إسعاد الإخوان الكرام
بفوائد عمدة الأحكام
تأليف
علي بن عبدالرحيم الغامدي
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
الطبعة الثانية 22 ذو القعدة 1445هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب:70] أما بعد
فقد وقع الاختيار على كتاب [ عمدة الأحكام ] ليكون التدارس في هذا اللقاء فيه وهذا الاختيار له فوائد :
1- أن هذا الكتاب اقتصـر مؤلفه – رحمه الله- على الأحاديث من صحيح البخاري ومسلم فليس فيه حديث ضعيف
2- أن هذه الأحاديث انتقاها إمام حافظ جهبذ من جهابذة العلماء ومن أئمة هذه الملة والدين مشهود له بالعلم والإمامة والجلالة وهو الإمام عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي – رحمه الله
وقد أثنى العلماء على هذا الإمام ثناءً عاطراً من معاصريه وممن جاء بعدهم وذلك لجلالة قدره وعظيم منزلته في العلم وكذلك في العمل فإنه كان يصلي من بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر ثلاثمائة ركعة يومياً ، وهذا يدل على اهتمامه بنفسه وعدم تضييعه لأوقاته وإنما كان يحرص على وقته ونفسه ويعلم أن كل لحظة تمضي من حياته يُنتقص من عمره ولذلك لم يضيع وقته سدى ولا هباءً ، كان يصلي العشاء ثم ينام نصف الليل ثم يقوم ثلث الليل ثم ينام السدس الأخير اقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وكان أكثر أيامه صائماً لله عز وجل يرجو رحمة الله وفضله وكان من بعد صلاة الفجر يجلس لإقراء القرآن وإقراء الحديث ويستمر على ذلك إلى ما بعد طلوع الشمس فإذا صلى الظهر استمر في التعليم والتدريس أو في نسخ الحديث والكتب إلى غروب الشمس وهو على هذه الحال إما أن يدرس وإما أن يكتب ، فإذا صلى المغرب فإن كان صائماً أفطر وإلا استمر في التدريس والتعليم ثم يصلي العشاء فيدخل إلى بيته فلا يختلط بأحد فينام إلى منتصف الليل وهكذا برنامجه
فهو قد وفقه الله لما علم من إخلاصه وتجرده ومثابرته على ما ينفعه في الدنيا والآخرة وحرصه على التزود من العلم النافع فقد كان يحفظ مئات الآلاف من الأحاديث ، ولما جاء رجل وقال : يا إمام إن رجلاً حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث فهل يحنث ؟ قال : لو حلف على أكثر من ذلك لكان غير حانث
فهذا يدل على أنه كان يحفظ مئات الألوف من الأحاديث ، حفظاً محرراً بمعرفة رجاله وفقهه ولغته وما يستنبط منه والخلافيات التي فيها وغير ذلك من العلوم المختلفة المتعلقة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم
هذا الإمام الجهبذ اشتغل بالعلم والتعليم وله مؤلفات عظيمة منها :
– [ الكمال في أسماء الرجال ] وهو أعظم كتاب في علم الرجال فقد ترجم فيه للمحدثين الذين روى عنهم الأئمة الستة [ البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة ]
– ومن هذه المؤلفات هذا الكتاب العظيم الذي بين أيدينا [ عمدة الأحكام ]
وليس المقصود أنه أحاط فيه بالأحكام كلها ولكنه مختصر فعدد أحاديثه أربعمائة وثلاثة وعشرون حديثاً ، ولكنه أورد في كل باب الأصل الذي يعتمد عليه في هذا الباب
فعمدة الأحكام كتاب محرر قد اختاره المؤلف – رحمه الله – اختيار عالم بصير بالعلم والفقه وموارد الاستنباط ، ولذلك اخترنا هذا الكتاب لهذه الأمور
وعمدة الأحكام له شروح كثيرة وموسعة ، ولكن أيسرها وأسهلها شرح الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام – رحمه الله – المسمى ( تيسير العلام شرح عمدة الأحكام )
والشيخ عبدالله البسام – رحمه الله – من العلماء المعاصرين وهو عالم متفنن فقيه ومفسر ومحدث وكان قاضياً وفي آخر حياته كان رئيس هيئة التمييز بمكة المكرمة وله عدة مؤلفات ومنها هذا الكتاب المبارك وهو فعلاً مُيَّسـر فليس فيه تعقيد فيذكر فيه المعنى اللغوي للحديث ثم المعنى الإجمالي ثم يذكر ما فيه من فوائد من غير دخول في الخلافيات ولا غيرها وأحياناً إذا كان الخلاف كبيراً يذكر طرف الخلاف ولا يتوسع فيه وهذا مناسب لحالنا نحن لأننا الآن نريد أن نتفقه في ديننا ونمشي رويداً رويدا
نسأل الله تعالى أن يجعل لنا فيه خيراً وبركة وأن ينفعنا به كما نفع به عباده الصالحين من قبلنا ، فإن العلماء وطلاب العلم أكبوا عليه تعلماً وتعليماً وتدريساً
والمطلوب منا جميعاً أن نراقب الله تعالى في أقوالنا وأعمالنا وحركاتنا وسكناتنا فإذا حصل هذا ووفق العبد إليه فهو قمة العلم وقمة الانتفاع بالعلم قال الله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر:28]
قال السلف – رحمهم الله – منهم عبدالله بن مسعود وغيره ، قالوا : من خشي الله فهو العالم
فحقيقة العلم ومقصوده أن تحصل للعبد الخشية من الله وأن يكون الله نصب عيني العبد وحاضراً في قلبه في كل لحظة وهو الإحسان : (( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ )) أخرجه البخاري برقم (50) وأخرجه مسلم برقم (9)
وهذا قمة الدين وخلاصته
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المحسنين
كتاب الطهارة
قال المؤلف – رحمه الله – :
