترة طاعتهم لله ورسله ، أما بعد أن انحرافهم فهم أفسق خلق الله جل وعلا .
*- أن الله أنزل لهم الكتب السماوية الكريمة التوراة والإنجيل والزبور .
*- ما أعطاهم من النعم الدنيوية كالمن والسلوى وتفجير الماء من الحجر ، فقد كان حجراً يحملونه معهم فإذا أرادوا الماء أنزلوه فتفجرت منه العيون فـيشربون ويسقون فإذا قضوا حاجتهم منه رفعوه فلا ينزل منه شيئاً .
قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} العهود التي أخذها الله عز وجل على بني إسرائيل ، عهود خاصة وعهود عامة .
فالعهود الخاصة :
*- ما ذكرهم به موسى عليه الصلاة والسلام : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} (1) فكانت الأنبياء تسوسهم إذا مات نبي قام نبي ويوحى إليه ولكن على نفس شريعة موسى عليه الصلاة والسلام ،ولكن ينزل عليه الوحي إذا اختلفوا في أمر واضطربت الأمور كما في سورة البقرة قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) .
*- ومنها أن الله اشترط لدخولهم في رحمته التي وسعت كل شيء وحصول الفلاح لهم أن يتبعوا النبي الأمي قال تعالى : {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) .
*- ومنها أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويتبعوا الرسل ويعزروهم ( يناصروهم ) : {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (1) .
وفي قوله : {أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} بيان لعظم الصلاة في دين الله وأنها شرط لنجاة العباد سواءً على الأمم السابقة أو هذه الأمة .
وقوله تعالى : {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أي إذا وفيتم وفىّ الله ، والله سبحانه وتعالى أكرم من أن يخلف وعده أو ينقض عهده سبحانه لا إله إلا هو .
أما إذا خالف بنوا إسرائيل وعاقبهم الله فإن هذا يكون من باب العدل وليس من باب الظلم فالله تعالى لا يظلم أحداً .
وقوله تعالى : {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ } أي : أن الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن أثبتا نبوة أنبياء بني إسرائيل جميعاً موسى عليه الصلاة والسلام وغيره ، فلا يليق بكم أن تقابلوا هذا التصديق من القرآن بالكفر به .
وأيضاً في قوله : { مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ } أي : أن في كتبكم وصف الـقرآن ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم فأنتم تعرفوه كما تعرفون أبناءكم ، وهذا الرسول الذي جاء مصدق لما معكم وموافقاً له ، فكيف ترفضونه وهو مصدقاً لكتبكم ؟ فكأنكم تكذبون كتبكم في هذه الحالة .
وقوله : {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } كلمة :{أَوَّلَ} أحدثت عن المفسرين إشكال قديماً إلى العصر الحديث ، فكيف يقول اله تعالى : {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } مع أنه قد كفر قبلهم أمم منهم قريش وبعض القبائل العربية التي رفضت الإسلام .
وقد نقل الحافظ ابن كثير – رحمه الله – قول أبي العالية وغيره أن المراد بقوله تعالى :{أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي من بني إسرائيل لأنهم أول الإسرائيليين الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فإن كفروا فيكونوا أول من كفر من بني إسرائيل والباقين تبع لهم ، فيكون عليهم تبعة عظيمة فهم الذين سنوا لبني إسرائيل الكفر ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً .
ومما قيل في قوله تعالى : {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } لأن عندكم وصفه فلستم كالعرب أمة أمية فإذا كفرتم وعندكم الكتاب فتكونوا أول من كفر به ممن عنده علمه ووصفه ، فالجناية عليكم أعظم وتتحملون وزر من يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من العرب المتأثرين بكم القائلين لو كان نبياً حقاً لاتبعه أهل الكتاب فتسنون سنة الكفر لمن بعدكم .
ويمكن أن يقال أن قوله تعال : {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } من باب قول الإنسان : إذا كان هذا حق فأنا أول من يؤمن به مع أنه ليس أول من يؤمن به كما في قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (1) مع أنه وجد قبله مسلمين ، فالأولية هنا ليست أولية الزمان ولا أولية المكان ولكن أولية الاعتقاد والاقتناع .
قوله : { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} .
نبههم الله تعالى إلى خصلة عندهم وهي تكالبهم على الدنيا وأنهم إنما يعيشون من أجلها ففي سبيل المال وفي سبيل مطامع الدنيا ممكن يكفروا بالحق بعدما تبين : { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} الرشاوى يأخذونها على الأحكام ، وكذلك يكفرون بالحق من أجل بقاء مكانتهم عند العرب ، ومعلوم أنهم لو آمنوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لآتاهم الله أجرهم مرتين ، ولو كرمهم الله فهذا هو التكريم .
واليهود اشتروا بدين الله وبالحق – الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم – ثمناً قليلاً من أجل أن يمجدهم العرب ، فإن هذا التمجيد ليس له وزن ولا اعتبار ، فلا ينخدع بهذا إلا المغرور المعجب بنفسه وهذا هو حال اليهود .
قوله : {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} من يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً هل هو متقي لله ؟ ومن يشتري بآيات الله مدح الناس وثناءهم هل هو متقي لله ؟ ومن يشتري بآيات الله حطام من الدنيا زائل كالرشوة وغيرها هل هو متقي لله ؟
هذه الأفعال ليست من تقوى الله ، بل هي نقمة الله وغضب الله ، فالله سبحانه وتعالى يحذر بني إسرائيل من مخالفة أمره وارتكاب معاصيه من أجل أن يصلوا إلى شيء من حطام زائل ، إما من ثناء وكلام الناس أو متاع الدنيا الزائل وحطامها الزائل .
قال تعالى : {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (الآيات 42 – 46) .
1- يحذر الله تعالى اليهود من مسلك هو من خصائصهم وهو أنهم يأتون إلى كلمة من الحق ثم يلفونها بالباطل ليلبسوا على الناس .
فمن تلبيسهم على الناس أنه قد ورد في التوراة صفات لأنبياء كاذبين يظهرون على مر الزمان ، وورد في نفس الوقت الأمر بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم واتباعه وأن يكونوا من أنصاره فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للناس : هذا من الكذابين الذين حُذِّرنَا منهم في التوراة فلبسوا على الناس .
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} يقولون أن هذا نبي ولكنه ليس لنا ولكنه للعرب خاصة فيؤمنون بأنه نبي ولكن لا يؤمنون بأنه نبي مرسل إلى الناس كافة كما هو في التوراة وكما أُخِذَ عليهم العهود والمواثيق أن يؤمنوا به وأنه نبي إلى الثقلين ، فيلبسوا الحق بالباطل فلا ينكرون نبوته بل ينكرون نبوته لهم ، فيؤمنون بجزء من الحقيقة ويكفرون بجزء ومن ذلك ما ذكره الله عز وجل بعد آيات من قوله : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } (1) .
ومن تلبيسهم أنه كانوا يأخذون من الأحكام ما يوافق أهواءهم ويتركون ما لا يوافقها ومن ذلك عقوبة رجم الزاني (1) لا يعملون بها مع أنه مكتوبة عندهم في التوراة .
ومن تلبيسهم كذلك أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد .
ومن تلبيسهم أيضاً قولهم : أن التوراة والإنجيل والقرآن شيء واحد ، وهذا ليس بصحيح فإن التوراة التي أنزلت على موسى والإنجيل الذي نزل على عيسى وإن اتفقت أصولها مع القرآن إلا أنها تختلف تماماً في التشريعات والقضايا الفرعية .
ومن التلبيس والتدليس أنهم يقولون أن اليهودي مؤمن وأن النصراني مؤمن ويقولون أن اليهودية والنصرانية دين الله ، والحق أن اليهودية والنصرانية التي هم عليها ليست من دين الله في شيء ؛ لأن الدين عند الله الإسلام ، ولما قالوا إن إبراهيم منهم قال الله تعالى : {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) فقول الله تعالى في هذه الآية : {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يدل على أنهم مشركون فالذين يقولون : عزير ابن الله ويقولون : المسح ابن الله ، قد أشركوا شركاً لم يشرك به مثلهم ، ولذلك كان الإمام أحمد إذا مر به النصراني يغمض عينيه ويقول : إنهم قد سبوا الله مسبة ما سبه أحدٌ مثلهم .
ومن هنا نعلم خطر الدعوة المشبوهة الداعية إلى تقارب الأديان وأنها دعوة ماكرة خبيثة ، هي من فعل اليهود وأذنابهم ومنظماتهم الـسرية في سبيل طمس الحقائق والتلبيس على خلق الله وهذا شأنهم كما وصفهم الله هنا بقوله : {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} .
فمن تلبيسهم أنهم يقولون : أن الأديان كلها سماوية وأنها من عند الله وأن الإنسان إذا جاء يوم القيامة بأي دين منها فهو ناجٍ عند الله ، وهذا القول كفر .
والصحيح أنه لا نجاة عند الله إلا بالإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعد بعثته صلى الله عليه وسلم لا يُقبل من أحد إلا دين الإسلام ، حتى لو كان موسى عليه الصلاة والسلام حياً ما وسعه إلا أن يتبع محمد صلى الله عليه وسلم لما بعث قال صلى الله عليه وسلم : (( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ )) أخرجه مسلم (1) .
وقوله : {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} إذا حشروا ممن عنده علم بالكتاب وقال : أن البشارة بمحمد قد وردت في كتبكم قالوا : نعم ولكنه نبي للأميين وليس لنا ، وهذا منهم تلبيس للحق بالباطل .
وإذا صفا لهم الجو كتموا الحق وقالوا : هو كذاب ، فالله تعالى ينهاهم عن هذا وعن هذا .
وقوله : {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تفعلون هذه الأفاعيل الخبيثة والخصال الشنيعة عن علم ودراية فلستم تجهلون حقيقة الأمر ، بل لأن قلبوكم قد امتلأت حسداً وحقداً وكبراً وحباً للرئاسة والزعامة فخفتم أن تُسلبوا الرئاسة والصدارة إذا آمنتم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فظننتم أنكم بهذه ستبقون في مكان الرئاسة والزعامة ، مع أن الذي يقلب الأمور ويصرفها هو الله تعالى فلن يُبقي على زعامتكم الخبيثة الفاسدة المبنية على الكذب والتلبيس والتدليس وحب الدنيا ، بل سيكشفه سبحانه وتعالى كشف بيان وفي نفس الوقت سَيُدِيل عليكم الدولة ويسلط رسوله عليكم ، وهذا الذي حدث فإن الله قد سلط رسوله عليهم فقتل منهم من قتل وأجلى من أجلى فلم يبق لهم كيان ولم تقم لهم قائمة ، بينما لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لحصل لهم الأجر مرتين مثلما حصل لعبدالله بن سلام رضي الله عنه .
ولكن الله طمس بصائرهم والسبب أنهم كانوا يكتمونه وهم يعلمون ويلبسوا على الناس وهم يعلمون فلذلك أعمى الله عز وجل بصائرهم وأضلهم : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (1) .
وقوله : {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (الآيات 43 – 45) .
قوله : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – : استدل بها بعض الأئمة على وجوب صلاة الجماعة .
وقد رد ذلك بعض العلماء بأن الدلالة فيها ليست صريحة ، وهذا لا يعني أن صلاة الجماعة ليست بواجبة ، ولكن هذا اللفظ بذاته لا يساعد على هذا المعنى الذي ذهب إليه بعض الأئمة .
وأما صلاة الجماعة فقد دلت أدلة كثيرة من الكتاب والسنة على فرضيتها مبسوطة في كتب السنة كما في الصحيحين وغيرهما .
وقوله : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } .
– من المفسرين من يقول : أن اليهود كانوا يأمرون من أسلم وبينهم وبينه رحم وقرابة بأن يثبت على دين محمد صلى الله عليه وسلم وأن دينه الحق ، مع أنهم هم لا يفعلون هذا ولا يتبعون محمد صلى الله عليه وسلم فيقول الله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} أي مع أنكم تتلون الكتاب وتعرفون صفة النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا قصة الغلام اليهودي الذي كان يحتضر فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال له : (( يا غلام : قل لا إله إلا الله محمد رسول الله )) فنظر الغلام إلى أبيه كأنه يستشيره لأن والده كان من أحبار اليهود وعلمائهم ، فقال له أبوه : أطع أبا القاسم ، فشهد الغلام شهادة الحق وأسلم ثم مات ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يقول : (( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار )) .
– ومنهم من يقول : أن اليهود كانوا يأمرون أتباعهم بما تأمرهم به التوراة من الطاعات والبر وإنفاق الأموال بالصدقات وهم لا يفعلون هذا .
والآية تشمل هذا كله .
قوله : {أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي أليس عندكم عقول تمنعكم من فعل ما يضـركم ؟ ؛ لأن العقل يحجز الإنسان من أن يفعل شيئاً يضره .
وقوله : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } أي حتى تتجاوزا هذه المشقة والثقل الذي يحصل من هذه التكاليف تستعينوا بالصبر والصلاة .
فالصبر كما سمعنا في خلاف العلماء منهم من عبر عنه بشيء عام يدخل فيه الصيام وغيره ، ومنهم من عبر عنه بالصيام ، وليس هناك تعارض بين الأمرين .
إلا أن الذين يقولون أن الصبر بمعناه الأعم فقولهم أوفى فما دام أن اللفظ يحتمل المعنى الأعم فهو أولى أن يُفسر به كلام الله عز وجل .
فالله تعالى أمر بالاستعانة بالصبر ؛ لأن النفوس لا تقوى على المشقة إلا إذا صبرت على المكاره وصبرت على الشدائد وصبرت على الطاعات ، فالطاعة تحتاج إلى مكابدة فمثلاً الذي يقوم يصلي لله يسجد ويركع في آخر الليل وهو مرهق متعب هذا ليس بالأمر السهل ، قال بعض السلف – رحمه الله – : جاهدت نفسي عشرين سنة على قيام الليل ثم استمتعت به عشرين سنة .
فلا تأتي متعة إلا بعد الصبر والمصابرة والمجاهدة ، مجاهدة النفس والهوى والشيطان الشيطان الذي يترصد للإنسان فيسعى ليصرفه عن أعمال الخير من قيام الليل وغيره ولذلك اخترع الشيطان وأولياءه من شياطين الإنس للعباد ما يشغلهم أول الليل ويرهقهم حتى لا يستيقظون للصلاة في آخر الليل .
فلابد من الاستعانة بالصبر والصلاة مع الاحتساب بأن ينوي ما عند الله تعالى حتى يُثمر الصبر ويُعطي نتيجته ، وقد ورد في الأثر : ( الصبر رأس الأمر ) فلا يمكن أن يحصل للإنسان فلاح في الدنيا أو في الآخرة من غير الصبر ، فإن الطاعة لا تكون إلا بالصبر ، وترك المعصية لا يكون إلا بالصبر ، وإذا نزلت أقدار الله المؤلمة فلا تُطاق إلا بالصبر ولا تهون إلا بالصبر ، فلا تدخل الجنة إلا بالصبر ؛ لأنها حفت بالمكاره ولا تنجو من النار إلا بالصبر ؛ لأنها حفت بالشهوات .
فائدة : الصبر يشمل الصبر على الطاعات ، والصلاة هي أعظم الطاعات ، فلماذا أعاد ذكر الصلاة ؟
الجواب : أعاد الله تعالى ذكر الصلاة تنويهاً بشأنها تعظيماً لقدرها .
قوله : {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} هل الضمير عائد إلى الصلاة لأنه آخر مذكور ؟ أم هو عائد على هذه الوصية بكاملها ؟
الجواب : من قواعد اللغة العربية أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور فإن قلنا هذا فإن الصلاة شأنها عظيم لا يستطيعها إلا الخاشعون ، قال تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) والخشوع هو روحها ولبها ، فلا تنظر إلى كثرة المصلين بل انظر إلى من يقيمها ويعطيها حقها ومستحقها ، ولذلك ورد أن أول ما ينزع من الناس الخشوع حتى أنك تدخل المسجد الجامع فلا تكاد تجد فيه خاشعاً ، وهذا قد يكون منطبق على أكثر الناس في هذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والخشوع في معناه الأعم الأكبر : هو الخضوع والتواضع لله عز وجل خضوع القلب وتواضعه لله وحضوره حيث يأمره الله عز وجل ، فإذا حضر في هذا المكان تذكر أن الله تعالى ينصب وجهه تلقاء وجه المصلي وأن الله سبحانه وتعالى يكون في هذه المنزلة بالنسبة للمصلي حتى ينصرف المصلي عن قبلته بأن يلتفت أو يشتغل بغير الصلاة فيقول الله : (( أإلى خير مني )) فيتركه الله تعالى .
فإذا تذكر هذا خشعت الجوارح ولا شك ؛ لأن الجوارح مُلْكٌ للقلب فإذا خضع القلب خضعت الجوارح .
أما قضية سكون الحركات أو التماوت في الصلاة فقد كرهها كثير من السلف ؛ لأنها مدعاة إلى الرياء السمعة وليست هي المقصودة بالمقصود حضور القلب وخضوعه في الصلاة من تكبيرة الإحرام إلى التسليم .
وأما فوائد الصلاة فكثيرة منها (1) :
– أنها تُسلم النفس من الهلع والجزع ، قال الله تعالى : {إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ } (2) فالصلاة تحفظهم من هذه الخلال .
– أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، قال الله عز وجل : {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (3) .
– أنها جالبة للرزق ، قال الله عز وجل : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (4) .
قال تعالى : {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
الله سبحانه وتعالى خاطب بني إسرائيل يذكرهم بنعمه كما مر في الآية التي سبقت حيث قال فيها : {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وهنا قال : {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
تفضيلهم على العالمين من أحد وجهين :
*- الوجه الأول : أنه فضلهم بكثرة الأنبياء والرسل فيهم ، وهذا لا يماثلهم فيه أمة من الأمم ، فمن أنبياءهم العظام : يعقوب وأبناءه يوسف وإخوته كلهم أنبياء عليهم الصلاة والسلام .
ثم الأنبياء العظام الذين أرسلهم الله بعد ذلك : موسى وهارون ويوشع بن نون وداود وسليمان وأيوب وعيسى بن مريم عليهم الصلاة والسلام .
فالأنبياء في بني إسرائيل مثل العلماء في هذه الأمة من كثرتهم ، كان كلما مات نبي قام نبي ، وأحياناً يوجد أكثر من نبي في وقت واحد ، حتى أنه سيأتي معنا في تفسير قوله تعالى : { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (1) أنهم في يوم واحد قتلوا ثلاثمائة نبي وهذا يدل على كثرة الأنبياء فيهم .
*- الوجه الثاني : أن الله فضلهم على أهل زمانهم كما نقل الحافظ ابن كثير – رحمه الله – كلام أئمة التفسير في ذلك .