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (( إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ – وَفِي رِوَايَةٍ : بِالنِّيَّةِ – وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى , فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا , فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ )) أخرجه البخاري ومسلم
بدأ المؤلف – رحمه الله – بهذا الحديث لأمرين :
الأمر الأول : الاقتداء بإمام الحديث وسيد الحفاظ وإمام المسلمين في زمانه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري – رحمه الله – فقد افتتح كتابه الصحيح بهذا الحديث مع أنه أورده في ستة مواضع بعد ذلك إلا أنه جعله في أول كتابه الصحيح ، لذلك العلماء من أمثال الحافظ عبدالغني – رحمه الله – يقتدون بالإمام البخاري
والاقتداء بالصالحين نور وبركة وخير فإذا كان ذكر الصالحين تتنزل عنده الرحمات فكيف بتقليد أعمالهم الصالحة ؟
لا شك أن في هذا بركة وخير وكذلك اعتراف من المتأخر بفضل المتقدم
الأمر الثاني : أن السلف – رحمهم الله – أطبقت عباراتهم جميعاً على تعظيم شأن هذا الحديث وعظيم منزلته في الدين والعلم ومن عباراتهم المتداولة أنه ينبغي على من ألف في العلم أن يجعل هذا الحديث في بداية كل باب لأن هذا الحديث يدخل في كل باب من أبوب العلم ، العلم الذي يولد العمل فأي علم يحتاج إلى أن يُذّكر الإنسان فيه بهذا الحديث لأن هذا الحديث أصل قبول الأعمـال عند الله عز وجل فلا أجر ولا ثواب إلا إذا حقق العبد الإخلاص لله تعالى في العمل الذي يعمله
فالدين قسمان متلازمان :
القسم الأول : الباطن وهو ما في القلوب وهذا القسم يبينه ويوضحه ويعالجه هذا الحديث ولذلك يهتم به العلماء كما سبق
القسم الثاني : الظاهر هو الذي يراه الناس جميعاً سواءً كان قولاً أم فعلاً ويبينه حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : (( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ )) متفق عليه [ البخاري برقم (2697) ومسلم برقم (1718) ]
وفي رواية لمسلم برقم (1718) : (( مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ))
وعند أبي داود برقم (4606) : (( مَنْ صَنَعَ … ))
ومن هذا نفهم قول الله تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]
قال السلف : إن العمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً صواباً :
والخالص هو : أن يكون لله تعالى لا رياء ولا سمعة ولا طلب محمدة عند الناس
والصواب : أن يكون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه
والنية الصالحة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها ثابت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فبالنية الصالحة يحصل المؤمن على أجر عمله الصالح وعلى تركه للعمل الفاسد
وبالنية الصالحة يثاب على المباحات فمن أكل مباحاً أو شرب مباحاً فنوى قربة إلى الله فإن الله يثيبه على إتيانه المباح مع استمتاعه به وكذلك قضاؤه شهوته فإذا نوى بذلك التقرب إلى الله فإنه يستمتع بشهوته ويكون له أجر وثواب قال صلى الله عليه وسلم : (( وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ )) قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ : (( أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ )) أخرجه مسلم برقم (1006)
بل أعجب من ذلك أنه يُثاب على العمل الصالح إذا قصده ونواه حتى ولو لم يعمله والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد في المسند برقم (18031) (29/561-562) طبعة الرسالة في أثناء حديث طويل وأخرجه قبل ذلك من طرق أخرى مختصراً على القدر المذكور هنا باختلاف يسير برقم (18024) (29/552) طبعة الرسالة :
عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ : عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حَقَّهُ ، قَالَ : فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ ، قَالَ : وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا قَالَ : فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ، قَالَ : فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ، قَالَ : وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ ، قَالَ : وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ ، قَالَ : هِيَ نِيَّتُهُ فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ ))
فنية العبد الصالحة تنفعه وإن لم يعمل ولذلك ورد : [ نية المؤمن خير من عمله]
للنية مرتبتان :
المرتبة الأولى : نية العمل بأن يكون العمل خالصاً لله عز وجل فيبتغي به وجه الله والدار الآخرة فلا رياء ولا سمعة ، فالناس يعملون نفس العمل كالصلاة مثلاً ثم يتفاوتون في الأجر تفاوتاً لا يعلمه إلا الله بسبب تحقق الإخلاص فإن المصلي إذا كان دافعه إلى العمل الناس ونظرهم إليه فعمله باطل وهذا غالباً لا يصدر من مسلم وإن طرأ عليه في أثناء العمل فإن دافعه وكره ذلك الوارد فإنه يثاب ثواب المجاهدين وينال حظاً من قول الله تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت :69]
وإن استسلم له فإن كان من أول العمل فإنه يحبطه ويبطله وإن كان في أثناء العمل فقد اختلف العلماء : هل يبطل العمل كله أم ينقص على قدر ما تحقق الرياء فالله المستعان