لماذا فضلهم الله على أهل زمانهم ؟
لأنهم كانوا هم أهل الطاعة وأهل الإيمان والتوحيد لما كان فيهم موسى وهارون ، وأما غيرهم فكانوا وثنيون كالقبط قوم فرعون ، والعماليق الذين كانوا في أرض فلسطين كانوا وثنيون أيضاً .
فالتفضيل لهم خاص بزمان طاعتهم واستقامتهم ، والدليل على ذلك أنهم لما عصوا وتمردوا مسخهم الله قردة وخنازير فأهانهم إهانة لم تحصل لأمة من الأمم .
فالتفضيل لهم ليس مطلق ولكنه مقيد :
– إما أنه مقيد بزمانهم .
– وإما أنه مقيد بحال طاعتهم توحيدهم واستقامتهم على أمر الله .
– وإما أنه مقيد بوجود الأنبياء والرسل فيهم .
فلا يصلح أن يتطاولوا على الأمم بهذا ؛ لأنهم الآن لا أنبياء فيهم فيفضلوا الأمم بذلك وليسوا أهل طاعة بل هم الآن أخبث من الوثنيين .
قال تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (الآية 48) .
هذا اليوم ليس لبني إسرائيل فقط بل كل مخلوق وارد هذا اليوم ، ولذلك هول الله عز وجل أمره وعظم شأنه وذكره بأوصاف تدل على شدة الأمر في ذلك اليوم .
وهنا لما ذكره قال تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْماً} جاء به منكراً ليدل على تعظيم الله تعالى لذلك اليوم ، فيوم القيامة أهواله كثيرة :
– فهو طويل المسافة ، مقداره خمسون ألف سنة يقف فيها الإنسان وقوفاً طويلاً عاري الجسد حافي القدمين لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يجلس .
– وفي هذا اليوم يغضب الله جل وعلا غضباً لم يغضب قبله مثله .
– وفي هذا اليوم لا أحد يستطيع أن يتكلم ، ففصحاء الدنيا قد أخرست ألسنتهم : {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} (1) والذين يأذن الله لهم هم الأنبياء فقط ، ولا يتكلمون إلا بكلمة واحدة : (( اللهم سلّم )) .
– والأرض في هذا اليوم تزلزلت .
– والجبال دكها الله دكا وجعلها هباءً منبثاً .
– والبحار والنهار أصبحت نار مؤججة .
– والسماء تشققت وتفطرت .
– والكواكب تكورت واختل نظامها وضرب بعضها ببعض .
– والشمس تدنو من الخلائق حتى تكون على مقدار ميل ، قال بعض العلماء : الميل ميل العين الذي يتكحل به الناس .
فكل ما ازداد الإنسان في هذه الدنيا عصياناً لله كلما ازداد عذابه في ذلك اليوم ، وكلما خفت ذنوبه ومعاصيه كلما خف عذابه وألمه في ذلك اليوم ( كما تدين تُدان ) .
وهذا العذاب البلاء عام ، بعده تأتي القضايا الخاصة :
– المتكبرون يُحشرون في صورة الذر يطأهم الناس بأقدامهم ، ففي الدنيا ترفعوا على الناس واستكبروا عليهم وفي الآخرة جعلهم الله تحت أقدام العباد .
– أكلة الربا تملأ بطونهم حجارة ويوضعون تحت أقدام الخلق في الذهاب والإياب .
– ما نع الزكاة يُطرح في أرض قرار فإن كان صاحب إبل يؤتى بها تدوسه بأقدامها وتنهشه بأسنانها ، وإن كان صاحب بقر أو غنم فَيُؤتى بها أوفر ما كانت قرون وأظلاف تدوسه بأظلافها وتنطحه بقرونها ، فهو على هذا الحال طيلة يوم القيامة خمسون ألف سنة .
– وأهل الزنا توقد لهم التنانير ويوضعون فيها وتوقد عليهم النار من أسفلها .
نسأل الله السلامة والعافية ونسأله جل وعلا لطفه بنا في ذلك اليوم العظيم .
فهذا اليوم ليس خاصاً ببني إسرائيل كما ذكرنا ، ولكن الله تعالى يُذّكر بني إسرائيل بنعمه التي أنعم بها عليهم في الدنيا ، ويحذرهم العذاب الأليم الذي ينتظر كل عاص لله في ذلك اليوم العظيم يوم القيامة وما فيه من أهوال وشدائد .
فعلى كل البشر أن يتقوا الله وأن يستعدوا لذلك اليوم ويُقدموا على الله بما ينجيهم في ذلك اليوم وهي تقوا الله ، قال عز وجل : {وَاتَّقُوا يَوْماً} وأوضح معنى قاله العلماء للتقوى هو : أن تلازم طاعة الله وأن تبتعد عن معصية الله مع الإيمان بالله .
وقوله : {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} هذا المعنى على إطلاقه يكون في حق الكفار فلا تنفعهم شفاعة الشافعين وليس لهم من ينصرهم ولا من يدفع عنهم العذاب .
وإذا أردنا أن نذكر ما يخص المسلمين منها فالمقصود لا تقبل شفاعة أحد إلا بإذن الله تعالى للشافع أن يشفع ، قال تعالى : {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } (1) ، ورضاه سبحانه وتعالى عن المشفوع له ، قال تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } (2) .
وهذا قطع ليأس المبتدعة الذين يعتمدون على الأوهام والخيالات في تعاملهم مع موقف القيامة والحشر والنشر فإنهم يزعمون أن أولياءهم الذين يعبدونهم من دون الله سيشفعون لهم ، وقولهم هذا مثل قول بني إسرائيل تماماً فبنوا إسرائيل قالوا : {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (3) وقالوا : نحن أبناء الأنبياء ، ولا يمكن أن الأنبياء يرضوا أن أبناءهم يدخلون النار فهم سيشفعون لنا ولن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، فجاء المبتدعة من هذه الأمة – عباد القبور وعباد الأولياء الذين يتعلقون بالبدوي وابن علوان – وقالوا : نحن مُريدو الأولياء وأحبابهم ولا يمكن أن الولي يرضى بأن مريديه يدخلون النار ، فنفس التعبير ؛ لأن هذا الدين جاء من عند اليهود حيث بثوه بين عوام المسلمين وضلالهم البعيدون عن العلم والمعرفة فانتشرت هذه العقيدة من هذا الباب ، ثم أصبحت تسري في الناس كما تسري النار في الهشيم ؛ لأن الشيطان ودعاة الباطل يغذونها ويُروج لها من أعداء الله الكافرين والمنافقين الزنادقة حتى تبقى هذه الأمة تتخبط في الضلال والعمى والجهل فيكثر فيها الشرك فيصبح حالها كحال اليهود ، فإذا وصلوا إلى هذه الحالة فإنهم لا يستطيعون الانتصار على اليهود ، وهذا ما يريده اليهود أن يبقى المسلمون منشغلين بالطواف حول القبور والأضرحة يدعون الأموات ويستغيثون بهم لا يفكرون في جهاد أعداء الله اليهود فيعيش اليهود سالمين مرفهين .
فالله سبحانه وتعالى قطع على المبتدعة هذه العلائق وهذه الوشائج : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} (1) ولا ينفع عند الله عز وجل يوم القيامة : {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (2) .
والقلب السليم هو : القلب الخالي من الشرك لأن الإنسان إذا لقي الله وقلبه خالي من الشرك فمهما عظمت ذنوبه وتنوعت إذا شاء الله غفرها ولو عذبه فإنه يعذبه ثم يرده إلى الجنة ولو طالت فترة عذابه في النار ، وقد يقبل الله فيه شفاعة الشافعين فيدخل الجنة من غير عذاب ، ولكنه لو لقي الله بشائبة من الشرك وقلبه متعلق بغير الله فلا يشفع فيه أحد ولا تنفعه شفاعة الشافعين ولا يرضى الله أن يشفع فيه أحد قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (3) .
قال تعالى : {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } ( الآية 49) .
هذه الآية تدل على ما كان عليه بنوا إسرائيل من الذل والمهانة عند أهل مصر ( القبط ) وقد كان دخول بني إسرائيل إلى مصر في زمن يوسف عليه الصلاة والسلام ، وقيل كان عددهم سبعون رجل وفي مدة أربعمائة سنة في الفترة ما بين يوسف وموسى عليهما الصلاة والسلام تكاثروا حتى أصبحوا بمئات الألوف ، حتى قيل أن الذين خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام أكثر من ستمائة ألف وهم المقاتلة فقط غير النساء والذرية .
والحافظ ابن كثير – رحمه الله – ذكر هنا أن تسلط فرعون وقومه عليهم هي الرؤيا التي رآها فرعون : أنه رأى ناراً تخرج من قبل بيت المقدس وأنها دخلت بيوت القبط وحرقتهم ولم تمس بني إسرائيل ، وفسرها الكهان بأن مولود يولد من بني إسرائيل يكون زوال ملك فرعون على يده .
فظن هذا الخبيث – فرعون – أنه سيرد أمر الله فأمر بقتل الذكور من بني إسرائيل فقتلوا الذكور واستبقوا النساء .
وذكر بعض أئمة التفسير أنه لما كثر بنوا إسرائيل وكانت نسبة المواليد فيهم عالية جداً خاف القبط أن يكثر بني إسرائيل فيغلبوهم على أرضهم .
فالمقصود أن بنوا إسرائيل عاشوا في ذل ومهانة لا يعلمها إلا الله حتى أن القبط يأخذون المولود الذكر من يد والديه فيذبح وهم ينظرون وتؤخذ البنت وتسخر في الخدمة هذا غاية الذل والمهانة ، فبقوا على هذا الحال حتى بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام فكانت نجاتهم على يديه عليه الصلاة والسلام .
وقوله : {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} .
عندما أمر الله موسى عليه الصلاة والسلام أن يخرج ببني إسرائيل من مصر خرج بهم ليلاً فشعر بهم فرعون : {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} (1) .
خرجوا في أعداد مهولة فمن المفسرين من قال : أن عددهم كان بالملايين وأن الذين كانوا يركبون الخيل عددهم مليون غير المشاة ، فساروا حتى وصلوا أصبح البحر أمامهم كما قال تعالى : {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (2) .
فتأمل الثقة بالله من هذا النبي الكريم فهو يمشي بأمر الله على نور من ربه ، متأكد من عدم إدراك فرعون وقومه لهم .
وقد قيل أن يوشع بن نون(1) قال لموسى : أين أمرت ؟ قال موسى : أمرت بهذا الطريق . قال : ما كذبت ولا كُذبت ، فنزل بفرسه إلى البحر فخاض فيه ثم رجع إلى موسى فقال : إلى أين أمرت ؟ قال موسى : إلى هذه الوجه . فقال : ما كذبت ولا كُذبت . إلى أن أمر الله موسى عليه الصلاة والسلام أن يضرب البحر بعصاه فضربه فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقاً ؛ لأنهم كانوا اثنا عشر سبطاً والبحر محجوز كالجبال من يمين ومن شمال وجعله الله كالشبابيك ليرى بعضهم بعضاً ويكلم بعضهم بعضاً وليطمئن كل سبط على الآخر .
فلما استكمل خروج بني إسرائيل من الجانب الآخر ودخل فرعون وجنوده واستكمل دخولهم أطبق الله عليهم البحر .
فانظر إلى هذا النصر العظيم لأولياء الله تعالى نصرهم بضربة واحدة في البحر وجعله يابساً جافاً ليس فيه لزوجه ولا طين ولا بقيا من الماء ، قال تعالى : {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} (2) . وهذا يدل على قدرة الله الباهرة ، حيث رأى قوم موسى هذا بأعينهم .
وقد حصل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما غزا الفرس وكان بينه وبينهم النهر فقطع الفرس الجسور والممرات فقالوا للمسلمين اركبوا النهر إلينا فدعا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فمشى بمن معه فوق الماء وذلك في زمن زيادة نهر دجلة وأمواجه كالجبال مع ذلك لم تبتل أخفاف إبلهم ولم يفقدوا من متاعهم شيئاً ، وهذه الكرامة من الله تعالى أبلغ حيث مشى سعد بن أبي وقاص ومن معه فوق الماء .
وكذلك العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه لما غزا البحرين حصل له مثلما حصل لسعد بن أبي وقاص ومن معه ولم يفقدوا من متاعهم شيئاً .
ومما لقي بنوا إسرائيل من فرعون من العذاب والجبروت قالوا : لا نصدق أن فرعون قد مات ، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه فعندما رأوه أيقنوا أنه قد هلك .
وهذا فيه نعم عظيمة على بني إسرائيل :
*- نصر الله تعالى لأوليائه بما شاء عز وجل : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ }(1) فقد نـصر نوح عليه الصلاة والسلام بالماء ونصر موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون بالماء ونصر هود بالريح على عاد الذين قالوا : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } (2) قال بعض المفسرين : أن الله لما أمر الدبور أن ترفعهم لم يسمح لها إلا بمقدار خرم الإبرة ومع ذلك كادت أن تحمل الجبال لولا أن الله تعالى منعها إلا بمن أمرها بأخذه ، فقد كانت ترفع الواحد منهم على ضخامة جسمه إلى عنان السماء ثم يهوي كأعجاز نخل خاوية ، ونصر صالح بالصيحة ملك صاح من السماء فخمدوا جميعاً كنفس واحدة ، وهكذا ينصر الله أنبياءه وأولياءه بما شاء سبحانه وتعالى ، فلو أحسن المسلمون التعامل مع الله عز وجل لنصرهم .
*- عظيم صنع الله عز وجل لأوليائه كيف أخرجهم من طاغوت فرعون ثم أغرقه أمام أعينهم وهذا أشفى لصدورهم وأذهب لغيظهم .
*- أن إهلاك فرعون وجنوده بهذه الطريقة فيها الإذلال والخزي الذي لم يحصل لمن قبله ، فقد كان متكبراً جباراً حتى قال : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} (1) فأمضى الله تعالى المياه من فوقه وجعله عبرة للمعتبرين .
*- أن الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام بعد أن أهلك فرعون وقومه إن يرجع ببني إسرائيل إلى أرض مصر فأورثهم الله أرضهم وديارهم .
قال تعالى : {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (الآيات 51 – 54)
الشرح :
يعدد الله عز وجل في هذه الآيات النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل وفي نفس الوقت يعدد مساوئهم ومخازيهم ، فربنا تعالى لما أنعم عليهم بتلك النعمة العظيمة وهي إخراجهم من تحت تسلط فرعون وقومه وظلمهم .
فكان الواجب على بني إسرائيل أن يشكروا الله تعالى على هذه النعمة العظيمة ولكنهم بعد أن خرجوا من البحر طلبوا من موسى عليه الصلاة والسلام أن يأتيهم بكتاب من عند الله فيه الحلال والحرام ، فموسى عليه الصلاة والسلام سأل الله أن يعطيه لبني إسرائيل يعملوا بأوامر الله ويحلوا الحلال ويحرموا الحرام ، فواعده الله ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر كما في سورة الأعراف قال تعالى : {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (1) .
قال بعض المفسرون : أن الأربعين ليلة هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، ويذكرون تفاصيل في زيادة العشر الليالي ، ولكن لم يرد فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أخبار بني إسرائيل .
فمنهم من يقول : أن موسى عليه الصلاة والسلام صام الثلاثين ليلة كلها ليلاً ونهاراً وبعد أن انتهى منها تسوك لمناجاة ربه فعتب الله عليه ذلك وأمره أن يصوم عشرة ليالي أخرى حتى يذهب أثر ذلك السواك ؛ لأن الله تعالى يرضى أن تظهر آثار العبادة على العبد ولذلك كان خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ؛ لأنها أثر الطاعة وكذلك الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك ، وأما أثر المعصية فهو بغيض عند الله ، فالزناة يخرج من فروجهم القيح والصديد ويسقون هذا القيح والصديد ؛ لأن فعلهم قبيح عند الله فكان جزاءهم بهذه العقوبة الشنيعة .
المقصود أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام لما زاده الله عشراً تأخر على بني إسرائيل قالوا : ذهب موسى يبحث عن ربه فضل ، وقد كان معهم حلية استعاروها من آل فرعون عند خروجهم من مصر فأخذوه كغنيمة وخرجوا به معهم فكانت كميات هائلة ، فأوقد هارون عليه الصلاة والسلام ناراً وقال لهم : ألقوه في النار ؛ لأنه مال حرام أخذتموه بطريقة غير صحيحة .
وكان معهم رجل يدعى السامري رأى فرس جبريل عليه الصلاة والسلام حينما نزل ليثبت موسى عليه الصلاة والسلام ويتتبع فرعون ليهلكه فقبض السامري قبضة من أثر الفرس يبطن في نفسه سريرة سوء ، فلما ألقى هارون الحلي في النار قام السامري وألقى القبضة وصنع منها العجل ، فيقال (1) : أنه خرج عجل حقيقي ، ويقال : بل عبارة عن صورة فقط من الحلي الذي أخذوه ولكنه عمل فيه بطريقة هندسية معينه بحيث يدخل الريح من جهة ويخرج من الأخرى فيحدث صوت في جوفه كأنه صوت الخوار ، وقد ذكر الله ذلك بقوله تعالى : {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (1) أي : أن موسى نسي أن هذا إلهه ولذلك ذهب يبحث عنه فضل .
وهارون عليه الصلاة والسلام نبي يوحى إليه وإن كان موسى أفضل منه فأنكر عليهم هارون ذلك كما قال تعالى : {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (2) .
فائدة من قصة السامري وإبطانه سريرة السوء :
أن الإنسان الذي يبطن في نفسه سريرة سوء – والعياذ بالله – تخونه السريرة السيئة أحوج ما يكون إليها ، ولذلك على الإنسان أن يصفي سريرته ويراقب ربه ويكون على حذر من سرائر السوء ، وقد ذكر العلماء أن من أسباب سوء الخاتمة إبطان سرائر السوء كأن يكون في قلبه شيءٌ من النفاق أو الغل على الإسلام والمسلمين أو بغض شيء من شريعة الله أو بغض النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك يظهر عند نزع الروح أحوج ما يكون الإنسان إلى تثبيت الله فيتخلى الله عنه ويكله إلى سريرة السوء فيخرج على خاتمة السوء والعياذ بالله فعلى المسلم أن يحذر من سريرة السوء وأن يكون على أحسن الظن بالله عز وجل وبدينه وبرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله عند ظن العبد فإن ظن العبد بربه خيراً كان عند ظنه وإن ظن بربه سوءً وكله الله إلى ظنه .