المرتبة الثانية : التفريق بين الأعمال فيفرق بين العبادات بعضها من بعض كالتفريق بين صلاة الظهر وصلاة العصر والتفريق بين العبادات والعادات كالتفريق بين غسل الجنابة وغسل التبرد والتنظف
– ما المقصود بالنية ؟ وهل يجوز التلفظ بها ؟
حقيقة النية في الشرع قصد القلب وليس المقصود من النية أن يعذب الإنسان نفسه فلا يحتاج أن يتكلف العبد فيها كما يفعل البعض من التلفظ بها عند إرادة الصلاة والبعض يكبر ثم يعيد التكبير مرة ومرتين وثلاث كل ذلك بسبب تشديده على نفسه في أمر النية إذ التلفظ بالنية بدعة لا يجوز ولو قال به بعض العلماء فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
وأما الهجرة فقد كانت في أول الإسلام فرض وذلك لشدة الكفر وأهله على المسلمين حتى فتنوا بعضهم عن دينه فأوجب الله الهجرة من مكة إلى المدينة حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ثم لما فُتحت مكة انتهت فريضة الهجرة من مكة وبقيت في حق من أسلم في دار الكفر ولا يستطيع إظهار دينه وعبادة ربه فيجب عليه أن يهاجر إلى بلاد المسلمين وكذلك من كان في بلاد يحكمها أهل البدع ولا يستطيع العمل بالسنة فيجب عليه أن يهاجر إلى بلاد السنة
وقد تنوعت هجرة المسلمين على مراحل فمنها :
– هجرة من كان يؤذى إلى الحبشة فراراً بدينهم
– هجرتهم إلى المدينة
– هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقهوا في الدين
– هجرة ما نهى الله عنه وهذه لا ينفك المسلم عنها إلا بالموت
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا فالمقصود بالدنيا هنا حصول ما يطلب الإنسان من الدنيا من مال وغيره وهذا أكثر ما يدعو الناس إلى مفارقة أوطانهم
وذكر المرأة وهي من الدنيا التي يطلبها الناس ويهاجرون من أجلها لأنها أعظم متاع الدنيا وأكبر ما يحرص الإنسان على تحصيله
وقد قيل إن السبب في ذكر المرأة خصوصاً ما حصل من أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من أهـل المدينة فـشرطت عليه أن يهاجر فـهاجر فتزوجته وكان اسم المرأة أم قيس فكان يقال له : مهاجر أم قيس
والقصة صحيحة أخرجها الطبراني وغيره ولكن لم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحديث بسبب هذه الحادثة
وقد أراد أبو طلحة قبل إسلامه أن يتزوج أم سليم فشرطت عليه أن يُسلم فأسلم فتزوجته ولم يكن بذلك بأس
الحديث الثاني
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ ))
– أخرجه البخاري برقم (6954) في كتاب : الحيل باب : في الصلاة
– ومسلم برقم (225) في كتاب : الطهارة باب : وجوب الطهارة للصلاة وهذا لفظ البخاري
– وفي رواية : قال رجل من حضرموت : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : فساءٌ أو ضراط
– راوي الحديث :
هو الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه وقد اختلف في اسمه على خمسين قول وأرجحها أن اسمه [ عبدالرحمن بن صخر ] وهو دوسي أزدي من زهران
أسلم ووفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح خيبر فمنذ ذلك الوقت وهو ملازم للنبي صلى الله عليه وسلم إن جاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاع معه وإن شبع شبعَ معه حتى قال عن نفسه : لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً عليَّ من الجوع فيمر الرجل فيجلس على صدري فأرفع رأسي فأقول : ليس الذي ترى إنما هو الجوع
وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه من أهل الصفة وهم قوم من المسلمين ليس لهم أهل ولا مال يفدون إلى المدينة فينزلون في الصفة بالمسجد فإذا جاء للنبي صلى الله عليه وسلم شيء من الصدقة يرسلها لهم ولا يأخذ منها شيء فلم يكن يأكل الصدقة وإذا جاءته هدية أشركهم فيها وقيل أن أبا هريرة رضي الله عنه كان عريف أهل الصفة ، وقد لازم النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه الحديث فكان من أحفظ الناس بل كان أحفظ الصحابة رضوان الله عليهم ولذلك سبب فقد أخرج البخاري في صحيحه باب : حفظ العلم برقم (119) عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثاً كَثِيراً أَنْسَاهُ ؟ قَالَ : (( ابْسُطْ رِدَاءَكَ )) فَبَسَطْتُهُ قَالَ : فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : (( ضُمَّهُ )) فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئاً بَعْدَهُ
وفي رواية أنه حدّث ثم قال : (( أضْمم رِدَاءَكَ )) قال : فما نسيت بعد شيئاً
وقد ورد عنه أنه قال : ( مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثاً عَنْهُ مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ ) أخرجه البخاري في كتاب : العلم باب : كتابة العلم برقم (113)
فهل قال هذا على التحقيق أم على سبيل التواضع ؟
يحتمل أن يكون عبدالله بن عمرو من حيث الرواية أكثر ولكنه لم يحدث مثلما حدث أبو هريرة رضي الله عنه لأسباب مختلفة
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه بعض الصحابة كثرة الحديث فقَالَ : إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا وأصلحوا وبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ علَيْهِمْ وَأَنا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160-161]
إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لازم المدينة ولم ينتقل منها ولذلك كثرت الرواية عنه لأن المدينة كانت مأوى ومأرز للناس يفدون إليها فكان يجلس ويحدث الناس حتى قيل أن عدد من روى عنه أكثر من ثمانمائة شخص فهو من علماء الصحابة وفقهائهم وقد كان يفتي في زمن الكبار أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً
وكان أبو هريرة رضي الله عنه متواضعاً ومن ذلك أنه كان يُستخلَف على المدينة ، فيأتي بحزّمة الحطب على ظهره فيشق السوق ، وهو يقول : [ جاء الأمير ، جاء الأمير ] وفي رواية : [ طرِّقوا للأمير ] حتى ينظر الناس إليه
وكان أبو هريرة رضي الله عنه كثير العبادة قال أحد التابعين : ضفت أبا هريرة سبع ليالي فكان يقسم الليل بينه وبين زوجته وخادمه فكان كل واحد منهم يقوم ثلثاً ثم يوقظ الآخر
وكان كثير الصيام والتسبيح يسبح في اليوم الواحد اثني عشر ألف مرة
وقد ماتت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حياته فصلى عليها ، وفي قول أن أم سلمة رضي الله عنها كذلك ماتت في حياته فصلى عليها
وأما وفاته فقد توفي رضي الله عنه عام 59 للجرة وقد كان يقول : [ تعوذوا بالله من رأس الستين ومن إمارة الصبيان ] مسند الإمام أحمد (2/326 – الطبعة القديمة )
فتوفاه الله قبل أن يبلغ الستين لأن سنة الستين كانت سنة فتن عظيمة وفيها قتل الحسين بن علي رضي الله عنه وحصل فيها فتن كثيرة بين المسلمين
ولا حول ولا قوة إلا بالله
الفوائد والأحكام :
– قوله صلى الله عليه وسلم : (( لَا يَقْبَلُ اللهُ … )) أي أن هذه الصلاة لا ثواب فيها ولا أجر ، والشيخ – رحمه الله – فسر القبول بعدم صحة الصلاة ، فهل هناك تلازم بين الصحة والقبول ؟ أم أن أحدهما أخص من الآخر ؟
لا شك أن الصلاة إذا كانت مقبولة فهي صحيحة ولكن هل كل صلاة صحيحة تكون مقبولة ؟ هنا النظر ، فهل نقصد بالصحة ما ورد من صفة الصلاة فيما يظهر للناس أم المقصود بالصحة ما عند الله ؟
إذا كانت بالنسبة لما عند الله فلا شك أن المراد بالصحة القبول
وأما إذا كانت الصحة على حسب الأحكام الدنيوية فلا تكون الصحة ملازمة للقبول فقد تكون صحيحة فيما يظهر للناس أو فيما يظهر للمصلي ولكنها غير مقبولة مثال ذلك : من صلى ووضوءه ناقص نقصاً غير ظاهر فظاهرها الصحة بالنسبة لنا ، وأما بالنسبة لما عند الله فليست بصحيحة ولا مقبولة لأنها ناقصة
ومثال آخر : من صلى وهو مكمل للطهارة والشروط والأركان ولكنه لم يخشع في صلاته أي لم يكن حاضر القلب قال صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلاَّ عُشْرُ صَلاَتِهِ تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا )) أخرجه أبو داود برقم (796)
وقد ورد : (( لَيْسَ لِلْمَرْءِ مِنْ صَلاَتِهِ إلاّ مَا عَقَلَ مِنْهَا )) أي : ما حضـر فيها عقله وقلبه وقد يأتي وقت لا تقبل الصلاة بالكلية بسبب عدم حضور القلب أو من أخل بالطمأنينة كالمسيء صلاته فإنه في نفسه قد صلى صلاة صحيحة ولكن بيّن النبي صلى الله عليه وسلم بطلان صلاته
فالصحة والقبول بينهما عموم وخصوص ، أي أن القبول أخص من الصحة فقد تكون الصلاة صحيحة فيما يظهر ولكنها غير مقبولة أما إذا كانت مقبولة فلابد أن تكون صحيحة
– قوله صلى الله عليه وسلم : (( … صَلَاةَ أَحَدِكُمْ … )) هذا الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم ليس خاصاً بمن كان يسمعه بل هو خطاب للأمة كلها الرجال والنساء الصغار والكبار لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشرع فخطابه للواحد خطاب للأمة كلها حتى لو كلم شخصاً بعينه فكلامه له تشريع للأمة إلا إذا بين أن هذا خاص بهذا الإنسان
– قوله صلى الله عليه وسلم : (( …. إِذَا أَحَدَثَ ….. )) في رواية مسلم : أن رجلاً من حضرموت سأل أبا هريرة رضي الله عنه فقال : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : ( فساءٌ أو ضراط )
فلماذا قال : فساء أو ضراط ؟
الجواب : أن هذا يحتمل عدة معاني :
– إما أنه ذكره لأنه خفي في الغالب
– وإما لأنه قد يخرج من الإنسان وهو في الصلاة بعكس الأحداث الأخرى
– وإما لأن بعض الناس يظن أن هذا ليس بحدث فليس ببول ولا غائط والدليل على هذا ما رواه الإمام أحمد عن عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَكُونُ بِالْبَادِيَةِ فَتَخْرُجُ مِنْ أَحَدِنَا الرُّوَيْحَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ … ))
وفي رواية : (( إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ ))
الحدث هو : ما ينقض الوضوء وهو نوعان :
أ- النوع الأول : الحدث الأكبر وهو الذي يوجب الغسل وهو قسمان :
– قسم خاص بالنساء وهو : الحيض والنفاس
– وقسم مشترك بين الرجال والنساء وهي : الجنابة ولها أسباب :
– السبب الأول من أسباب الجنابة : الجماع أي : جماع الرجل زوجته وذلك بمجرد إدخال الذكر في الفرج حتى تغيب الحشفة فهذا يوجب الغسل على الرجل والمرأة لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ )) أخرجه البخاري برقم (291)