ولما كلم موسى عليه الصلاة والسلام ربه وأعطاه التوراة كتبها الله تعالى له في ألواح وأخبره أن قومه عبدوا العجل فرجع وهو غضبان مما صنع قومه من عبادة العجل ومحاولة قتل هارون كما قال تعالى : {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1) فجمعوا بين جرائم كبرى متعددة عبادة العجل ومحاولة قتل هارون عندما نهاهم عن عبادة العجل واستمرارهم على هذا الغي .
فموسى عليه الصلاة والسلام لما رأى ما فعل قومه غضب ومن شدة الغضب ألقى الألواح فتكسرت ، فيقال : أن الألواح كان فيها علم كثير رفعه الله لما تكسرت ولم يبق لهم إلا علمين علم الحلال والحرام فقط .
ثم أخذ موسى عليه الصلاة والسلام العجل فسحله وذراه في اليم ليري الذين عبدوه أنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ومن باب أولى أنه لا يستطيع أن يجلب لغيره نفعاً أو يدفع عنه ضراً .
فيقال أن الذين أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته ذهبوا يشربون من ماء البحر الذي ألقى موسى العجل فيه ، وهذا يدل على إصرارهم واستكبارهم وعنادهم وعتوهم نعوذ بالله من شرهم .
ثم إنهم لما ندموا على هذا الفعل وتحركت في نفوسهم رغبة التوبة شرط الله عز وجل عليهم لقبول توبتهم هذا الشرط العظيم وهو أن يقتلوا أنفسهم أي يقتل بعضهم بعضاً وقوله عز وجل : {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } عبر عن ذلك بقتل النفس لأن المؤمنين كالجسد الواحد وكالنفس الواحدة : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا )) فإذا قتل المؤمن أخاه فكأنما يقتل نفسه ؛ لأن الأمة المؤمنة كالجسد الواحد فلذلك قال : {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } .
ثم بعد هذا اختلف المفسرون في الطريقة التي قتلوا بها أنفسهم :
فمنهم من يقول : أنه جردوا السيوف وأصبح الإنسان منهم يقتل من لقي لا يبالي لقي والداً أو ولداً أو أخاً أو قريباً وهكذا .
ومنهم من يقول : أنهم طائفتان :
الطائفة الأولى : الذين عبدوا العجل .
والطائفة الثانية الذين لم يعبدوا العجل .
فأُمر الذين عبدوا العجل أن يربطوا أنفسهم ( يحتبوا ) ويجلسوا مستسلمين ويأتي الذين لم يعبدوا العجل فيقتلونهم بالسيوف والخناجر .
فالحاصل أنهم امتثلوا لأمر الله رغبة في التوبة وحصلت لهم هذه العقوبة الشنيعة بأيدهم ، وألقيت عليهم الظلمة حتى لا يتحرّج الواحد منهم في قتل والده أو ولده فاقتتلوا حتى قُتل منهم في هذه الساعة التي نزل عليهم فيها حكم الله سبعون ألف ثم ضجوا إلى الله تعالى بالبكاء وموسى عليه الصلاة والسلام بالدعاء فرفع الله عز وجل عنهم البلاء .
فانظر إلى هذه العقوبة الشنيعة التي عاقبهم الله بها ، لكن إذا نظرت إلى الذنب العظيم الذي فعلوه وجدت أنها عقوبة عادلة في حقهم ، فقد تركوا عبادة الله وعبدوا عجل صنعوه بأيدهم بل وصل بهم الحال إلى محاولة قتل نبي الله هارون عليه الصلاة والسلام .
ثم انظر من ناحية أخرى إلى عظيم فضل الله تعالى ومنته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى رفع عنهم هذه الآصار والأغلال ، فمهما أذنب العبد فإنه إذا تاب إلى الله تعالى توبة صادقة بشروطها فإن الله تعالى يقبل توبته ولا يكلفه شيئاً يضره في نفسه أو جسده أو حتى ماله إلا أن يكون من لوازم التوبة أن يخرج من ماله زكاة تأخر عنها أو حقوق واجبة ، فيجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة وأن نعبد الله عز وجل كما يحب سبحانه وتعالى وما شرع على لسان رسوله وأن نترك عنا الأهواء واستحسان ما يخالف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الذي أدى ببني إسرائيل إلى الوقوع في هذا الذنب العظيم تركهم الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه واتباع الأهواء وما يمليه شياطين الإنس والجن بعضهم إلى بعض ، وهذا الآن وللأسف الشديد يقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم يترك البعض سنته محمد صلى الله عليه وسلم ويتبعون محدثات الأمور التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) فكثير من الناس الآن تركوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه وعملوا المحدثات التي هي ضلال ، ومن ذلك بدعة المولد التي يروج لها عبر وسائل الإعلام المختلفة هل فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ؟
وهل فعلها أصحابه رضي الله عنهم ؟
الجواب : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا فعله أصحابه ، فكيف يكون خيراً والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم من بعده ؟ إذاً هي محدثة ، والمحدثة هي : التي حدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أصحابه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندهم الهدى .
وبدعة المولد الغالب عليها الشرك الأكبر كما في قصائدهم التي يرددونها في المولد النبوي يرفعون فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزلة الله أو يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم من دون الله أو بالأولياء ، فلا فرق بينهم وبين الذين عبدوا العجل ، فأهل المولد عبدوا البـشر وبنوا إسرائيل عبدوا العجل ، فحقيقة الأمر واحدة فهذا شرك وذاك شرك .
فالذي أدى بهؤلاء إلى الشرك هو الذي أدى ببني إسرائيل إلى عبادة العجل هو إتباع غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهارون عليه الصلاة والسلام لما نهى بني إسرائيل عن عبادة العجل كادوا يقتلونه ، وهؤلاء الذين في زماننا إذا قيل لهم : تعالوا إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : أنتم لا تحبون النبي صلى الله عليه وسلم . ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم حياً لفعلوا كما فعل بنوا إسرائيل مع هارون عليه الصلاة والسلام ؛ لأن أولئك كذبوا هارون عليه السلام وهو حيّ أمامهم وكادوا يقتلونه ، وهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم ميت في قبره ولكنه حيّ معنا بسنته هذه سنته موجودة معنا يقول فيها : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وإياكم ومحدثات الأمور )) فالذي يرفض كلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصريح الواضح لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حياً هل كان سيقبل منه ؟ لن يقبل منه سيفعل مثلما فعل بنوا إسرائيل مع هارون عليه السلام .
فمن كان صادقاً في طاعته للنبي صلى الله عليه وسلم فليأتي إلى سنته ويترك المحدثات ، فمن كان يؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقاً فما الفرق بين أن يكون موجوداً أو غائباً ؟ وهل الصحابة رضي الله عنهم عندما كانوا يخرجون خارج المدينة هل كانوا يعصون النبي صلى الله عليه وسلم ؟ حاشاهم رضي الله عنهم بل كانوا يلازمون هديه صلى الله عليه وسلم ، ولذلك الصحابي الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية وأعطاه كتاب وأمر أن لا يفتحه إلا في موضع كذا وكذا ، فهل الصحابي فتحه قبل ذلك ؟ لا لم يفتحه إلا عندما وصل وادي نخلة وهو مكان بين مكة والطائف .
هذه هي الطاعة الحقيقة سواء كان المسلم الطائع أمام النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة أو غائب عنه .
فهل هذا المولد عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ لا ليس عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم فمن يعمله فعمله مردود عليه قال صلى الله عليه وسلم : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) .
فالمقصود أن بني إسرائيل ما قبل الله توبتهم إلا بهذا الفعل الشنيع وهو أن يقتلوا أنفسهم .
وقوله تعالى : {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (الآية 55) .
وهذا أيضاً من عتوهم وعنادهم حيث قالوا لموسى عليه السلام نحن وإياك من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب فكيف تكون أنت أفضل منا ؟ ويكلمك الله ولا يكلمنا فلابد أن يكلمنا الله مثلما كلمك .
فطلب منهم أن يختاروا سبعين رجلاً منهم ، ويقال : أن اختيار السبعين رجلاً جاء ابتداءً من موسى عليه السلام من أجل أن يذهبوا ليعتذروا إلى الله من فعلتهم الشنيعة وهي عبادتهم للعجل .
فأذن الله له أن يأخذ السبعين رجلاً للقاء الله فلما وصلوا إلى الطور نزلت غمامة على الجبل فأمرهم أن يبقوا مكانهم ودخل موسى عليه السلام إلى الجبل وكان إذا كلمه الله عز وجل نزل عليه نور أضاء جبهته حتى لا يستطيع أحد أن ينظر إليه ، فاقتربوا حتى سمعوا كلام الله تعالى لموسى عليه السلام قالوا : {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } أي لن نذعن ولن نستسلم لك ، وهذا يدل على سوء أدبهم مع الله وشدة عنادهم وتحديهم حيث طلبوا رؤية الله تعالى بمنتهى السفاهة والجهل ، وهذا ما كان لموسى عليه الصلاة والسلام حتى يكون لهم .
وأما النبي العالم ففرق بين طلبه وطلب أولئك السفهاء ، فقد طلب موسى عليه السلام أن ينظر إلى الله وكان في غاية الأدب والتلطف مع الله وإظهار التوسل إلى الله باسم الرب : { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} (1) يقال : أن الله سبحانه وتعالى إنما تجلى للجبل بمقدار رأس الأنملة .
فلا أحد يرى الله تعالى في الدنيا ؛ لأنها دار فانية كل من عليها يموت فلا يليق فيها بمخلوق أن يرى الله فهذه الأجسام والقوى ليس فيها قدرة وليست مهيأة أن ترى الله فهي قوى ميتة زائلة لا يليق أن تنظر إلى الحي القيوم لا إله إلا هو ، أما في الآخر فإن هذه الأجسام تهيأ تهيئة للبقاء الدائم فإما أن تكون في العذاب نعوذ بالله من عذابه وإما في النعيم نسأل الله تعالى من فضله .
وهذه القصة جاء كما في قوله تعالى : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ }(2) يقال : أنهم ماتوا كنفس واحدة ، وقيل : ماتت طائفة وطائفة تنظر ثم أحيت طائفة وصعقت أخرى وهي تنظر ، والمقصود أنه صعقوا وماتوا موتاً حقيقياً ، وعند ذلك وقف موسى يسأل الله تعالى : {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} . فلم يزل يدعو الله ويلح عليه في الدعاء حتى استجاب الله دعاءه فأحياهم الله تعالى .
وفي هذه القصة وما حصل حكمة سواءً عرفناها أم لم نعرفها قال تعالى : {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومن يعاند أمر الله فإن الله قادر على أن ينزل به العقوبة والعاجلة كما فعل ببني إسرائيل .
1- وهذا يدعونا إلى أن نحذر عقوبة الله عز وجل ؛ لأن الإنسان لا يدري متى تنزل غضبة الله فالأمر متعلق بمشيئة الله تعالى فلا حاكم عليه سبحانه وتعالى فهو الحاكم على كل شيء والمهيمن على كل شي وبيده مقاليد الأمور يتصرف بخلقه كيف يشاء سبحانه وتعالى فله أن يعاجل من يستحق العقوبة وله أن يؤخرها سبحانه كما يشاء لا إله إلا هو وفق علمه وحكمته ، فمن الذي يؤمن صاحب العقوبة أن يعاجله الله بالعقوبة كما عاجل أولئك ، فليحذر من يتعاطى معاصي الله من تعجيل العقوبة ولا يغتر بمن يعصي الله والله تعالى يمهلهم فإن الله تعالى له حكمة قد يمهل من يشاء ولكنه أيضاً قد يعاجل من يشاء فقد تكون أنت ممن يعاجلك بالعقوبة .
2- أن عقوبات الله ليست محدودة ولا معدودة ، فالله تعالى يعاقب من يشاء بما يشاء فقد تكون العقوبة صاعقة من السماء أو صيحة أو سوط عذاب أو غرق أو حريق أو تسليط عدو أو يأمر الله تعالى الأرض فتنشق فتبتلع من عصاه ، وهذا كله حدث كما قص الله علينا في كتابه الكريم .
3- أن إمهال العاصي وعدم معاجلته بالعقوبة قد يكون ذلك شراً عليه ليزداد إثماً ويزداد عليه العذاب يوم القيامة ، فإن الفاجر إذا ازداد في فجوره ازداد غضب الله عليه وكلما ازداد غضب الله عليه كانت العقوبة أشد .
4- وفي ضمن هذه الآيات إثبات صفات الله وأسمائه الحسنى ، فمنها :
أ- أن الله تواب رحيم ، فالتواب على سبيل التضعيف وذلك لكثرة من يتوب عليهم فإن كل ابن آدم خطاء ومن يتوب من هؤلاء الخطائين يتوب الله عليه وهم كثير ولله الحمد .
وأيضاً التواب : من أنه يتوب على العبد مهما أذنب كما في الحديث الصحيح عند الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي ﷺ فيما يحكي عن ربه عز وجل قال : (( أذنب عبدٌ ذنباً . فقال : اللهم اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له ربا يغفر الذنبَ ، ويأخُذُ بالذنبِ . ثم عاد فأذنبَ . فقال : أي رب اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنباً . فعلم أن له ربا يغفرُ الذنبَ ، ويأخذُ بالذنبِ . ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا . فعلم أن له ربا يغفرُ الذنبَ ، ويأخذُ بالذنبِ . اعمل ما شئت فقد غفرت لك )) قال عبد الأعلى : لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة : (( اعمل ما شئت )) (1) .
فهذه الأسماء الكريمة للرب سبحانه وتعالى تدل على كمال رحمته وحبه لتوبة التائبين وقبول توبة التائبين فلا يقنط من رحمة الله عبد وهو على هذا الباب باب التوبة والندم فإن باب التوبة مفتوح لا يقفل حتى تخرج الروح من الجسد أو تطلع الشمس من مغربها قال صلى الله عليه وسلم : (( لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا )) (2) .
وكذلك قول الله عز وجل : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (1) .
ب- من الصفات التي تثبتها هذه الآيات صفة الكلام لله عز وجل وأنه صفة من صفات الله سبحانه وتعالى الذاتية ، أي أن الله يتصف بصفة الكلام وصفاً يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى ، وفي قصة موسى في موضع آخر قال تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (2) فهذا تأكيد بالمصدر ليثبت أنه كلام حقيقي وأنه بحرف وصوت مسموع يسمعه من يشاء سبحانه وتعالى وأنه صفة فعل لله عز وجل كما أنه صفة ذات أي أن الله ذاته متصف بأنه متكلم ، وصفة فعل أي أنه متعلق بمشيئته سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء بما شاء سبحانه وتعالى .
وأما قول بعض المبتدعة أن الكلام صفة أزلية أي غير متجددة إنما هي متعلقة بالذات الإلهية فالله متصف بالكلام ولكنه لا يتكلم الآن ؛ لأن هذا من إثبات الحوادث في الله تعالى وهو غير جائز عقلاً عندهم وهذه هي العقول الفاسدة .
أما العقل الصريح فإنه يوافق النقل الصحيح فأهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه الكريم وما أثبته له النبي صلى الله عليه وسلم على ما يليق بالله عز وجل .
قوله تعالى : {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ( الآيات 57 -59 ) .
الفوائد :
1- في قوله : {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً} أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر .
قال القرطبي – رحمه الله – : هذا في تغيير كلمة عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود هذا والقول أنقص من العمل بالتبديل والتغيير في الفعل .
2- قال القرطبي : استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبُّد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبُّد بلفظها فلا يجوز تبدليها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله . وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه .
3- في قوله : {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} السجود بمعنى الركوع قاله ابن عباس .
وأصل السجود : الانحناءُ لمن تعظمه فكل منحن لشيء تعظيماً فهو ساجد قاله ابن جرير وغيره .
قال ابن القيم – رحمه الله – : وعلى هذا فانحناء المتلاقين عند السلام أحدهما لصاحبه من السجود المحرم . وفيه نهيٌ صريحٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
4- أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجداً وقالوا حطة تغفر لكم خطاياكم فدخلوا الباب يزحفون على استاهم وقالوا : حبة في شعرة . فبدلوا القول والفعل معاً ، فأنزل الله عليهم رجزاً من السماء )) .
قال أبو العالية : هو الغضب . وقال ابن زيد : هو الطاعون .
5- في الصحيحين والترمذي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الطاعون بقيةُ رجز أو عذابٍ أُرسل على طائفةٍ من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فراراً منه وإذا وقع بأرضٍ ولستم بها فلا تهبطوا عليها )) .
وفي رواية لمسلم : (( الطاعون آيةُ الرجز )) .
6- قال ابن القيم – رحمه الله – : وعلى هذا فالطاعون بالرصد لمن بدّل دين الله قولاً وعملاً .
7- في قوله : {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} بيان عظيم منة الله على بني إسرائيل حتى وهم متلبسون بمعصية الله بامتناعهم عن دخول الأرض المقدسة ومعاندتهم لموسى حتى قالوا : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (1) ومع ذلك أنعم الله عليه لما كتب عليهم التيه أنعم عليهم في تلك القفار المدوية بالغمام حتى لا تلهب حرارة الشمس المحرقة أبدانهم ولا تلفح وجوههم .
وهو غمام أبيض كثيف وهو ألطف الغمام وأبرده مع رطوبة وهذا أنفع شيء لصحة الأبدان وأروحه للأرواح .
8- وأنزل عليهم المن وقد ورد في وصفه أنه أبيض من اللبن وأحلى من العسل ولا كلفة عليهم فيه ولا مشقة بل ينزل من السماء من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فيجمعون منه ما يكفي يومهم ولا يدخرون شيئاً إلا ما كان في يوم الجمعة حيث يجمعون ليوم السبت مع الجمعة ؛ لأن يوم السبت يوم عبادة لا يخرجون فيه لعمل ولا كسب .
والسلوى : طائر شبيه بالسماني أو هو السمان يـحـشر إلى منازلهم فيأخذون منه ما يحتاجون لا يستعصي عليهم ولا يحتاجون في أخذه لمشقة ولا كلفة ولا مطاردة .
9- قال المفسرون : إن الله عاقب بني إسرائيل لما ردوا على موسى بذلك الرد القبيح {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} بالتيه أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة .
روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس وإذ كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لـموسى : من لنا بالطعام ؟ فأنزل الله عليـهم المن والسلوى . قالوا : من لنا من حر الشمس ؟ فظلل عليهم الغمام . قالوا : فبم نستصبح ؟ فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم ( وقيل : عمود من نار ) . قالوا : من لنا بالماء ؟ فأُمر موسى بضرب الحجر . قالوا : من لنا باللباس ؟ فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان . والله أعلم .
10- في قوله تعالى : {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أن أعمال العباد الصالحة أو الفاسدة إنما هي لهم كما في الحديث القدسي : (( إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) .