وفي حديث آخر قال : (( إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ )) أخرجه الترمذي برقم (109)
وهذا ليس خاصاً بالحلال فقد يجاوز الخِتان الختان بالحرام – أعاذنا الله وإياكم – فهو أيضاً مما يوجب الغسل وإن كان حراماً
– السبب الثاني من أسباب الجنابة : الاحتلام فإذا احتلم المسلم رجلاً كان أو امرأة وجب عليه الاغتسال إذا رأى المني حتى لو لم يذكر الاحتلام
والدليل على أن الاحتلام يوجب الغسل : أن أم سليم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ قال : (( نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ )) أي : المني . أخرجه البخاري برقم (282)
أما خروج المني حال اليقظة فلا يوجب الغسل إلا إذا خرج دفقاً بلذة
أما إذا خرج بدون دفق ولذة فلا يوجب الغسل بل يوجب الوضوء
ب- النوع الثاني مما ينقض الوضوء : الحدث الأصغر وهو الذي يوجب الوضوء وهو الخارج من أحد السبيلين وهذا أمر متفق عليه بين العلماء ويدل عليه القرآن والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم
وهناك أشياء مختلف فيها وهي كثيرة :
– خروج الدم من غير السبيلين
– أكل لحم الجزور
– خروج الدم من الأنف [ الرعاف ]
– مس المرأة بشهوة
– خروج الطعام والشراب من المعدة [ القيء ]
– الردة عن الإسلام
– زوال العقل بنوم أو غيره
– مس الفرج
فما الذي يوجب الوضوء منها ؟
أبو هريرة رضي الله عنه لما فسر الحدث بالفساء والضراط كأنه حصر الحدث في الخارج من السبيلين وهذا الذي فهمه الإمام البخاري فبوب في صحيحه باب : مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ
ولكن هذا ليس على إطلاقه فالشيء المنصوص عليه يخرج بدليله
وما لم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو على الأصل في عدم نقضه للوضوء
– فالدم الخارج من البدن من غير السبيلين :
الأحاديث والآثار الواردة فيه تدل على أنه ليس بنجس وأنه لا ينقض الوضوء ومن ذلك : قصة الصحابي الذي كان يحرس الجيش في إحدى الغزوات فرماه طليعة المشركين بثلاثة أسهم فكان ينزعها ويمضي في صلاته ولما أيقظ صاحبه وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لم يقل أن صلاته بطلت بسبب خروج الدم
فلو أن الدم ينقض الوضوء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مـُشرّع والنبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت على شيء فيه مخالفة
وخاصة والناس يتعرضون كثيراً لمثل ما تعرض له ذلك الصحابي رضي الله عنهم جميعاً ولذلك بوب الإمام البخاري بقوله : وكان المسلمون يصلون في جراحاتهم
ولم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بغسل الدم من أجل الصلاة ولا قال لهم إن هذا حدث ينقض الوضوء ولا أن هذا الدم نجس فيجب أن يغسلوا منه أبدانهم وملابسهم وترك البيان عند الحاجة لا يجوز
– وأكل لحم الجزور :
قال الإمام أحمد وغيره : صح فيه حديثان ولذلك أخذ به الإمام أحمد
وأما الشافعي وجمهور العلماء فلم يأخذوا بهذا الحديث
ولكن البيهقي وهو عالم من علماء الشافعية قال : مذهب الشافعي الوضوء من لحوم الإبل لأن الشافعي قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في الوضوء من أكل لحوم الإبل فلازم هذا أن يكون الوضوء من لحوم الإبل مذهب للشافعي وهذا غاية الإنصاف
– وأما [ الرعاف ]
فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ من الرعاف وما ورد عن بعض الصحابة محمول على غسل الدم وليس الوضوء المعتاد
– [ والقيء ] فيه حديث ولكنه لا يصح
– وأما مس المرأة بشهوة فلا ينقض الوضوء
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ فيقبل بعض نسائه ثم يخرج إلى الصلاة ولا يعيد الوضوء
قد يقول قائل : أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فما جواب ذلك ؟
والجواب : أنه لابد من الدليل على أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فالأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم مشرع للأمة فما هو خاص به يبينه عليه الصلاة والسلام أو ينزل القرآن يبين أن هذا خاص به فإذا لم يرد دليل على التخصيص فكيف نعرف هذا ؟
قد يقول قائل : أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قبل زوجته بشهوة فما جواب ذلك ؟
والجواب : ما من رجل يقبل زوجته إلا بشهوة هذا هو الأصل ولا يُنتقل عنه إلا بدليل
ويستدل من يقول أن مس المرأة ينقض الوضوء بقول الله تبارك وتعالى : {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]
والصحيح أن المراد بالملامسة هنا [ الجماع ] كما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن الله بين أن حكمها الغسل ومعلوم أن المس لا يوجب الغسل فأي ملامسة أو مس في القرآن فالمقصود به الجماع
– تنبيه : هناك خلاف يسير في مسألة خروج الدود أو الشعر من الدبر هل ينقض الوضوء أم لا ؟
قال بعض العلماء : لا ينقض الوضوء
والصحيح : أن أي شيء يخرج من دبر أو قبل الرجل أو المرأة فهو حدث قد يوجب الغسل وقد يوجب الوضوء
– والردة عن الإسلام تنقض الوضوء
– وأما زوال العقل بنوم أو غيره فإنه ينقض الوضوء بالإجماع
– ومس الفرج ينقض الوضوء لحديث بسرة بنت صفوان وغيرها
– يخرج من قبل الرجل أربعة أشياء :
– المني : وقد سبق بيان حكمه
– المذي : وهو يوجب الوضوء وغسل الأنثيين [الخصيتين] لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن المذي قال : (( ………. فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَكَ وَأُنْثَيَيْكَ … )) أخرجه أبو داود برقم (211)
والحكمة من غسل الأنثيين هو لتبريد الخصيتين لأن المذي نتيجة تفاعل الإنسان وتحرك شهوته فالماء يساعد على توقف سيلان المذي
– الودي : ويخرج بعد البول وهو يوجب الوضوء فقط
– البول : وهو يوجب الوضوء
وجميعها نجسة إلا المني فإنه طاهر
– ويخرج من فرج المرأة :
– دم الحيض ودم النفاس وهما يوجبان الغسل
– رطوبات فرج المرأة وهي مادة سائلة تخرج من فرج المرأة نتيجة تفاعلات في الرحم أو في المهبل وقد اختلف العلماء فيها هل هي طاهرة أم نجسة ؟
والصحيح أنها نجسة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي )) أخرجه مسلم برقم (346)
فالذي أصابه منها هي هذه الرطوبات
– البول وهو يوجب الوضوء
– المذي
– والمني
– وأما الودي فلا يخرج من المرأة
قوله صلى الله عليه وسلم : (( … حَتَّى يَتَوَضَّأَ )) [ حتى ] هذه لانتهاء الغاية أي ينتهي المنع من الصلاة إلى الوضوء فما بعد [ حتى ] يختلف عما قبلها فإذا توضأ انتقل من الحدث إلى الطهارة ونستفيد من هذا :
– أنه إذا توضأ جاز له أن يصلي بهذا الوضوء أي صلاة سواءً كانت صلاة نافلة أو صلاة فريضة أداءً أو قضاءً وسواءً كانت صلاة واحدة أو أكثر فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم للحدث غاية ينتهي إليها وهي الوضوء
– أن في هذا رد على الذين قالوا : لا يصلي بالوضوء إلا صلاة واحدة وعلى القائلين : أنه لا يصلي بهذا الوضوء إلا ما نوى فإن نوى نافلة فلا يجوز له أن يصلي به الفريضة
قوله صلى الله عليه وسلم : (( … حَتَّى يَتَوَضَّأَ )) :
الوضوء : معناه من الوضاءة وهي النظافة لأن الوضوء ينظف أعضاء المسلم نظافة حسية
والأمر الآخر وهو الأهم ما يحصل للمسلم من النظافة المعنوية كما ورد في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث : عبد الله الصنابحي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ )) أخرجه مسلم برقم (244)
قال : (( ثُمَّ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلاَتُهُ نَافِلَةً لَهُ )) أخرجه النسائي برقم (103)
والوضوء ورد ذكره في القرآن الكريم قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]
فقد جعل الله الوضوء شرطاً لصحة الصلاة فــ ( إِذَا ) هنا أداة شرط فإذا لم يتم الشرط لا يتم المشروط
[ والشرط : ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من جوده وجود ولا عدم لذاته ]
أن هذا الوضوء بهذه الصفة خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم والدليل ما رواه الإمام مسلم في صحيحه برقم (247) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : (( تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ )) قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا ؟ قَالَ : (( نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلَا يَصِلُونَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِي فَيُجِيبُنِي مَلَكٌ فَيَقُولُ : وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ؟ ))
– حصل خلاف في مسألة وهي : إذا أحدث وهو في الصلاة فكيف يفعل ؟
قال الشافعي ومالك : يذهب يتوضأ ثم يعود ويكمل صلاته
وهذا ليس بصحيح بل هو باطل ودليل بطلانه قوله صلى الله عليه وسلم : (( …. إِذَا أَحَدَثَ )) فإذا أحدث فقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم صلاته بالحدث
والدليل الآخر قوله صلى الله عليه وسلم : (( … لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا )) أخرجه البخاري برقم (177) ومسلم برقم (316)
فعلق الانصراف من الصلاة بالحدث
– قوله صلى الله عليه وسلم : (( … لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا )) هل المقصود السماع أو الشم بذاته أم المقصود اليقين ؟
الجواب : المقصود التيقن فإذا تيقن الحدث وجب عليه الانصراف من الصلاة
– من أحدث بغير اختياره هل يستمر في صلاته ؟
الجواب : يجب عليه أن ينصرف فوراً ولو كان إماماً للناس ولو قبل السلام بلحظة ولو سلم التسليمة الأولى فأحدث فإنه ينصرف
– من صلى وهو يعلم أنه محدث ، فما الحكم ؟
الجواب : اختلف العلماء هل هو كافر أم لا ؟
– فعند الإمام أبي حنيفة : أنه كافر لأنه مستهزئ بالله تعالى
– وعند جمهور العلماء : أنه ليس بكافر ولكنه على خطر عظيم
– واختار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : إن كان مستحلاً لهذا فهو كافر وإن لم يكن مستحلاً له فيؤدب تأديباً بليغاً
– قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( … حَتَّى يَتَوَضَّأَ )) الأصل في الوضوء هو استعمال الماء فإذا لم يجد الماء أو عجز عن استعماله أو كان الماء يضره فإنه ينتقل إلى البدل وهو التيمم قال تعالى : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43]