وأما الله تعالى فلا تنفعه طاعة الطائعين ولا تـضره معصية العاصين قال في الحديث القدسي : (( يا عبادي : إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضَرّي فتضروني … )) الحديث .
11- في قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} ما ينبغي أن يكون عليه العالم بربه المقر بفضله من أن كل خير فهو من الله تعالى ويجب أن يقابل بالخضوع والتعظيم لله ومن ذلك النصر على الأعداء والتمكين في الأرض فإنه من الله تعالى وحده ، قال سبحانه : {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (1) .
وفي دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة منصوراً حيث دخل متواضعاً قد طأطأ رأسه حتى لامس الركاب تعظيماً لله وتواضعاً له واعترافاً بفضله وتبرؤاً من الحول والقوة هذا بالفعل .
وأما القول فهو الاستغفار والثناء على الله والإحسان إلى خلق الله حيث عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفح وأطلقهم لله عز وجل ولم يقاتل إلا من أصر على قتال المسلمين أو من تجاوز كفره الحد كالذين أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم ومع ذلك فلما تاب بعضهم واستشفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل فيهم شفاعة الشافعين وعفا عنهم .
ودخل صلى الله عليه وسلم على تلك الحال من الخضوع والتواضع وهو يقرأ قوله تعالى : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } (1) .
بعكس المتكبرين المتغطرسين الذين يدخلون في غاية الكبر والغطرسة والتعاظم والإفساد والإيذاء وقتل الأبرياء والأخذ بالشبه والعقوبة من غير ذنب حتى يكثروا القتل وسفك الدماء وكأنهم عطاش لا يروون إلا بالدماء وجياع لا يشبعون إلا من الأشلاء وأي أشلاء ؟ إنها أشلاء الأطفال والأبرياء من العجزة والمقهورين الذي لا حول لهم ولا طول ولا قدرة لهم على القتال والدفاع فلا إل إلا الله كم الفرق بين رحمة رب العالمين وقسوة الظالمين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1– سورة الزمر الآية (15) .
1- سورة العنكبوت الآية (43) .
1- سورة الأعراف الآية (179) .
2- سورة النساء الآية (137) .
3- سورة المنافقون الآية (3) .
4- سورة الصف الآية (5) .
5– سورة فصلت الآية (17) .
1- سورة التوبة الآيات (56 – 57 ) .
2- سورة التوبة الآية (19) .
3– انظر مصنف ابن أبي شيبة (7/355) .
4– سورة الأنفال الآية (19) .
1- سورة القصص الآية (30) .
2– سورة التحريم الآية (6) .
1- أخرجه الإمام أحمد (1/4 – الطبعة القديمة ) .
2- سورة يوسف الآية (55) .
3- سورة النجم الآية (32) .
1- أخرجه الإمام مسلم في كتاب : الإيمان برقم (194) .
2- سورة ص الآيات (71-72) .
1- سورة الأحزاب الآية (72) .
2– سورة الفرقان الآية (44) .
3– سورة الرعد الآية (23-24) .
1- سورة فاطر الآية (28) .
2- سورة النحل الآية (125) .
1- سورة الحجر الآيات (28 – 29) .
1- سورة يوسف الآية (100) .
2– مسند أحمد بن حنبل (4/381- الطبعة القديمة ) .
1– سورة الصافات الآية (102) .
2- سورة المائدة الآية (32) .
3- سورة الصافات الآية (106) .
1- سورة النساء الآية (125) .
2- سورة الصافات الآية (103) .
3- سورة النحل الآية (116) .
4- سورة الكهف الآية (50) .
5- سورة سـبأ الآيات (40-41) .
2- سورة الأعراف الآية (16) .
1- سورة إبراهيم الآية (35) .
1- أخرجه مسلم برقم (2628) من حديث أبي موسى رضي الله عنه .
2– أخرجه مسلم برقم (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
1– أخرجه البخاري برقم (4202) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وفيه قصة .
1- سورة مريم الآية (93) .
2- سورة التحريم الآية (6) .
1- سورة الأنبياء الآية (20) .
2- سورة فصلت الآية (11) .
3- سورة الإسراء الآية (44) .
4– (2 / 306 – الطبعة القديمة) .
1– سورة البقرة الآية (30) .
2– سورة ص الآية (24 ) .
1- سورة الأنعام الآية (158) .
2- سورة فصلت الآية (46) .
1- سورة فاطر الآية (32) .
2- سورة طـه الآية (115) .
1– سورة الأعراف الآية (23) .
2- أخرجه البخاري برقم (6323) .
1- سورة الزمر الآية (53) .
2- سورة الفرقان الآية (70) .
3- برقم (2758) .
1- كان عمر رضي الله عنه إذا رأى معتوه يقول : أشهد أن الذي خلق هذا وعمرو بن العاص واحد . فكان يضرب بعمر ابن العاص المثل في قوة عقله ورجاحة ذهنه .
1- سورة يونس الآية (62) .
1- أخرجه البخاري برقم (5063) .
2- سورة البقرة الآية (34) .
3- سورة الحجر الآية (39) .
4- سورة النمل الآية (14) .
1- سورة النساء الآيات (168- 169) .
2- سورة الأحزاب الآيات (64- 65) .
1- سورة البقرة الآيات ( 11-12) .
1- سورة البقرة الآية (133) .
1– سورة النحل الآية (18) .
2– سورة النحل الآية (53) .
1- سورة المائدة الآية (20) .
2- سورة البقرة الآية (246 ) .
3- سورة الأعراف الآيات (156- 157) .
1- سورة المائدة الآية (12) .
1- سورة الأنعام الآيات (162 – 163) .
1- سورة البقرة الآية (85) .
2- سورة آل عمران الآية (67) .
1- برقم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
1- سورة الصف الآية (5) .
1- سورة المؤمنون الآيات (1- 2) .
1- يوجد لشيخنا درس بعنوان ( الصلاة خير موضوع ) ذكر فيه أكثر من عشرين كنز من كنوز الصلاة وهو مطبوع يمكن الرجوع إليه والاستفادة منه .
2- سورة المعارج الآيات (19-22) .
3- سورة العنكبوت الآية (45) .
4– سورة طـه الآية (132) .
1– سورة البقرة الآية (87) .
1- سورة النبأ الآية (38) .
1- سورة البقرة الآية (255) .
2- سورة الأنبياء الآية (28) .
3- سورة المائدة الآية (18) .
1- سورة المؤمنون الآية (101) .
2- سورة الشعراء الآية (89) .
3- سورة النساء الآية (48) .
1- سورة الشعراء الآيات ( 53 – 56) .
2- سورة الشعراء الآية ( 61-62) .
1- يوشع بن نون : فتى موسى الذي خلفه من بعده وهو من أنبياء بني إسرائيل العظام وهو الذي أخرج بني إسرائيل من التيه وأدخلهم بيت المقدس وانتصر على العماليق ، وهو الإنسان الوحيد الذي حبس الله له الشمس يوم الجمعة حتى تم له النصر .
1- سورة المدثر الآية (31 ) .
2- سورة فصلت الآيات (15- 16) .
1- سورة الزخرف الآية (51) .
1- سورة الأعراف الآية (142) .
1- أخبار بني إسرائيل لا تُصدق ولا تُكذب وإذا رويت فإنما تروى للاعتبار إن كان فيها عبرة ، أو لم تخالف شيء في كتابنا أو في سنة نبينا e .
2- سورة الأعراف الآية (155) .
1- برقم (2758) .
2- أخرجه أبو داود برقم (2479) .
1– سورة النساء الآيات ( 17 – 18 ) .
2- سورة النساء الآية (164) .
1- سورة المائدة الآية (24) .
1- سورة الحج الآية (41) .
قوله تعالى : {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ( الآيات 60-61) .
1- يذكر الله بني إسرائيل بعظيم نعمه عليهم ولم تكن مجرد نعم من جنس ما يعطي خلقه ويتفضل به عليهم بل هي آيات عظيمة ومعجزات باهرة تثبت اليقين وترفع الإيمان وتسمو بالنفوس وتطهر القلوب من لوثات الوثنية والتعلق بغير الله تعالى .
2- فموسى يستسقي لقومه أي يطلب من ربه السقيا وهذا فيه تجرد موسى عليه الصلاة والسلام من الحول والقوة والتجاؤه إلى الله خالقه ورازقه ليعلم قومه أن الله وحده الرزاق ذو القوة المتين .
3- فيأمره الله تعالى أن يضرب الحجر وهو قادر سبحانه على إخراج الماء من غير ضرب الحجر ولكن أراد أن يربي عباده على بذل الأسباب ويعلمهم سبحانه أنه قد ربط الأسباب بمسبباتها ولكنه سبحانه هو الفعال لما يريد فلا يغتر أحد ببذله الأسباب ولا يبقى خاملاً لا عمل له فموسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء أراهم بالدرس العملي أن يلجأ إلى الله ويدعوه ، وربه أمره بأن يـضرب بعضاه الحجر ، ثم ينفجر الحجر بإذن الله .
4- وما أكثر الأحجار في الأرض وهي يابسة صلبة ولكن أمر الله إذا أراد شيئاً أمضاه فيأمر سبحانه الحجر فينفجر ليس عيناً واحدة ولكن ثنتي عشرة عيناً .
5- آية معجزة فهم كثير وعددهم اثنا عشرة أمة أسباطاً أمما ولو حصروا في عين واحدة لحصلت المزاحمة والمدافعة وربما حصل بينهم شر ولكن لطف الله ورحمته وعنايته جعلت لكل أمة عينا لا يزاحمها فيها غيرهم .
6- وقوله تعالى : {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} هل هو حجر معين فتكون ( أل ) للعهد أم أنه غير معين فتكون ( أل ) للجنس الثاني أبلغ في الإعجاز ؛ لأنه لو كان معيناً لظنوا أن فيه خاصية ليست لغيره من الأحجار والله قادر على إخراج الماء من أي حجر فلم يبق للتعيين فائدة وخاصة أنه لا دليل صحيح على التعيين إلا أخبار إسرائيلية لا يعتمد عليها .
7- وقد من الله على نبينا بأعظم من تلك المعجزة ألا وهي تفجير الماء من بين أصابعه لما احتاج أصحابه إلى الماء وإذا كان تفجير الماء من الأحجار معهود في العموم فإن تفجير الماء من بين الأصابع أمر لا يحدث أبداً إلا تأييداً لنبي الله وخليله صلى الله عليه وسلم .
8- في قوله تعالى : {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} دليل على أن المعاصي وأعظمها الكفر والشرك إفساد في الأرض وخراب لها ودمار على أهلها وإهلاك للحرث والنسل والآيات في هذا كثيرة ، كما في قوله تعالى : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (1) .
ومن ذلك دعاء الدواب في جحورها على عصاة بني آدم إذا وقع القحط والجدب .
9- من سوء عمى بصيرة هؤلاء القوم وسوء اختيارهم لأنفسهم وقلة بصـرهم بالأغذية النافعة الملائمة أنهم كانوا في أفسح الأمكنة وأوسعها وأطيبها هواء وأبعدها عن الأذى ومجاورة الأنتان والأقذار سقفهم الذي يظلهم من الشمس الغمام وطعامهم السلوى وشرابهم المن وهذا من أنفع الأغذية والأشربة وأطيبها فاستبدلوه بالأغذية الضارة القليلة التغذية فذمهم الله بذلك ، فكيف بمن استبدل الضلال بالهدى والغيّ بالرشاد والشرك بالتوحيد والبدعة بالسنة وعبادة المخلوق وطاعته والتفاني في محبته بطاعة الله ومحبته وخدمته والعيش الند الفاني في هذه الدار بحظه من العيش الطيب في المساكن الطيبة في جوار الله تعالى .
10- في الآيات بيان جفاء بني إسرائيل مع ربهم تعالى ومع نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام حيث قالوا : {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ} فكأنهم والعياذ بالله يتبرؤون من ربوبيته لهم وهذا يشابه قولهم : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} (1) .
11- كانت نتيجة العناد والمكابرة أن ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم فهم في الذلة أينما كانوا إلا بحبل من الله إذا تابوا وصلحوا ، وحبل من الناس أي مساعدة من جنس غير جنسهم كما هو الحاصل لهم في هذا الزمان فقد تعاونت معهم ملل الكفر كلها فمنهم من يمدهم بالرجال والمال ومنهم من يمدهم بالسلاح .
ولكن لم يحصل لهم هذا العلو إلا لما فقدت المعركة عاملها المؤثر والفعال وهو الاعتصام بالله والجهاد في سبيله وأصبحت المعركة تدار من مبدأ القومية والدفاع عن الأرض فعاد كل الطرفان إلى الأسباب المادية فتفوق اليهود وأعوانهم لأنهم أكثر استعداداً للمعركة وأصدق في مواجهتها .
12- تشتمل الآيات على إثبات صفات الله الذاتية الفعلية منها السمع والبصر والكلام والغضب .
13- ومنها أن الله ربط الأشياء بأسبابها ولكن لله التـصرف المطلق في الأسباب والمسببات سبحانه لا إله إلا هو .
14- ومنها أن أحكام الله القدرية والشرعية لحكم بالغة وإن خفيت على الخلق .
قول الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ( الآيات 62 – 66) .
1- أثبت الله في هذا السياق أن الأمور عنده سبحانه ليست بالدعاوى ولا بالشعارات وإنما هي بالحقائق والبراهين وأن النجاة عنده سبحانه لها مسوغ واحد وإن اختلفت الأسماء وتعددت الملل واختلفت النحل وتفاوتت العصور والدهور هذا المسوغ لا يختلف في أمة عن أمة ألا وهو الإيمان بالله والعمل الصالح والإيمان بالله في ثناياه تحقيق العبودية الحقة لله وتجريد الإخلاص له سبحانه مع الإيمان برسله عليهم الصلاة والسلام وعدم التفريق بينهم ، فمن زعم أنه مؤمن وهو يفرق بين موسى وعيسى فليس بمؤمن عند الله ومن زعم أنه مؤمن وهو يفرق بين عيسى ومحمد فليس عند الله بمؤمن .
وهكذا يكون الدين الخالص لله تعالى الذي هو سبيل النجاة والسلامة في العاجل والآجل الإيمان بما أوجب الله به وعدم التفريق بين رسل الله صلى الله عليهم وسلم والعمل الصالح الذي لا يتم الإيمان إلا به ولا يتحقق الإيمان بالرسل إلا بالعمل الصالح الذي جاءوا به على حسب كل أمة رسول وما كلفت به حتى إذا وصل الأمر إلى زمان بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك عمل صالح يرضاه الله ويثيب عليه إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن زعم بعد بعثته أنه مؤمن بموسى أو بعيسى عليهما الصلاة والسلام ولم يتابع محمداً صلى الله عليه وسلم فهو عند الله كافر وهو من أصحاب النار قال صلى الله عليه وسلم : (( والذي نـفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي وبما جئت به إلا كان من أصحاب النار )) أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
2- يستمر السياق القرآني في تعداد معاندات بني إسرائيل ومن ذلك أنهم كلفوا بالتوراة فلم يعملوا ولم يذعنوا فرفع الله عليهم الطور وهددهم بإسقاطه عليهم وعند ذلك أذعنوا وسجدوا ولما نحاه عنهم تولوا عن الالتزام وراغوا من الميثاق فسبحان اله ما أشد عنادهم وبغيهم وما أكثر صب الله عليهم وما أعظم نعمه عليهم .
3- وتكشف الآيات تحيلهم على ارتكاب المحارم واتباع الشهوات في قصة أصحاب السبت وكيف نكل الله بهم وأخزاهم بأن مسخ من فعل ذلك الفعل قردة وخنازير ليكون بذلك عبرة وموعظة لمن حولهم ومن يأتي بعدهم .
4- وهذا يدل على خطر التحايل على شرع الله وتحليل ما حرم الله وأن الناس إذا تتابعوا على فعل المحرمات يوشك أن ينزل بهم البلاء ولا ينجوا منه إلا من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر واعتزل أصحاب الفساد .
5- ويدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمنة لأهله من الهلاك والعذاب .
6- وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة سيحصل فيها المسخ والقذف والخسف إذا استحلت محارم الله وشربت الخمور وفشا الزنا واستحل الغناء .
7- ومعنى ذلك أن الضمان هو الإيمان والعمل الصالح فلا يغتر مفسد بأنه من أمة محمد وهو عاص لله مرتكب لمحارم الله وإلا فإنه سيكون متشبهاً بمن قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه واتكأوا على تلك الدعاوى مع العصيان وارتكاب المحرمات حتى مسخوا قردة وخنازير وحصل لهم ما قصه الله عنهم في كتابه ليكون عظة وعبرة لغيرهم ممن يريد أن يسلك مسلكهم ومع ذلك يظن أنه لا يصيبه ما أصابهم .
قال الله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (الآيات 67 – 74 ) .
1- أن الواجب على جميع الخلق الرجوع إلى الله وإلى الرسل عليهم الصلاة والسلام في حياتهم وإلى سنتهم وإلى العلماء الراسخين في الكتاب والسنة وذلك عند الاختلاف .
قال الله تعالى : {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } (1) .
وقال تعالى : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }(2) وهذا الحكم كما هو بين في شريعتنا ودل عليه الكتاب والسنة فهو في شرائع الأنبياء السابقين وفي هذه القصة التي قصها الله علينا من أخبار بني إسرائيل ما يدل على ذلك فقد قتل القتيل واختلفوا فيه ولما ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ( موسى ) نزل حكم الله ليبين لهم ما اختلفوا فيه .
ولا يمكن أن يحصل للأمة أمر تحتاج فيه إلى بيان إلا وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بيانه ولكن فوق كل ذي علم عليم .
وما حصلت الكوارث للأمة إلا لما غفلت عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تطلب حلول مشاكلها منها .
2- في الآيات بيان أن الأمر المطلق للوجوب وأنه يقتضي الفورية لأن الله عنف بني إسرائيل على تأخرهم عن تنفيذ أمره وشدد عليهم بسبب ذلك .
3- أن التنطع في الدين وكثرة الأسئلة خاصة في زمن الوحي محرمة شرعاً ومضرة لما تؤدي إليه من التشديد وزيادة التكاليف قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن أشد لناس جرماً في الناس من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته )) (3) .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال .
4- بيان ما كان عليه أولئك القوم من سوء أدب مع أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام فموسى كليم الله وهو أفضل أنبيائهم وهو من أعظم المرسلين عليهم الصلاة والسلام ومع ذلك ردوا عليه لما أخبرهم بأمر الله بقولهم الشنيع : {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} .
5- بيان الآيات أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبعد الناس عن الجهل والمتمثل في السخرية والاستهزاء بالغير ولذا رد عليهم بقوله : {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} لأن الاستهزاء والسخرية بالآخرين لا تصدر إلا من جاهل ومعتدي وقد عاذ بربه تعالى والجأ إليه أن يكون من ذلك الصنف من الناس .
6- وإذا كان موسى كليم الله عليه الصلاة والسلام يلتجئ إلى الله من الأخلاق السافلة ويحتمي بجنابه تعالى من أن يتصف بها فهذا يدل على أن لا أحد له غنى عن الله تعالى في حفظه وعصمته من كل ما يؤذي من الأخلاق الذميمة والأعمال الفاسدة والـشرور الظاهرة والباطنة .
فالذين يلتجئون إلى غير الله في دفع الشرور عنهم أو جلب النفع لهم يخالفون هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويتعلقون بأوهى من خيوط العنكبوت فلا يزدادون عن قضاء حاجتهم إلا بعداً ولا يزدادون بدعوة غير الله إلا حرماناً نسأل الله السلامة والعافية .
7- بركة رد الأمور إلى الله عز وجل فإن بني إسرائيل لما قالوا : {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} وفقوا لعمل ما طلب منهم وقد قال بعض المفسرين : أنهم لو لم يقولوها لم يوفقوا لذلك ، وقد أدب الله نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يقول إن سأفعل شيء إلا بربطه بمشيئة الله تعالى ، وقال سبحانه : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (1) .
وقد أخرج البخاري (1) ومسلم (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أن سليمان عليه الصلاة والسلام قال : لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لو قال إن شاء الله لكان دَركاً لحاجته ولقاتلوا في سبيل الله )) .
وهذا فيه التبرؤ من الحول والقوة إلى الله تعالى وإلى مشيئته سبحانه وهذا من أعظم العون ….
إذا لم يكن عون من الله للفتى
فــأول مـا يـجــني عــلــيه اجـــتهــــاده
8- إظهار معجزة لموسى عليه الصلاة السلام وفيها إظهار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى وأنه لا يعجزه شيء سبحانه وأنه كما بدأ الخلق يعيده .
9- في القرآن أربعة مواطن أحيا الله فيها الموتى :
أ – ما في هذه القصة .
ب – القوم الذين خرجوا من ديارهم خشية الموت فأماتهم الله ثم أحياهم في سورة البقرة .
ج – الرجل الذي مر على قرية وهو خاوية على عروشها .
د – طيور إبراهيم عليه الصلاة السلام .
هـ – وقصة خامسة سبقت وهي إحياء قوم موسى لما صعقوا بعد سؤالهم رؤية الله تعالى .
10- سوء أدب أولئك القوم مع نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام وكم لقي منهم من العنت حيث قالوا : {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} فكأنهم هم الذين يحكمون على ما جاء به موسى من كونه حقاً أو باطلاً وهذا يدل على كبريائهم وغطرستهم نسأل الله العافية .
11- إحاطة الله التامة بخلقه وعلمه بما ظهر وما بطن ولا تخفى عليه سبحانه خافية : {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } وقال تعالى : {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
قال تعالى : {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} (1) .
12- وهذا في ثناياه التحذير من أن يسر الإنسان سريرة سيئة لا يرضاها الله فإن الله محيط به وعالم بما أخفى وما أعلن .
13- في الآيات أن الجمادات تعرف الله وتخشاه وتلين وتهبط من خشيته فهي بهذا خير من قلوب المعاندين والمتكبرين الذي فاقت قسوة قلوبهم قسوة الحجارة : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (2) .
ويليه تفسير الآيات من ( 87 – 125) من سورة البقرة
لعام 1418هــ
تأليف
علي بن عبدالرحيم الغامدي
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} (البقرة 87 – 88) .
قال القرطبي – رحمه الله : ثم بين أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه .
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله : {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} فهذا لذي تسميه النظار والفقهاء التشهي والتحكم فيقول أحدهم لصاحبه : لا حجة لك على ما ادعيت سوى التشهي والتحكم الباطل فإن جاءك مالا تشتهيه دفعته ورددته وإن كان القول موافقاً لما تهواه وتشتهيه إما من تقليد من تعظمه أو موافقة ما تريد قبلته وأجزته فترد ما خالف هواك وتقبل ما وافق هواك وهذا الاحتجاج والذي قبله مفحمان للخصم لا جواب له عليه البته فإن الأخذ ببعض الكتاب يوجب الأخذ بجميعه والتزام بعض شرائعه يوجب التزام جميعها ولا يجوز أن تكون الشرائع تابعة للشهوات إذ لو كان الشرع تابعاً للهوى والشهوة لكان في الطباع ما يغني عنه وكانت شهوة كل أحد وهواه شرعاً له .
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } (1) .
وفي قوله : {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} رجح الإمام ابن القيم أن المقصود هو ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة ومجاهد – رحمهما الله – : على قلوبنا غشاوة فهي أوعية فلا تعي ولا تفقه ما تقول .
ثم قال : فإن قيل فالإضراب ببل على هذا القول الذي قويتموه ما معناه ؟
قيل : وجه الإضراب في غاية الظهور وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفته بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقه فكيف تقوم به عليه الحجة ؟
وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف فهم معذورون في عدم الإيمان فأكذبهم الله وقال { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } (1) وفي الآية الأخرى : {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } فأخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم وآثروه على الإيمان فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة .
والمعنى لم نخلق قلوبهم غلفاً لا تعي ولا تفقه ثم نأمرهم بالإيمان وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها . ا . هـ
قال الشيخ الدوسري : وقد كذبهم الله بذلك لأن دعواهم مخالفة للحس والنقل ذلك أن الكفر والجريمة لا يولدان مع الإنسان وإنما هما أمور عارضة ناشئة عن غلبة شهوة أو نزوة هوى أو وسوسة شيطان أو تأثير قرين سيئ وإلا فالله يقول في الحديث القدسي : (( إني خلقت عبادي حنفاء وإن الشياطين اجتالتهم فأخرجتهم عن دينهم )) .
ويـقول النـبي صلى الله عليه وسلم : (( كل مـولود يولد على الفطرة فأبـواه يهودانه أو ينـصرانه أو يمجسانه )) فاتضح بهذا أن القلوب جميعها ليس عليها غلاف في الأصل ولكن يطرأ عليها من رين الإصرار على المخالفات ما يقسيها ويطبع عليها حتى لا تنتفع بالخير ولا تتأثر بالمواعظ ولا تهزها العبر أو توقظها الأحداث فكأن الفسق أو الكفر طَبْعٌ لهم وسجية لما ران على قلوبهم من زيغ المخالفات . ا . هـ
قوله تعالى : {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} ( الآيات 89 – 92) .
قال ابن عباس : لم يكن كفرهم شكاً ولا اشتباهاً ولكن بغياً منهم حيث صارت النبوة في ولد إسماعيل . ا . هـ
قال الشيخ الدوسري : فكفرهم في غاية القبح والحماقة بل من أشد أنواع الكفر لأنه ليس ناشئاً عن جهل أو تقليد للآباء أو تأثراً بالبيئة وإنما هو ناشئ عن سوء سريرة وخبث طوية …. إلى أن قال : لأنهم كفروا بما جاء مصدقاً لما معهم ولأنه معروف لديهم غاية العرفان ولأنهم يستفتحون به قبل مجيئه على الكافرين المحاربين لهم فلو لم يكونوا يعرفوه ولم يستفتحوا به لهان الأمر ولو لم يكن مصدقاً لما معهم بل معاكساً لكان لهم مساغ طائفي أن تأخذهم العزة بالإثم ولكن الذي حصل خلاف ذلك ، كل الذي حصل يدينهم ويرغمهم على أنوفهم لو كانوا يقصدون الحق أو يلتفتون إليه ولكن موقفهم موقف العناد والاستكبار ، بل موقفهم موقف المضادة لله إنهم يطالبون الله أن يكون هذا النبي منهم ليس من العرب وأنهم ناقمون من الله أن يختار لرسالته ما يريده دون ما يريدون … إنه تطاول على الله واستدراك على الله وانتقاد لمشيئته وطعن في حكمته وحسد لمن اصطفاه من عباده .
قوله : {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي بئس ما باعوا به أنفسهم وهو اللعنة والغضب من الله ، وإذا كانوا لم يعرفوا ثمن أنفسهم فباعوها باللعنة والغضب فكيف سيرشدون غيرهم ؟!
قول الله تعالى : {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} ( الآية (99) .
1- أن القرآن لا يحتاج إلى آية تبينه وتشهد له فهو في نفسه يشهد لنفسه فآياته علامات واضحات مستغنية بنفسها عن غيرها .
2- إثبات علو الله على خلقه جميعاً ومباينته لهم كما أثبت الله ذلك لنفسه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
3- ليس من تنزيه الله رد كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم المتضافر والمتواتر على إثبات صفاته سبحانه على ما يليق بجلاله .
4- انخداع بعض الصالحين بظواهر الألفاظ الخداعة ككلمة التنزيه فبسببها انطلى على كثير من العلماء الصالحين باطل أهل التعطيل والتحريف لكلام الله ورسوله وردهم مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك مكر أولئك الشياطين بنبزهم من يثبت كلام الله ورسوله على ظاهره على الوجه اللائق بالله تعالى بأنه مجسم وحشوي وخارجي وغير ذلك لينفروا من مذهب الحق والهدى .
وقوله تعالى : {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ( الآية100) .
1- العهود التي نقضوها منها ما هو ضمني كإظهار الدلائل الواضحة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن ظهور تلك الدلائل كعهد ضمني يوجب عليهم الإيمان به .
ومنها العهد القولي الذي كانوا يكررونه للمشركين من الاستفتاح بمحمد صلى الله عليه وسلم .
ومنها نقضهم للعهود كما كانوا ينقضونها مع النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} (1) .
2- النبذ هو الطرح والإلقاء ، والمقصود أنهم لما كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم هو نبذ للتوراة .
قوله تعالى : {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ( الآية 102) .
1- أن سليمان نبي كريم معصوم من الكفر .
2- أن السحر كفر تعلماً وعملاً وتعليماً ولكن يفرق بين السحر الحقيقي وغيره على ما في أمر السحر من تفصيل .
3- حد الساحر القتل ، قال الإمام أحمد – رحمه الله – : صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
4- أن الله أنزل الملكين فتنة وابتلاء واختبار للناس .
5- أن المخلوق متعبد بأمر الله وحق الله عليه الطاعة ولو كان العمل في نفسه باطلاً مثال ذلك : أمر الملائكة بالسجود لآدم وأمر إبراهيم بذبح ابنه .
فالملكان نزلا بأمر الله لتعليم الناس السحر فهما مطيعان لله ولو كان السحر في نفسه محرم وباطل وكفر ، والحجة في تحذيرهما فهما لا يعلمان أحد حتى يحذرانه ويخبرانه بحقيقة أمرهما ، وإنما هما فتنة وأن تعلم السحر كفر .
6- وهذا يقودنا إلى أمر آخر وهو أن الله عز وجل قد يـيسر للإنسان أمر المعصية وأسبابها ابتلاءً واختباراً .
7- أن السحر له حقيقة وأنه سبب من الأسباب التي خلقها الله وأوجدها في هذا الخلق ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( … أما أنا فقد شفاني الله … )) (1) والشفاء لا يكون إلا برفع العلة وزوال المرض .
والسحر أيضاً أنواع وتقاسيم ومنه سحر قوم فرعون قال تعالى : { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (2) وقال تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (3) .
8- أنه كبقية الأسباب متعلق بمشيئة الله فإن شاء الله حصل أثره وإن لم يشاء الله لم يتحقق ، فالإيمان بالقضاء والقدر من أكبر قواعد العقيدة وقوته في القلوب سبب قوة المسلمين فبه هانت الصعاب ولم يبالوا بعدو .
9- أن المعيذ من الشرور هو الله فيجب على الخلق اللجوء إلى الله والاحتماء بجنابه سبحانه ، قال تعالى : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } .
وقال تعالى : {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (1) .
10- عظيم ضرر السحر على الساحر فكسب خبيث وخطر محيق به وغضب من رب العالمين وخسران الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين نسأل الله العافية .
فهو في الدنيا من أفقر الناس ومن أحقر الناس ولا يأنس إلا بالقاذورات والنجاسات ، ولو أن المغفلين الذين يأتون إلى الساحر لينفعهم نظروا إليه ببصيرة لعلموا أن فاقد الشيء لا يعطيه .
لكن كما قال تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}(2) .
11- أثر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إسناده جيد كما قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – فإذا صح عنها فهذا يستدل به من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال .
12- وأثر علي رضي الله عنه (1) فيه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين . ولكن هل الدخول هنا اختيار أم اضطرار كالمسافر الذي ليس له طريق غيرها ولا منصرف عنها وفي هذا تنبيه إلى خطورة ما يفعل اليوم من تفقد الآثار وتنظيم الرحلات لذلك الغرض ولا حول ولا قوة إلا بالله .
قـوله تـعالى : {يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُـولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَـافِـرِينَ عَـذَابٌ أَلِيمٌ} ( الآية104) .
1- التحذير الشديد من مشابهة الكافرين سواء في الأقوال أو الأفعال ومن تشبه بقوم فهو منهم .
2- نداء المؤمنين بأخص أوصافهم لأنهم المنتفعون بخطاب الله تعالى والعاملون بأوامره .
3- جهالات اليهود وضلالاتهم ليس لها حدود من هذا تقصدهم للألفاظ المشتملة على المعاني السيئة أو المحتملة لذلك .
فكلمة راعنا تحتمل معنى الرعاية والحفظ وكذلك معنى الرعونة والطيش .
4- الواجب على المؤمنين الوقوف مع كتاب الله حيث أوقفهم فلا يجوز للمؤمنين استخدام الألفاظ التي تحتمل معاني سيئة لأن ذلك من التشبه باليهود .
5- في الآية دليل على قاعدة سد الذرائع وهذا أصل دل عليه الكتاب والسنة والذريعة هي الأمر المباح الذي يتوصل به إلى الأمر الممنوع .
6- عظيم حق النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين في حياته وبعد مماته فأما في حياته فبالسمع والطاعة وعدم التقدم بين يديه وعدم رفع الصوت بحضرته وعدم الذهاب من حضرته إلا بعد الاستئذان إلى غير ذلك مما في كتاب الله تعالى .
وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فبإتباعه والسير على هديه وسنته وعدم تقديم قول أحد على قوله ولا هدي أحد على هديه وتدارس سنته ونشرها بين الناس .
وتعظيم حملة سنته من العلماء العاملين الداعين إلى هديه صلى الله عليه وسلم فهم ورثته نسأل الله بمنه وكرمه أن نكون منهم .
قوله تعالى : {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ( الآية (105) .
1- حرص الأعداء من أهل الكتاب خاصة والكفار عامة على حرمان المسلمين من كل خير وأن يكونوا كالسائمة لا تهتدي إلى خير ولا تصل إلى رشد وهذا ليس خاصاً بزمان دون زمان أو مكان دون مكان .
2- عظيم فضل الله وعنايته بالمؤمنين حيث شخص لهم أعداءهم وكشف مؤامراتهم وأهدافهم وهتك أستارهم حتى أصبح المؤمنون يعرفون جميع ألاعيبهم وما تكن صدورهم من الحقد والغل والحسد .
3- من كره الخير للمؤمنين عامة أو لطائفة منهم أو لفرد من المؤمنين فإن فيه شبه من اليهود نعوذ بالله من حالهم .
4- التفسير الصحيح للحسد كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ليس أن يتمنى الإنسان زوال نعمة الله على غيره ولكن هو أن يكره الإنسان ما أنزل الله على غيره من الخير سواء تمنى زواله أو لم يتمن .
5- في هذه الآية إثبات مشيئة الله قال تعالى : {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} وأفعال الله صادرة عن مشيئة منه عز وجل وكذلك أفعال العباد صادرة عن مشيئة الله وإذنه سبحانه .
ومن ذلك إعطاءه سبحانه من يشاء ومنعه من يشاء فهو سبحانه يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم نسأل الله العظيم من فضله .
قول الله تعالى : {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} ( الآيات 106- 107) .
1- اعتراض اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم الدين على أحكام الله القدرية والشرعية .
2- حملة التشكيك للمسلمين بسبب تحويل القبلة وغيرها حسداً وبغياً .
3- ثبوت النسخ عقلاً وشرعاً سواء نسخ شريعة بشريعة أو نسخ في الشريعة الواحدة .
4- النسخ يكون بنسخ التلاوة وبقاء الحكم كآية الرجم كما أخرج البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ويكون بنسخ الحكم وبقاء التلاوة مثل قوله تعالى : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) .
ويكون بنسخهما جميعاً التلاوة والحكم كما في حديث عائشة رضي الله عنها : (( كان فيما أنزل من القرآن عـشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ )) أخرجه مسلم .
5- أن الخيرية في النسخ بما هو في مصلحة المكلفين فإما أن يخفف عنهم وإما أن يزدادوا أجراً وثواباً ورفعةً .
قوله : {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الآيات ( 109 – 110) .
1- الحسد المذموم أن تكره ما أنزل الله من نعمة على أخيك سواء تمنيت زوالها أم لم تتمنى هذا القول الصواب كما قرره شيخ الإسلام بن تيمية – رحمه الله .
وخطره يتمثل في الاعتراض على الله في خلقه وتدبيره واتهامه في حكمته سبحانه وعلمه ثم إنه بغي واعتداء وظلم لأخيه .
والمحمود الغبطة في فعل الخيرات قال صلى الله عليه وسلم : (( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه الله على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها )) .
وهذا هو التنافس في الخير قال تعالى : {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (1) .
فائدة : واليهود إنما حسدوا المؤمنين لعلمهم أن الإسلام هو الحق وأن وراءه السعادة في الدارين ولكنهم شق عليهم أن يتبعوهم فتمنوا أن يحرموا هذه النعمة ويرجعوا كفاراً كما كانوا حتى لا يصلوا إلى خير في الدنيا أو في الآخرة .
ويزداد حقدهم وحسدهم لعلمهم أن نعمة الإسلام ستعز المؤمنين وستدخل جميع الأمم تحت سلطانهم وسيادتهم بمن فيهم اليهود .
2- إذا كان أوائل اليهود والنصارى يودون لو ارتد المسلمون وصاروا كفاراً فإن أواخرهم في هذا الزمان عملوا على تخطيط ردة جديدة وجاهلية جديدة مصطبغة بشتى الأسماء والألقاب أمثال : الاشتراكية والبعثية والقومية والعلمانية ، إلى آخر ما أنتجته تلك المخططات ولكل مذهب منها دعاة بتحضيض من اليهود والنصارى وتمويل سخي خفي وليتأمل المسلم هذه الأحزاب الكافرة الناشرة للكفر والدعم الرهيب لوسائلهم مع غرابة وجهالة المصادر .