وقال صلى الله عليه وسلم : (( الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ … )) أخرجه الإمام أحمد
– من لم يجد الماء ولا استطاع استعمال الصعيد فماذا يفعل ؟
الجواب : يصلي على حاله مثل الـمقيد الذي قُيدت يداه ورجلاه فـهذا يُـسمـى : [ فاقد الطهورين ] فهذا يصلي على حالته التي هو عليها ومثله المريض العاجز عن الحركة وليس له من يعينه فإنه يصلي على حاله
الحديث الثالث
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم قَالُوا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ ))
رواة الحديث :
أما عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فهو صحابي جليل من المكثرين من حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى قيل أنه أحفظ من أبي هريرة رضي الله عنه وقد أُخذ من قول أبي هريرة رضي الله عنه : ( مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثاً عَنْهُ مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ )
فمن هنا قال بعض أهل العلم أن عبدالله بن عمرو أكثر حفظاً من أبي هريرة
ولكن الرواية لأبي هريرة أكثر من الرواية لعبدالله بن عمرو العاص فقد نُقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أكثر من خمسة آلاف حديث بينما لم يُذكر لعبدالله بن عمرو إلا سبعمائة حديث فمن هنا حصل الخلاف أيهما أكثر
والمقصود أن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان من المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يكتب من النبي صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى اعترضت عليه قريش وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب والرضا وعبدالله بن عمرو يكتب كل ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : (( اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا حَقٌّ )) رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه الألباني ، فكان يكتب كل ما يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسلم عبدالله بن عمرو صغيراً حتى قيل أنه أسلم قبل أبيه فقد أسلم وعمره عشـر سنوات ولازم النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته مع أبيه وكان من كبار علماء الصحابة وأجلتهم وفي نفس الوقت كان من المكثرين من العبادة فقد كان يصوم الدهر ويقوم الليل ويقرأ القرآن في ليلة لأنه حفظه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( اقْرَأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ )) قَالَ : إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : (( اقْرَأْهُ فِي كُلِّ ثَلاَثٍ )) أخرجه الإمام أحمد
فدل هذا على أن القرآن لا يُقرأ في أقل من ثلاث ومن قرأه في أقل من ثلاث فإنه لا يفقهه
ولما قال رجل لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ المفصل في ليلة قال : هذاً كهذ الشعر ، فالقرآن يُقرأ بترتيل وتدبر كما أمر الله عز وجل حتى ينتفع به القارئ وتحصل الفائدة التي نزل القرآن من أجلها وهي هداية القلوب وانشراح الصدور وزيادة اليقين ورفعة الإيمان
ومن كثرة عبادة عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما شكاه أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال عبدالله بن عمرو : زَوَّجَنِي أَبِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيَّ جَعَلْتُ لَا أَنْحَاشُ لَهَا مِمَّا بِي مِنْ الْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، فَجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى كَنَّتِهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهَا : كَيْفَ وَجَدْتِ بَعْلَكِ ؟ قَالَتْ : خَيْرَ الرِّجَالِ لَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا وَلَمْ يَعْرِفْ لَنَا فِرَاشًا ، قال : فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَعَضَّنِي بِلِسَانِهِ ثم قَالَ : أَنْكَحْتُكَ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَعَضَلْتَهَا وَفَعَلْتَ ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَطَلَبنِي فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ لِي : (( أَتَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ ؟ )) قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : (( لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَمَسُّ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)) أخرجه الإمام أحمد
وفي الصيام رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى صيام داود عليه الصلاة والسلام وهو صيام يوم وإفطار يوم فقال : إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : (( لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ )) أخرجه البخاري برقم (1976)
فدل هذا على أن صيام أكثر من يوم بعد يوم لا يسوغ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لأن ذلك يؤدي إلى أن يأتي وقت من الأوقات فينقطع الإنسان وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب لأمته وأصحابه من بعده أن يداوموا على العمل إذا عملوه