ومن ذلك الحملات المسعورة لتنصير المسلمين واستغلال الفقر والكوارث والفتن والحروب في محاولة إخراج المسلمين من دينهم .
3- قوله تعالى : {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} نُسخ بالأمر بالقتال كما في قوله تعالى : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) .
فائدة : في قوله تعالى : {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} تأصيل لمبدأ أن المؤمن لا يتقدم بين يدي الله ورسوله حتى لو ظلم ولو أوذي بل عليه أن يتعبد لله في كل موقف وفي كل وقت بما تعبده الله به من غير استعجال ولا تقدم على الله ورسوله .
4- إثبات عموم قدرة الله عز وجل ولا يستثنى من هذه القضية الكلية العامة شيء فالله قادر على كل شيء في السماء وفي الأرض وفي الدنيا وفي الآخرة وسواء كان موجوداً أو معدوماً وظاهراً أو خفياً فالله قادر عليه .
5- الأمر بإقامة الصلاة لا يتم إلا باستيفاء الشروط والأركان والواجبات والهيئات كما في كتاب الله وكما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) .
6- وإيتاء الزكاة ، إعطاءها مستحقيها كما شرع الله لمن شرع الزكاة لهم وقد قرنت الزكاة بالصلاة في مواضع عديدة لأن الصلاة حق الله والزكاة إحسان إلى خلق الله ولا تستقيم حياة المسلمين أفراداً أو جماعات إلا بإيفاء هذين الحقين حتى تتحقق عبوديتهم لله وأخوتهم الدينية الشرعية بأن يكونوا كالجسد الواحد .
7- ختم الله هذه الآية بوعده الصادق أنه لن يضيع عمل العامل فما قدمه الإنسان من الخير سيجده عند الله أحوج ما يكون إليه موفراً ومدخراً بل ومضاعفاً .
8- وذكر بعض صفاته العظيمة وأنه بما يعمل عباده بصير سواء عملوا خيراً أو شراً وهذا فيه تحذير من مخالفة أوامره والوقوع في مناهيه والتقصير في حقه .
قوله تعالى : {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة 111 – 113).
1- بيان حالة جديدة من أحولهم المنبثة عن الغرور والتعالي والدعاوى الباطلة المبنية على الأماني الكاذبة والأوهام الخالية .
فهم كما ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه زعموا أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة وكما زعموا أنهم شعب الله المختار يزعمون هنا بأن الجنة خاصة بهم ولا يدخلها غيرهم فأكذبهم الله كما أكذبهم في سائر دعاواهم .
2- في قـوله تعالى : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } تبكـيت لهم وإخزاء لوجوههم وفيه أن كل من ادعى دعوى من غير دليل فهو كاذب ؛ لأنه أسلوب متضمن للشرط ومعناه .
3- بين الله الأسباب الموجبة للجنة وهي التوجه إلى الله وقصده وحده بالأعمال المشروعة الموافقة لدينه وهدى نبيه صلى الله عليه وسلم .
4- هذه الآية دليل لأهل السنة أن الإيمان اعتقاد وعمل .
5- وهي دليل على القاعدة الدينية العامة وهي أن رحمة الله وجنته ليست موقوفة على شعب دون شعب أو أمة دون أمة وإنما هي مبذولة لكل من يطلبها ويعمل لها عملها .
6- إبطال وتكذيب الدعاوى الأممية الشعوبية التي تحـصر الخير في شعبها أو أمتها وتنفي أي خير وتسلب أي فضيلة عن غيرهم .
7- مع أن اليـهود والنصارى في الأصل ملة واحدة وأمة واحدة فالتوراة بـشرت بعيسى وعيسى جاء بدين أصله التوراة ومع ذلك افترى المحرفون من أتباع الدينين على التوراة والإنجيل الكذب والباطل حتى وصل بهم إلى جحود نبوة موسى من النصارى وجحود نبوة عيسى من اليهود .
فإذا حصل ذلك بينهم مع ما بين الدينين من الترابط فكيف بتعاملهم مع غيرهم .
8- في الآية الأخيرة إثبات الجزاء يوم القـيامة { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } والإيمان باليوم الآخر وفي ضمنه الإيمان بالقيامة أحد أركان الإيمان الستة .
قال تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ( الآية114)
1- ذكر الله هذه الآية ضمن الآيات التي يتكلم بها عن بني إسرائيل لأن الاجتراء على حرمة المساجد والسعي في خرابها معنوياً ( وحسياً أيضاً ) هو من أعمال اليهود ( والنصارى ) المباشرة وغير المباشرة فإن تمكنوا خربوها حسيّاً كما فعل النصارى ببيت المقدس ( ومساعدتهم لبختنصر في فعله ) الشنيع بتخريب بيت المقدس وتدنيسه وكما فعل اليهود قبل ذلك وبعد من التخريب المعنوي .
تنبيه : حادثة بختنصر كانت قبل المسيح عليه السلام ولكن النصارى أغروا ملك الروم بنطس الوثني بالإغارة على اليهود فدخل بيت المقدس وخربها حتى أصبحت تلاً من التراب وهدم هيكل سليمان عليه السلام حتى لم يبق منه إلا بعض الجدر المدعثرة وأحرق ما كان عند اليهود من التوراة وكان ذلك بعد المسيح بسبعين سنة وذلك انتقاماً من أفعال اليهود بهم وسعيهم لقتل المسيح ولكن الله أنجاه منهم ورفعه إليه .
وربما قصد المؤرخون أيضاً ما حصل من أدرينال الروماني الذي جاء بعد المسيح بمئة وثلاثين سنة وبنى مدينة على أطلال أورشليم وزينها وبنى هيكلاً للمشتري على أطلال هيكل سليمان وحرم على اليهود دخول هذه المدينة وجعل جزاء من يدخلها القتل وكان اليهود يسمونه بختنصر الثاني لما لاقوه من شدة ظلمه وبطشه.
2- ويـتضح تكـريسهم لهذا التخريب لبيوت الله وتدنيسها بالنظر إلى فعل تلامذتهم من الشيوعيين والبعثيين والقوميين فكم فعلوا وكما يفعلون ولا يزالون لتخريب مساجد الله حسياً ومعنوياً لمنع ذكر الله في الأرض .
تنبيه : ولنتذكر أخص تلامذة اليهود بل أبناءهم الحقيقيون القرامطة الذين دخلوا المسجد الحرام فهدموا الكعبة المشرفة ونقلوا الحجر الأسود إلى ديارهم وقتلوا الحجاج وطمروهم في بئر زمزم ومنعوا الحج سنوات عديدة .
3- ومن ذلك فعلهم لمنع تعليم توحيد الله وإخلاص العبادة له مع سماحهم لمن يعلم ويدعو إلى الوثنية والقبورية وغيرها من الباطل الصاد عن ذكر الله .
4- ومن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، التشدد والتنطع والإرهاب الحقيقي من قول كلمة الحق والصدح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجج تافهة من أجل تمرير المخططات اليهودية والنصرانية لتمييع قضايا الدين وإيهان الدين في نفوس أهله والتشكيك في أصول الإسلام وثوابته .
5- ومن منع المساجد أن يذكر فيها اسم الله منع المؤهلين من القيام عليها وتسليم أزمتها إلى الجهلة بل والفسقة .
6- وفي سبيل ذلك تقليص ما يتعاطاه الأئمة والمؤذنون وجعلهم يعيشون حياة الفاقة والحاجة وإسقاط قيمتهم أمام الناس ( أهل الموازين الدنيوية ) .
7- في قوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خربها فالآية مشعرة بأن ظلمه من أعظم الظلم .
تنبيه : لا يدخل في الظلم هدم مسجد الضرار وما بني لتفريق المصلين وكذلك ما بني على القبور وما شيد من قباب فإن هذه معاكسة لذكر الله والتوجه إليه سبحانه فإنها إنما تقام لتعبيد خلق الله لغير الله .
8- الجزاء من جنس العمل فكما سعى أعداء الله إلى إخافة قاصدي مساجد الله لعمارتها بذكره فقد حكم الله فيهم بأن يُخافوا فلا يدخلوها إلا خائفين وهذا الخوف إما شرعي وهو للكافرين : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (1) .
وقال تعالى : {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } (2) وغيرها من القرآن .
وأما كوني وهو ما ضرب الله به أهل النفاق المعادين لبيوت الله وأهلها من الخوف والوجل من المساجد وما فيها من ذكر الله وشعائر دينه . ولله الحكمة البالغة .
9- قوله تعالى : {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} بأمور ، منها :
– العقوبات التي تنزل بهم من تسليط أوليائه ونـصرهم على الصادين عن المساجد وعمارتها .
– ومـنها : الجزية والذلة والصغار الذي يضرب عليهم كما حصل لليهود والنصارى ومشركي العرب والصليبيين وحزب القرامطة المجرمين .
– ومنها خذلان أولئك الحكام الساعين في منع المساجد أن يذكر فيها اسم الله في أحكامهم وسياستهم فتتفاقم المشاكل عليهم ويفسد نظامهم فإذا ماتوا لم يذكروا إلا باللعن والاحتقار حتى من أنصارهم في ظلمهم .
وإما بالعذاب العظيم فهو وعيد الله في الآخرة وذلك أشد وأنكى نسأل الله السلامة والعافية .
قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (الآية 115) .
1- عموم ملك الله سبحانه لكل مـخلوق وخص المشرق والمغرب إما للتشريف وإما للمناسبة حيث ذكر التوالي بعدهما وإما لأن العالم منحصر بين هاتين الجهتين وتقديم الخبر في قوله :{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} يفيد الاختصاص والحصر فليس لأحد غير الله الملك المطلق .
2- الوجه يأتي ويراد به صفة من صفات الله الذاتية وهي الوجه اللائق به سبحانه كما أخبر عن نفسه وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم .
والمعطلة يقول بعضهم : الوجه بمعنى الذات .
وبعضهم يقول : ثوابه وجزاءه فجعل هؤلاء مخلوقاً منفصلاً ، وأقوال المعطلة باطلة وهي تحريف لكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم (1) .
3- اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية :
– فمنهم من قال : أنها نزلت رداً على اليهود عندما اعترضوا على تحويل القبلة إلى الكعبة بعد بيت المقدس .
– وقيل : أنها نزلت في صلاة التطوع إلى غير جهة القبلة حيت توجهت الراحلة .
– وقيل : أنها فيمن يجتهدون في القبلة فيخطئون فإن صلاتهم صحيحة إما لغيم أو ظلمة أو غير ذلك .
– وقيل : أنها نزلت قبل الأمر بتوجه إلى قبلة معينة .
والصحيح أنها محكمة وليست بمنسوخة وأن حكمها باق في التنفل وفي السفر وفي مسايفة العدو سواء في التطوع أو الفرض وكذلك المريض والمصلوب ومن خفيت عليه القبلة لسبب من الأسباب .
4- إثبات سعة علم الله وصفاته وعظمتها وكذلك سعة فضله وجوده وإثبات علمه سبحانه الكامل وهذا يتضمن التحذير من مخالفة الله بترك أوامره أو فعل نواهيه لأنه يعلم سبحانه بذلك وهذا يقتضي الحذر منه سبحانه لمن آمن بذلك وأيقن .
5- في هذه الآية من سماحة الإسلام ورفع الحرج عن الأمة ما ينبغي شكر الله عليه كما فيها رفع الآصار التي كانت على من كان قبلنا ومن ذلك أنهم كانوا لا يصلون إلى في هياكل ومعابد لا تصح لهم صلاة بدونها .
قوله تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ( الآيات (116- 117) .
1- القائلون بالولد لله – سبحانه وتعالى عما يقول المفترون – طوائف :
أ- اليهود قالوا : عزير ابن الله .
ب- النصارى قالوا : المسيح ابن الله .
ج- مشركوا العرب قالوا : الملائكة بنات الله .
د-الفلاسفة قالوا : بالعقول المتولدة من العقل الفعال وهذه العقول هي مدبرة الكون .
هـ – البوذيون يقولون : بوذا ابن الله .
و- وقال أهل وحدة الوجود : أن الخلق هو الخالق ، تعالى الله عما يقول المبطلون علواً كبيراً .
وبهذا التشابه تسقط دعاوى اليهود والنصارى في أنهم هم المهتدون فهاهم يستوون مع المشركين في أفسد الاعتقادات على الإطلاق .
وهنا فائدة عظيمة : وهي اعتقاد أن الخلق غير الخالق وأن الخالق : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وأنه لا يعلم الخلق من أمر الخالق إلا ما علمهم هو عن طريق رسله .
وأنه ليس للعقول البشرية ولا للمعارف الإنسانية أن تصل إلى قليل أو كثير مما حجب عنها علمه وأن القول في ذلك تخرص وظنون كاذبة تضحك العقلاء على أهلها ومنتحليها .
2- ذكر الله في رد دعواهم له اتخاذ الولد أربع حجج على استحالة اتخاذه الولد :
أ- كون ما في السماوات والأرض ملكا له وهذا ينافي أن يكون فيهما ولد له لأن الولد بعض الوالد وشريكه فلا يكون مخلوقا له مملوكاً له لأن المخلوق مملوك مربوب عبد من العبيد والابن نظير الأب فكيف يكون عبده تعالى ومخلوقه ومملوكه بعضه ونظيره فهذا من أبطل الباطل . وأكد هذه الحجة بقوله : { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} وهذا تقرير لعبوديتهم له وأنه ليس فيهم شريك ولا نظير ولا ولد فإثبات الولد لله من أعظم الإشراك به .
ب- قوله تعالى : {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وهذا من أبلغ الحجج على استحالة نسبة الولد إليه ولهذا قال في سورة الأنعام : {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} (1) أي : من أين يكون لبديع السماوات والأرض ولد ؟
وتقرير ذلك أن من اخترع هذه السماوات والأرض مع عظمتها وآياتهما وفطرهما وابتدعهما فهو قادر على اختراع ما هو دونهما فكيف يخرجون هذا الشخص المعين عن قدرته وإبداعه ويجعلونه نظيراً وشريكاً وجزاءً مع أنه تعالى بديع العالم العلوي والسفلي وفاطره ومخترعه وبارئه فكيف يعجزه هذا الشخص أن يوجد من غير أب .
قال عمر رضي الله عنه في النصارى : (( أذلوهم ولا تظلموهم فقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر )) .
وأخبر سبحانه أن السماوات كادت تنفطر من قولهم هذا وتنشق الأرض منه وتـخر الجبال هدا .
وما ذاك إلا لما يتضمنه ذلك الكلام من التنقص لله تعالى علواً كبيراً .
ومع الأسف فإننا في هذه الأيام نسمع الكتابات المتتالية ممن ينتسب إلى الإسلام في الـذب عن اليهود والنصارى وزعم أنهم مـؤمنون وأنهم من أهل الجـنة وأنهم إخوان ؛ لأن أصـل الأديان واحد ويـوجد من يـدعـو بحمـاس إلى تقارب الأديان بل إلى وحدة الأديان اليهودية والنصرانية والإسلام مع أن السلف كان أحدهم يغمض عينيه إذا مر بنصراني لشناعة ما افتراه على الله ، نعوذ بالله من الافتراء على الله .
إن الولاء لله والبراء من أعدائه والحب لله سبحانه وبغض أعدائه هو أصل هذا الدين ولبابه فإذا فقد أو تـميع فقد هدم أساس الدين فلا تنفع الدعاوى والانتسابات بعد هدم الأساس والأصل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون
ج- قوله تعالى : {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وتقرير ذلك أن من كانت قدرته تعالى كافية في إيجاد ما يريد إيجاده بمجرد أمره وقوله : { كُنْ} فأي حاجة إلى ولد وهو لا يتكثر به من قلة ولا يتعزز به ولا يستعين ولا يعجز عن شيء سبحانه .
3- القنوت في اللغة بمعنيين :
– أحدهما : القيام .
– والثاني : الطاعة .
والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت الدعاء في القيام فالقانت القائم بأمر الله قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد : القنوت الطاعة .
قال الحسن والربيع : القنوت القيام .
قال عكرمة والسدي : القنوت الإقرار بالعبادة .
والقنوت نوعان :
– قنوت عام : وهو قنوت الخلق كلهم تحت تدبير الخالق ليس لأحدهم أن يمتنع عما أراده به أو بغيره .
– وقنوت خاص : وهو قنوت العبادة .
والعام كما في هذه الآية ، والخاص كما في قوله تعالى : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) .
4- إثبات القول لله وأن الله يقول وأن قوله بحروف وأنها على ترتيبها في التركيب لقوله : { كُنْ} فإن الكاف قبل النون وهذا قول السلف وأئمة الخلف .
5- وأن أمر الخلق والإيجاد مرتبط بإرادته سبحانه وقضائه فإذا أراد شيئاً وقضاه فإنما يقول له كن فيكون في الحال بدون تأخر على حسب ما أراده أن يكون .
قوله : {وَإِذَا قَضَى أَمْراً} أي : قضاه قدراً وكوناً .
وأمره سبحانه :
– إما كوني قدري : وهو الذي يبدع ويخلق به سبحانه ما يشاء فلا يمتنع منه أحد وليس للمخلوق فيه اختيار .
– وأمر شرعي : وهو ما يكلف الله به عباده وهذا هو مناط الابتلاء وللعباد فيه اختيار ثم على الاختيار يكون الحساب والجزاء .
قول الله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ( الآيات (118-119) .
1- أكثر المفسرين على أن قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ …….} الآية هو في مشركي العرب بدليل قوله تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} ولكن السياق كلها في أهل الكتاب وهم قد سألوا مثل ذلك كما في قوله تعالى : {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ….} الآية (1) .
وأما وقوله : {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فيعني أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي وهذا يستوي فيه أهل الكتاب وغيرهم من الكافرين .
ويمكن أن يقال أن الآية تعم الجميع لاستوائهم في المعاندة وتطلب المحال .
2- طلب الآيات من هؤلاء المعاندين إنما هو من باب التعنت واللجاج ، وإلا فالقرآن آية معجزة وبينة ظاهرة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقاً ثم إنهم في تعنتهم وطلبهم للآيات ليسوا بسبيل الإذعان إذا جاءت الآيات بل كما قال تعالى : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} (2) .
وقال تعالى : {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (3) .
وقال عز وجل : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (1) .
وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (2) .
3- تشابه الكافرين باطنا وظاهراً قال عز وجل : {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (3) ثم هم يتشابهون في مكابرة الحق ومعاندته ويختلفون في جزئيات ذلك .
إذا تشابهت القلوب تشابهت الأقوال والأعمال وهذا فيه إشارة إلى أن القلوب هي الموجهة للأقوال والأعمال وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) .
ومن هذا اتفاق أهل الحق على قول الحق وإن اختلفت أمصارهم وتفاوتت أزمانهم قال الإمام البخاري – رحمه الله – : لقيت أكثر من ألف عالم في الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخرسان كلهم يقولون : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص . أو كما قال – رحمه الله .
4- قوله : {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} إرسال الرسول بالحق مشتمل على الآيات التي جاء بها وترجع إلى أمور :
أ- في نفس إرساله ، ورحمة الله للناس بإرساله وهذا يعلمه من علم ما كان عليه البشر قبل بعثته .
ب- في سيرته وهديه ودينه وما كان عليه من خصال الكمال ومكارم الأخلاق .
ج- معرفة ما جاء به من الشرع العظيم والقرآن الكريم وما اشتمل عليه من الأخبار الصادقة والأوامر الحسنة والنهي عن كل قبيح .
5- أن آيات الله لا ينتفع بها إلا الموقن بها وهو طالب الهدى والحق فأما الشاك والمعاند فلا ينتفع .
والموقنون الذين طلبوا الحق بدليله ولم يقيدوا عقولهم بربقة التقليد الأعمى الجامد وهذا قيد بأن على طالب الحق أن يستدل على الحق قبل أن يعتقد وإلا أصبح الاعتقاد خاضعاً للهوى ليس للدليل .
يتفرع عن قوله : {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أن من كان عنده شك فإن الآيات لا تتبين له ولا تظهر بل تزيده الآيات عمى وضلالاً كما قال عز وجل : {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}(1) .
وأقبح من الشاك أهل العناد والإنكار فإن هذا لا ينتفع بالآيات من باب أولى .
ومثل هذا مثل من يسمع بنفع بعض الآيات كآية الكرسي في الحرز من الشيطان فإنه لا ينتفع بها ولا يحصل ما وعد به إلا لمن أيقن بذلك .
6- في قوله تعالى : {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يؤاخذ ولا يسأل عمن كفر ، قال تعالى : {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (2) .
وكذلك تسلية له عندما حزن على إصرارهم على الكفر قال تعالى : { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } (1) .
وفيه تقرير للقاعدة القرآنية أن أحداً لا يسأل ولا يتحمل ذنب غيره : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (2) .
والقراءة الثانية تتضمن النهي عن السؤال عنهم .
7- في قوله : {بَشِيراً وَنَذِيراً} تحديد لمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو بشير للمؤمنين بسعادة الدارين ونذير للكافرين والمعاندين بالخزي والعذاب عاجلاً وآجلاً .
ثم فيها بيان أن ليس للنبي صلى الله عليه وسلم حق في الربوبية ولا الألوهية .
فائدة : في قوله تعالى : {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ} ولم يقل أعطيناك الآيات للتفرقة والفصل بين آيات القرآن التي هي من علم الله وكلامه يظهر بها الحق بطريق لا يشتبه فيه الفهم ولا يحار فيه الذهن .
وبين الآيات الكونية التي هي من فعل الله تعالى فيخضع لها المشاهد لها لشعوره بأنها من قوة فوق قوته وأنه ليس بمقدوره مجاراتها ثم ينقسم الناس فيها قسمين فمنهم من يسندها إلى الله حتى وإن كانت من أعمال الخلق الخفيّة ، ومنهم من يجعلها من أعمال السحر والسحرة حتى وإن كانت مما يعجز عنه السحرة والشياطين وجميع المخلوقين ولذلك ضلت الأمم في آيات القرآن لأنها بينه لا يمكن أن تلتبس بغيره فليس لأحد مهما كان أن يأتي بسورة واحدة مهما كان قصرها ولله الحكمة البالغة .
قوله تعالى : {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} ( الآيات ( 120-123) .
1- هذه هي الحقيقة المروعة لكل من انخدع بأكاذيب اليهود والنصارى في شيء من دعاواهم الكاذبة سواء كانت دعاوى ذكرها القرآن عنهم كما في قولهم : { نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } (1) وقولهم : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } (2) إلى آخر ما ذكر الله عنهم .
أو كانت دعاوى محدثة بعد ذلك من علمانية وقومية وعولمة ووطنية وعروبة فإن كافة تلك الدعاوى إنما هي للابتزاز وتنزيل المسلمين عن دينهم وثوابتهم وإلا فالحقيقة أنهم لن يرضوا إلا بأن يكون المؤمن تبعاً لهم وعلى ملتهم .
2- أفرد الله كلمة الملة لأن الكفر ملة واحدة في مقابلة هدى الله مع أنك تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى فمع أنهم يلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم بعضاً ويكيد بعضهم ويتجسس بعضهم على بعض إلا أنهم أمام هدى الله كتلة واحدة هدفهم واحد هو تقويض دعائم الإسلام ومحق أهله ، وتذكر قوله تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (1) .
3- أن الدعاوى والأماني لا تغني من الحق شيئاً وليس الهدى والحق لمجرد الدعوى ولكن الهدى هدى الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه فقد اتبع الحق وسلك سبيل الهدى وقد وردت الآية بصيغة الحصر والقصر فالهدى محصور ومقصور في هدى الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما عداه ضلال وزيغ وهوى .
4- أن الذي مع اليهود والنصارى وغيرهم إنما هو الأهواء وليس الهدى ولذلك ورد التحذير من إتباع أهوائهم .
5- إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم من الزيغ والضلال توعده الله بهذا الوعيد لو حصل منه إتباع أهوائهم وأن الله سيتخلى عنه لو فعل حاشاه ذلك فغيره ممن لن يعصم عليه أن يحذر والوعيد في حقه آكد وهذا كقوله تعالى : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (2) .
6- قال الإمام محمد عبده : من تدبر هذا الإنذار الشديد الموجه من الله تعالى إلى نبي الرحمة المؤيد منه بالكرامة والعصمة علم أن المراد به الوعيد والتشديد على الأمة على حد ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) فإن الله تعالى يخاطب الناس كافة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم . ا . هـ
7- في هذه الآية وأمثالها بيان أن العقوبات إنما تقع على العبد بعد العلم وأما الجاهل فلا عقوبة عليه وهذا في العموم والمسألة فيها مباحث في حد الجهل الذي يعذر المرء به والأمور التي لا يعذر بالجهل فيها .
8- {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} في تفسيرها وجهان :
– أحدها : أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة الإجابة فهم الذين ينتفعون بهذا الوحي المبارك لأنهم يتلونه حق تلاوته يعني أنهم يعملون به حق العمل فيحلون حلاله ويحرمون حرامه .
– وثانيها : أنهم من آمن من أهل الكتاب .
9- والتلاوة يراد بها ثلاثة أمور :
أ- التلاوة الحرفية اللفظية وهو أن يقيم حروفه ويتلو ألفاظه .
ب- التلاوة المعنوية وهي أن يفسره بما أراد الله عز وجل لا بهوى نفسه فلا يحرف الكلم عن مواضعه .
ج- التلاوة الحكمية العملية بأن يؤمن بأخباره ويقوم بأوامره ويجتنب نواهيه .
10- والمقصود الأعظم هو التدبر والتفهم والإيمان والعمل فقد ذم الله طائفة من أهل الكتاب بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني .
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخوارج وأنهم يقيمونه إقامة القداح ولا يجاوز تراقيهم وأخبر عن مروقهم من الدين والعياذ بالله .
11- ذكر بعض العلماء من موانع فهم القرآن عند التلاوة :
أ- أن يكون الهم منصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها وهذا يتولى حفظه شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل .
ب- أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الإتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكن أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفاً على مسموعه .
فإن لمع على بعد وبداله معنى من المعاني التي تخالف مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال : كيف يخطر ببالك وهو خلاف معتقد آبائك ؟ فيرى أن ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه ويحترز من مثله ….الخ
12- فإن قال قائل : فإن العلماء يقولون : القرآن يتعبد بتلاوته !
فالجواب أن يقال : ولكنهم لم يقولوا أنه أنزل لذلك .
والله الذي أنزله يقول أنه أنزله : { لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) وقال تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2) .
13- خسارة الكفار بالقرآن خسارة عامة شاملة للدنيا والآخرة .
14- أعاد الله عز وجل التذكير بنعمه على بني إسرائيل بعد أن أوضح أن الإعراض عن تدبر وحي الله والتفقه فيه هو كفر به أعاد تذكيرهم بأنه لا يليق بمن كرمه الله وفضله على غيره من الشعوب بإيتائه الكتاب أن يكون حظه من ذلك الكتاب الكفر وأن يكون شبيهاً بالحمار الذي يحمل أسفاراً .
15- وهذه النعم توجب على من يعطاها شكر الله عليها فبشكرها تبقى وتزيد وبكفرها ترتفع قال تعالى : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) .
16- وختم الله هذا السياق بالتحذير من اليوم الموعود الذي لا يملك أحد لأحد فيه شيئاً ولا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً ولا تزر وازرة وزر أخرى إلى آخر ما بين الله في أمره ، قال صلى الله عليه وسلم : (( يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً ….. )) (2) .
17- وإذا كانت الشفاعة تنفع في الدنيا ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يـشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه )) (3) فإن الآخرة لا تنفع الشفاعة إلا بشروطها .
قال بعض المفسرين في قوله تعالى : {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} .
فتلك هي العلة الأصيلة ليس الذي ينقصهم هو البرهان وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق ، وأن الذي جاءك من ربك الحق . ولو قدمت إليهم ما قدمت ولو توددت إليهم ما توددت لن يرضيهم من هذا كله شيء ، إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق … إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان … إنها هي العقيدة هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة … وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها ، ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين !
إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى ، ويرفعان عليها أعلاماً شتى في خبث ومكر وتورية إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة .
لم يعلنوها حربا باسم العقيدة على حقيقتها خوفا من حماسة العقيدة وجيشانها إنما أعلنوها باسم الأرض ، والاقتصاد ، والسياسة ، والمراكز العسكرية ………. وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها ولا يجوز رفع رايتها وخوض المعركة باسمها .
فهذه سمة المتخلفين المتعصبين ! ذلك ليأمنوا جيشان العقيدة وحماستها بينما هم في قرارة نفوسهم : الصهيونية العالمية والصليبية العالمية والبوذية والهندوسية جميعاً يخوضون المعركة من منطلق عقائدي ولغرض واحد هو تحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلاً فأدمتهم جميعاً .
إنهم يزيفون علينا ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها فالصرب أرثذكس متعصبون لعقيدتهم وقد أعلنوها صريحة أنها حرب مقدسة امتداد للحروب الصليبية .
واليهود أمرهم أشهر من أن يذكر والهندوس والبوذيون . أ. هـ بتصرف واختصار
قوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ( الآية 124) .
1- بما أن بني إسرائيل يقرون بفضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويتـشرفون بأنهم من ذريته وكذلك العرب يقرون بفضله ويتشرفون بانتسابهم لهم وأنهم من ذريته .
بدأ الله هذه الآية وما بعدها في ذكر أمور عن إبراهيم عليه السلام توجب على بني إسرائيل وعلى العرب قبول قول محمد صلى الله عليه وسلم والاعتراف بدينه والانقياد لشـرعه وذلك من وجوه :
أ- أنه لما وفى بما كلف به نال النبوة والإمامة وهذا فيه تنبيه أن الإمامة والخير لا يحصل في الدنيا والآخرة إلا بالانقياد لحكم الله وتكاليفه وترك التمرد والعناد .
ب- أنه طلب الإمامة لأولاده وذريته فقال تعالى : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فهؤلاء متى أرادوا وجدان ذلك المنصب وجب عليهم ترك اللجاج والتعصب للباطل .
ج- أن الحج إلى البيت العتيق الذي بناه إبراهيم من خصائص دين محمد صلى الله عليه وسلم فحكى الله ذلك عن إبراهيم ليكون ذلك حجة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لمحمد صلى الله عليه وسلم .
د- أنه لما حولت القبلة إلى البيت الحرام حصل الطعن من اليهود والنصارى وشق عليهم فبين الله أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعظمونه ويتشرفون بالانتساب إليه فكان ذلك مما يوجب زوال الغضب والتعصب عن قلوبهم لقبلتهم التي حول عنها محمد صلى الله عليه وسلم .
2- أن المستقر عند ذرية إبراهيم أنه عليه الصلاة السلام داعية التوحيد ومكسـر الأصنام فذكره هنا احتجاج على ذريته سواء كانوا مـشركي العرب أو مـشركي أهل الكـتاب الذي رجعوا إلى الوثنية وعبدوا غير الله فتعظيمهم لإبراهيم وتـشرفهم بالانتساب إليه وباعتقادهم أن دينه هو التوحيد يـجب عليهم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله ليتبع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، قال عز وجل : {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) .
3- حصل الخلاف بين المفسرين في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام والأولى في ذلك التزام طريقة القرآن في عدم التعيين إلا بنص ثابت أو إجماع فلما لم يوجد كان الأولى التوقف عن التعيين وهذا اختيار ابن جرير – رحمه الله
4- في قوله تعالى : {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فالإمام هو من يؤتم به والمراد هنا بالإمامة النبوة والرسالة .
وفي حذف الفاء هنا فلم يقل : ( فقال إني جاعلك للناس إماماً ) بل حذف الفاء للإشعار بأن هذه الأمة هي فضل من الله تعالى وليست مكتسبة .
5- تحققت إمامة إبراهيم للناس بدعوته إياهم إلى التوحيد الخالص وكانت الوثنية قد عمتهم وأحاطت بهم فقام على عهده بالحنيفية وهي الإيمان بتوحيد الله والبراءة من الشرك وإثبات الرسالة وقد تسلسل ذلك في ذريته خاصة فلم ينقطع منها دين التوحيد حتى جاء دور استجابة الله لدعوته ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فاستمرت وستستمر إلى يوم القيامة ولذا وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم .
6- قوله تعالى : {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} دعاء من إبراهيم ، أي : واجعل من ذريتي أئمة للناس ، وفي هذا الدعاء كمال إبراهيم في العلم وفي الأدب مع الله :
– فأما العلم فإن الذرية إذا كثرت وامتدت أزمنتها وتعاقبت لم يكونوا كلهم على مستوى واحد من الصلاح والاستقامة ، فكيف يتصور أن يكونوا جميعاً أئمة يُقتدى بهم في الخير ؟
– وأما الأدب فلأنه طلب أن يجعل من ذريته أي من بعض ذريته ليوافق السنة الربانية في الخلق .
7- وفي سؤال إبراهيم ربه الإمامة لذريته جرى على سنة الفطرة فإن الإنسان بقاء ولده بقاء له ، ولذا يجب أن تكون ذريته على أحسن الأحوال كما في دعائه الآخر : {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } (1) فـيكمل اللاحق ما بدأه السـابـق من الإصلاح وحمل الدين القويم ، وهذا الشعور الفطري تريد المذاهب والمبادئ الهدامة تحطيمه وإزالته من القلوب بل من الوجود وليتأمل في هذا المقام تلك المؤتمرات المشبوهة عن الأسرة ونظامها والذي تنظمه وتدفعه هيئة الأمم مخلب المنظومات المشبوهة .
8- من أعظم الاعتداء في الدعاء أن يسأل العبد ربه تغيير سنة كونية ربانية أو سنة شرعية إلهية فالأولى كأن يسأل العبد ربه أن لا يموت أبد الدهر ، وأما الآخر فكأن يسأل ربه أن يسقط عنه عبادة مما افترض الله على عباده .
9- لقد بذل إبراهيم نفسه وماله وأهله وولده لله تعالى فاتخذه الله خليلاً ، كما قيل : بذل نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان .
10- لقد أجاب الله إبراهيم في دعائه بما يناسب القضاء الرباني الكوني وهو :
أ- أن الذرية فيهم محسن لنفسه وظالم .
ب- وأن الإمامة في الدين لا ينالها الظالمون .
وهذا فيه التنفير من الظلم وتبغيضه إلى ذرية إبراهيم ليتحاموه وينشئوا أولادهم على كراهيته ويربوهم على التباعد عنه حتى لا يحرموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها .
وفيه أيضاً تنفير بقية الناس من الظالمين وترغيبهم عن الإقتداء بهم فإن الناس قد اعتادوا الاقتداء بالرؤساء والملوك وأهل الوجاهة الظالمين لأنفسهم ولغيرهم بالخروج عن شريعة الله إلى ما يوافق أهواءهم ويحرفون أو يؤلون الأحكام لتطابق شهواتهم وقد درجوا على ذلك في كل عصر ما عدا عصر النبوة والخلافة الراشدة خلافة النبوة .
11- قال بعض المفسرين بأن الظلم هنا هو الظلم الأعظم وهو الشرك والكفر لقوله تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) وقوله : {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) ولكن لا دليل هنا في الآية على الحصر أو القصر .
وإن قال الفقهاء بأن الإمام لا ينبذ عهده إلا بالكفر الصريح دون الظلم والفسق فإنما يقولون ذلك خوفاً من وقوع الفتنة لا لأن الظالم أهل للإمامة ، ومن القواعد أنه يغتفر في البقاء والاستمرار مالا يغتفر في الابتداء مع أن هذا أيضاً ليس على إطلاقه .
12- هذه الآية نص قاطع في تنحية اليهود عن القيادة والإمامة لشدة ظلمهم سواء الظلم الأكبر وهو العتو عن أمر الله والوقوع في أغلظ أنواع الكفر والشرك والانحراف عن عقيدة جدهم إبراهيم عليه السلام ومن اقتدى بهم واتخذهم أئمة فإنه يوالي أعداء الله لمجرد مصلحته دون النظر في مصالح رعيته وينجر بالطبع إلى مجانبة أهل الله ومعاداة أوليائه وازدرائهم وإقصائهم فيختل النظام بتوسيد الأمور إلى غير أهلها وتفسد الأوضاع ويحصل الهلاك في الحرث والنسل .
13- وهذه الآية صريحة في قطع جميع الوشائج والصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والإيمان فهي تقطع جميع وسائل القربى إذا انقطعت وشيجة العقيدة وتسقط جميع الروابط والاعتبارات المادية الأرضية فالعقيدة تفصل بين الوالد وولده والزوج وزوجه فالأمة مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم وأوطانهم وأزمنتهم كما قال صلى الله عليه وسلم : (( وددت أنا رأينا إخواننا )) قالوا : أولسنا إخوانك ؟ قال : (( أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد )) .
14- الإمامة في الدين والأسوة الحسنة هي فيما تكون عليه النفوس من الصفات الفاضلة والملكات العلمية التي تملك على صاحبها طرق العمل فتسوقه إلى خيرها وتزعه عن شرها ولا حظ للظالمين في شيء منها وإنما هو أصحاب الرسم وأهل الخداع والانخداع بالظاهر وقد جعل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام إماما للناس وذكر لنا في كتابه كثيراً من صفاته الجليلة فقال تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) وقال سبحانه :{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} (2) ولم يذكر لنا شيئاً من زيه ولا صفة ثيابه ولا أنواع طاعمه وشرابه ولا كثرة ماله بل أرشدنا إلى أن دعوته الصالحة لذريته لا يدخل فيها ولا ينتفع بها أحد من هذه الذرية إلا من اجتنب الظلم لنفسه وللناس .
15- أن الناس لم يرعووا عن الاقتداء بالظالمين حتى بعد هذا التحذير الذي أوحاه الله إلى إبراهيم ثم أعلم به محمداً عليهما الصلاة والسلام .
والناس اليوم يدّعون الاقتداء بالأئمة الأربعة وهم كاذبون في ذلك فإنهم ليسوا على شيء من سيرتهم في التخلق بأخلاق القرآن وتحري إتباع السنة في جميع الأعمال باطنة وظاهرة .
16- قال الشيخ محمد رشيد رضا – رحمه الله : قد غلبت على الناس أهواء السلاطين والحكام الظالمين ، حتى إن هؤلاء الأئمة الأربعة لم يسلموا من أولئك الظالمين ، فقد سجن أبو حنيفة وحاولوا إكراهه على قبول القضاء ، لما رأوا من إقبال الناس على الأخذ عنه فلم يقبل ، فضربوه وحبسوه ولم يقبل كما هو مشهور .
وضرب الإمام مالك سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان ، ونقل عن الواقدي : أنه لم يكن في آخر عهده يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة وكان يقول : ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره .
وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – وهو عم المنصور وقالوا له : إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء ، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط ، ومدت يده حتى انخلعت كتفه ، وارتكب منه أمرا عظيما . وخبر طلب هارون الرشيد الشافعي للقضاء وإبائه واختفائه ثم هربه مشهور .
وأشهر منه محنة الإمام أحمد بن حنبل وحبسه وضربه الضـرب المبرح ؛ ليقول بخلق القرآن . فهكذا عامل الملوك الظالمون هؤلاء الأئمة وبلغوا منهم ومن الناس بظلمهم ما أرادوا من إفساد الدين والدنيا .
وكلنا يعلم أن أولئك الذين ظلموا الأئمة الذين يدعي الأمراء والحكام اليوم إتباعهم كانوا أقل توغلا وإسرافا في الظلم من أكثر الملوك والأمراء المتأخرين وإنك لترى أكثر الناس تبعا لأهواء هؤلاء الرؤساء إلا من وفقه الله وهداه – وقليل ما هم – بل هم اليوم الغرباء في الأرض .
والعبرة في مثل ما أشرنا إليه من الأحداث أن الظالمين من حكام هذه الأمة بدءوا بتحكيم أهوائهم السياسية في الدين وأهله من القرن الأول ، وكانوا إذا رأوا الناس قد أقبلوا على رجل من رجال الدين استمالوه ، فإن لم يمل إليهم آذوه وأهانوه ، ولكن كان الدين وطلب الحق غالبا على أمر المسلمين ، فقد نقل المؤرخون أن الإمام مالكا لم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة ، وكأنما كانت تلك السياط حليا حلي به . ( أقول : وكذلك شأن الإمام أحمد بعد المحنة والحبس والضرب حتى أصبح علم السنة وإمام القدوة ) ولو أمر أحد السلاطين المتأخرين بضرب عالم من أعلم أهل العصر ؛ لأنه لا يرى عهد بيعته صحيحا أو لأنه أفتى بما لا يوافق غرضه ( كما نقل عن الإمام مالك ) لما رأيت له رفعة ولا احتراما عند الناس ، ولأعرض عنه الجميع .
فأما العقلاء العارفون بفضله ، فيعرضون عنه بوجوههم ، وأما الغوغاء من العامة ومن في حكمهم ، فيعرضون عنه بقلوبهم ووجوههم ، ويعتقدون كفره أو فسقه وابتداعه .
ذلك أن الظالمين من الأمراء قد استعانوا بالظالمين من الفقهاء على إقناع العامة بأنهم أئمة الدين الذين يجب إتباعهم حتى في الأمور الدينية ، وحالوا بينهم وبين كتاب الله الذي ينطق بأن عهد الله بالإمامة لا ينال الظالمين .
وغشوهم بأن الأئمة الأربعة يحكمون بذلك ، ولو عرف الناس سيرة الأئمة الأربعة مع خلفاء زمنهم لما تـيسر غشهم .
هذا وإن الحاكمين على عهد الأئمة الأربعة كانوا على علم بالكتاب والسنة وإتباع لهما في أكثر أعمالهم وأحكامهم ، وأما المتأخرون فلا يعرفون من ذلك أكثر مما يعرف السوقة ويعملون بخلاف ما يعلمون ، بل يشرعون للناس أحكاما جديدة يأخذونها من قوانين الأمم ( الوثنية ) تخالف الشريعة ولا توافق مصلحة الأمة ، ويلزمون عمالهم وقضاتهم الحكم بها باسمهم لا باسم الله : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) .
17- في قوله : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} اعلم أنه سبحانه أعلم عباده أن له معهم عهد ولهم معه عهد وبين أن العبد متى يفي بعهده يفي له ربه بعهده فقال : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } (2) .
فما حقيقة هذه المعاهدة : العهد المأخوذ عليك هو عهد العبودية والخضوع والعهد الذي التزمه الله لعباده هو عهد الرحمة قال صلى الله عليه وسلم : (( حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم )) أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
خصائص بيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام نقلاً عن ابن القيم (1) :
1- جعل في هذا البيت النبوة والكتاب فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من أهل بيته .
2- أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعد إبراهيم فإنما دخلها من طريقهم وبدعوتهم .
3- ومنها أنه اتخذ منهم الخليلين إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم .
4- أنه جعل صاحب هذا البيت إماما للعالمين : {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} .
5- أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياما للناس وقبله لهم وحجا فكان ظهور هذا البيت من أهل هذا البيت الأكرمين .
6- أنه أمر عباده بأن يصلوا على أهل هذا البيت كما صلى على أهل بيتهم وسلفهم وهم إبراهيم وآله وهذه خاصة لهم .
7- أنه أخرج منهم الأمتين المعظمتين التي لم تخرج من أهل بيت غيرهم وهم أمة موسى وأمة محمد صلى الله عليهما وسلم وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تمام سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله .
8- أن الله سبحانه أبقى عليهم لسان صدق وثناء حسنا في العالم فلا يذكرون إلا بالثناء عليهم والصلاة والسلام عليهم قال تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (2) .
9- جعل أهل هذا البيت فرقانا بين الناس فالسعداء أبتاعهم ومحبوهم ومن تولاهم والأشقياء من أبغضهم وأعرض عنهم وعاداهم فالجنة لهم ولأتباعهم والنار لأعدائهم ومخالفيهم .
10- أنه سبحانه جعل ذكرهم مقرونا بذكره فيقال إبراهيم خليل الله ورسوله ونبيه ومحمد رسول الله وخليله ونبيه وموسى كليم الله ورسوله قال تعالى لنبيه يذكره بنعمته عليه : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (1) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي فيقال : لا اله إلا الله محمد رسول الله في كلمة الإسلام وفي الأذان وفي الخطب وفي التشهدات وغير ذلك .
11- ومنها أنه سبحانه جعل خلاص خلقه من شقاء الدنيا والآخرة على أيدي أهل هذا البيت فلهم على الناس من النعم ما لا يمكن إحصاؤها ولا جزاؤها ولهم المنن الجسام في رقاب العالمين الأولين والآخرين من أهل السعادة والأيدي العظام عندهم التي يجازيهم الله عز وجل عليها .
12- أن كل ضر ونفع وعمل صالح وطاعة لله تعالى حصلت في العالم فلهم من الأجر مثل أجور عامليها فسبحان من يختص بفضله من يشاء من عباده .
13- أنه سبحانه وتعالى سد جميع الطرق بينه وبين العالمين وأغلق دونهم الأبواب فلم يفتح لأحد قط إلا من طريقهم وبابهم .
قال الجنيد رضي الله عنه : يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : (( وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق أو استفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك )) .
14- أنه سبحانه خصهم من العلم بما لم يخص به أهل بيت سواهم من العالمين فلم يطرق العالم أهل بيت أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله وثوابه وعقابه وشرعه ومواقع رضاه وغضبه وملائكته ومخلوقاته منهم فسبحان من جمع لهم علم الأولين والآخرين .
15- أنه سبحانه مكن لهم في الأرض واستخلفهم فيها وأطاع لهم أهل الأرض ما لم يحصل لغيرهم .
16- أنه سبحانه أيدهم ونصرهم وأظفرهم بأعدائهم بما لم يؤيد غيرهم .
17- أنه سبحانه محا بهم آثار أهل الضلال والشرك ومن الآثار التي يبغضها ويمقتها ما لم يمحه بسواهم .
18- أنه سبحانه غرس لهم من المحبة والإجلال والتعظيم في قلوب العالمين ما لم يغرسه لغيرهم .
19- أنه سبحانه جعل آثارهم في الأرض سببا لبقاء العالم وحفظه فلا يزال العالم باقياً ما بقيت آثارهم فإذا ذهبت آثارهم من الأرض فذاك أوان خراب العالم قال الله تعالى : {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} (1) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها : (( لو ترك الناس كلهم الحج لوقعت السماء على الأرض )) وقال : (( لو ترك الناس كلهم الحج لما نُظِروا )) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في آخر الزمان يرفع الله بيته من الأرض وكلامه من المصاحف وصدور الرجال فلا يبقى له في الأرض بيت يُـحج ولا كلام يُتلى ، فحينئذ يقرب خراب العالم وهكذا الناس اليوم إنما قيامهم بقيام آثار نبيهم وشرائعه بينهم وقيام أمورهم حصول مصالحهم واندفاع البلاء والشر عنهم بحسب ظهورها بينهم وقيامها وهلاكهم وعنتهم وحلول البلاء والشر بهم عند تعطلها والإعراض عنها والتحاكم إلى غيرها واتخاذ سواها .
ومن تأمل تسليط الله سبحانه من سلطه على البلاد والعباد من الأعداء علم أن ذلك بسبب تعطيلهم لدين نبيهم وسننه وشرائعه فسلط الله عليهم من أهلكهم وانتقم منهم حتى أن البلاد التي لآثار الرسول وسننه وشرائعه فيها ظهور دفع عنها بحسب ظهور ذلك بينهم .
وهذه الخصائص وأضعاف أضعافها من آثار رحمة الله وبركاته على أهل هذا البيت فلهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نطلب له من الله تعالى أن بارك عليه وعلى آله كما بارك على هذا البيت المعظم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
20- ومن بركات أهل هذا البيت أنه سبحانه أظهر على أيديهم من بركات الدنيا والآخرة ما لم يظهره على يدي أهل بيت غيرهم .
21- ومن بركاتهم وخصائصهم أن الله سبحانه أعطاهم ما لم يعط غيرهم فمنهم من اتخذه خليلاًَ ومنهم الذبيح ومنهم من كلمه تكليما وقربه نجيا ومنهم من آتاه الله شطر الحسن وجعله من أكرم الناس عليه ومنهم من آتاه ملكاً لم يؤته أحداً غيره ومنهم من رفعه مكاناً علياً .
22- ولما ذكر سبحانه هذا البيت وذريته أخبر أن كلهم فضله على العالمين .
23- ومن خصائصهم وبركاتهم على أهل الأرض أن الله سبحانه رفع العذاب العام عن أهل الأرض بهم وببعثهم وكانت سنته سبحانه في أمم الأنبياء قبلهم أنهم إذا كذبوا أنبياءهم ورسلهم أهلكهم بعذاب يعمهم كما فعل بقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط فلما أنزل الله التوراة والإنجيل والقرآن رفع بها العذاب العام عن أهل الأرض وأمر بجهاد من كذبهم وخالفهم فكان بذلك نـصرة لهم بأيديهم وشفاءً لصدورهم واتخاذ الشهداء منهم وإهلاك عدوهم بأيديهم لتحصيل محابه سبحانه بأيديهم .
وحق بأهل بيت هذا بعض فضائلهم وخصائصهم أن لا تزال الألسن رطبة بالصلاة عليهم والسلام والثناء والتعظيم ، والقلوب ممتلئة من تعظيمهم ومحبتهم وإجلالهم وأن يعرف المصلي عليهم أنه لو أنفق أنفاسه كلها في الصلاة عليهم ما وفّى القليل من حقهم فجزاهم الله عن بريته أفضل الجزاء وزادهم في الملأ الأعلى تعظيماً وتـشريفاً وتكريماً وصلى عليهم صلاة دائمة لا انقطاع لها وسلم تسليماً كثراً إلى يوم الدين .
قوله سبحانه : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ( الآية 125) .
1- يُذّكر الله العرب عامة وقريش خاصة بهذه النعمة الكبرى وهي جعل البيت الحرام مرجعاً للناس يقصدونه ثم يتوبون إليه ، أي : يرجعون .
وجعله الله أمناً حتى في الجاهلية حيث يلقى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يزعجه ولا يمسه بسوء رغم ما عُرف عنهم من حب الانتقام والافتخار بأخذ الثأر .
قال سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (1) .
وفي القصص يقول تعالى : {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (2) .
2- مقام إبراهيم هو الحج الذي وقف عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ارتفاع بناء الكعبة فغاصت فيه قدماه وكان يرتفع به كلما ارتفع والمصلى خلفه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، قال عمر رضي الله عنه : (( وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر )) (3) .
3- ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إن مكة حرمها الله ولم يحرمه الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم والآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجر … )) (1) .
فائدة : وفي الآية تأكيد أمن البيت وذلك إما كوناً وإما شرعاً .
ومن الكوني قوله تعالى : {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) وكذلك ما وضعه في القلوب من التعظيم والإجلال والمحبة للبيت حتى يتحرج المؤمن من الإخلال بأمنه .
وأما الشرعي فبإقامة الحدود وتأمين السبل والأخذ على أيدي المفسدين وتشريد البطّالين والظلمة وإرجاع الحقوق إلى أهلها .
فائدة : اختلف العلماء فيمن أحدث حدثاً ثم لجأ إلى الحرم :
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : {وَأَمْناً} يريد أن من أحدث حدثاً في غيره ثم لجأ إليه فهو آمن ، ولكن ينبغي لأهل مكة أن لا يبايعوه ولا يطعموه ولا يسقوه ولا يؤوه ولا يُكَلّم حتى يخرج فإذا خرج أقيم عليه الحد وقال به الأحناف وبعض الحنابلة .
وقالت المالكة والشافعية : أنه يقام عليه الحد ولو كان في الحرم .
وأما من جنى في الحرم فإنه يقام عليه الحد وفاقاً لأنه لم يحترم البيت .
4- تثبيت إمامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للناس بأمور :
– أحدها : أن الله وكل إليه بناء أول بيت في الأرض لعبادته .
– وثانيها : أمره له ولإسماعيل بتطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود
– وثالثها : أمر الله بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى .
5- التطهير للبيت إما حسي وإما معنوي :
فأما المعنوي فأن يطهر من الشرك والمعاصي ؛ لأن الشرك نجاسة كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (1) وقال عز وجل : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (2) .
والحسية أن يطهر من الأقذار من البول والغائط والدم وغيرها من الأشياء النجسة وهذا ثابت للمسجد الحرام ولغيره من المساجد كما قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي بال في المسجد : (( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه الأقذار ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه )) .
6- فضيلة الطواف ولهذا كان ركن من أركان الحج .
7- في الأمر بتطهير البيت للطائفين إشارة إلى أن المشروع للطائف أن يكون متطهراً بنفسه وتطهير ما لبسه من الثياب من باب أولى .
8- فضيلة الاعتكاف ومشروعيته في المسجد الحرام ، قال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، قال : (( فأوف بنذرك )) (1) .
9- فضيلة الركوع والسجود حيث عبر بهما عن الصلاة كاملة ، قال أهل العلم وإذا عبر الله عن العبادة ببعضها دل ذلك على وجوب هذا البعض فيها والسجود والركوع من أركان الصلاة قال صلى الله عليه وسلم : (( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة – وأشار بيده على أنفه – اليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب والشعر )) (2) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الإسراء الآية (16) .
1- سورة المائدة الآية (24) .
1- سورة النساء الآية (59) .
1- سورة المائدة الآيات (101- 102) .
2- أخرجه البخاري برقم (7288) ومسلم برقم (1337/412) .
3- أخرجه البخاري برقم (7289) ومسلم برقم (2358/132) والإمام أحمد (1/179) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه .
1- سورة الكهف الآية (24 – 25) .
1– برقم (6639) .
2– برقم (1654) .
2– سورة الإسراء الآية (44) .
1- سورة الأنفال الآية (56) .
1- أخرجه البخاري في كتاب : بدء الخلق – باب : صفة إبليس وجنوده برقم (3268) .
2- سورة الأعراف الآية (116) .
3- سورة طـه الآية (66) .
1– سورة النمل الآية (62) .
2– سورة النور الآية (40) .
1- قال ابن كثير – رحمه الله – : وهذا حسن عند أبي داود لأنه رواه وسكت عنه .
1- سورة الأنفال الآية ( 65 – 66) .
1- سورة المطففين الآية (26) .
1- سورة التوبة الآية (29) .
1- انظر رد الإمام عثمان بن سعيد الدارمي – رحمه الله – على بشر المريسي . وانظر مختصر الصواعق المرسلة .
1- سورة الأنعام الآية (101) .
1- سورة النساء الآية (153) .
3– سورة الأنعام الآية (7) .
1– سورة الأنفال الآية (23) .
2– سورة يونس الآيات (96 – 97) .
3– سورة الذاريات الآيات (52-53) .
1- سورة التوبة الآيات (124- 125) .
2– سورة الرعد الآية (40) .
1– سورة فاطر الآية (8) .
2– سورة الأنعام الآية (164) .
1- سورة إبراهيم الآية (7) .
1- سورة النحل الآية (120) .
2- سورة هود الآية (75) .
1- سورة المائدة الآية ( 45 ) .
2- سورة الصافات الآيات (108-110) .
1- سورة المائدة الآية (97) .
2- سورة القصص الآية (57) .
3- أخرجه مسلم في كتاب : فضائل الصحابة برقم (2399) .
1- أخرجه البخاري برقم (104) ومسلم برقم (1354) .
2– سورة الحج الآية (25) .
1– سورة التوبة الآية (28) .
2– سورة الحج الآية (26) .
1– أخرجه البخاري برقم (2042) ومسلم برقم (1656) .
2– أخرجه البخاري برقم (812) ومسلم برقم (490) .