وفي قيام الليل رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام داود عليه الصلاة والسلام فقد كان ينام نصف الليل ثم يقوم ثلثه ثم ينام سدسه لِيُجم نفسه ويعطي زوجته حقها ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا : (( وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا )) أخرجه البخاري برقم (1975)
وعبدالله بن عمرو بن العاص من علماء الصحابة ومن المفتين وقد أخذ زاملتين من كتب أهل الكتاب بعد معركة اليرموك وربما حدث منها ولذلك يحتاط العلماء في الأخبار التي يرويها عبدالله بن عمرو بن العاص ليست بمسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لاحتمال أن تكون من الإسرائيليات التي أخذها من تلك الزاملتين ولذلك بعض العلماء تجده يقول : ربما كان هذا من الزاملتين
وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُطيع أباه ولذلك لما جاءت الفتنة بين الصحابة رضوان الله عليهم أحب أن يعتزلها ولكن أباه أمره بالمشاركة في حرب صفين وقد كان مع جيش معاوية رضي الله عنهم جميعاً ولما جاء قاتل عمار برأس عمار رضي الله عنه ونافسه فيه آخر كل منهما يقول أنا قتلته ، قال عبدالله بن عمرو بن العاص : فلتطب نفس أحدكما للآخر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن عمار : (( تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ )) فقال معاوية : فلم تشاركنا ؟ قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أطيع أبي . أخرجه البخاري برقم (447)
وأما مشاركته في هذه الحرب فقد كانت بمسكه للراية ولم يجرد سيفاً ثم ندم على هذه المشاركة طيلة حياته إلى أن توفاه الله رضي الله عنه
عاش عبدالله بن عمرو رضي الله عنه كريماً عالماً معلماً للخير وقيل أنه توفي رضي الله عنه في سنة ثلاث وستين من الهجرة ودفن في مصر رضي الله عنه وأرضاه
أما أبو هريرة رضي الله عنه فقد سبقت ترجمته وأما عائشة رضي الله عنها فستأتي ترجمتها قريباً إن شاء الله
هذا الحديث له سبب ففي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص قال : تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سَفْرَةٍ سافرناها فأدركنا – وقد أرهقتنا الصلاة – ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أَرْجُلنَا فَنَادَى بأعلى صوته : (( وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) مرتين أو ثلاثاً . أخرجه البخاري في كتاب : العلم ، باب : من رفع صوته بالعلم برقم (60)
وفي رواية عند مسلم برقم (241) : رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماءٍ بالطريق تعجل قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عجال فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ))
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لم يغسل عقبه فقال : (( وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) أخرجه مسلم في باب : وجوب غسل الرجلين بكمالهما برقم (242)
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد دخل عليها عبدالرحمن بن أبي بكر يوم توفي سعد بن أبي وقاص فتوضأ عندها فقالت : يا عبدالرحمن أسبغ الوضوء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) أخرجه مسلم برقم (240)
وهذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم متواتر فقد رواه غير هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلٌ )) كلمة تستعمل للوعيد والتهديد وهي بمعنى الهلاك أي أصابه الهلاك ، وقد ورد في صحيح ابن حبان بإسناد اختلف فيه العلماء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِى بِهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَها ))
نسأل الله السلامة والعافية
استدل العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلٌ )) على أن إهمال العقب أو غيره من أعضاء الوضوء من كبائر الذنوب وأنه سببٌ في دخول النار وحصول العذاب أجارنا الله وإياكم من النار
قوله صلى الله عليه وسلم : (( لِلأعْقَابِ )) العقب هو مؤخرة القدم وخصه بالذكر لأنه يفوت في الغالب فليس أمام العين وربما قصرت اليد عنه
وهذا الحكم ليس خاصاً بالقدم بل أي عضو من أعضاء الوضوء يحصل فيه خلل فإن صاحبه معرض للعقوبة من الله عز وجل ، ومن ذلك أنه ورد الوعيد على ترك تخليل الأصابع فقد صح عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم منهم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وغيره أن الأصابع إذا لم تخلل فإنها تخللها النار – أجارنا الله وإياكم من النار – وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلْ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ )) أخرجه أبو داود برقم (142) والترمذي برقم (39) وابن ماجة برقم (447) وحسنه البخاري
وفي حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : (( أَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ …. )) الحديث أخرجه الأربعة وقد بوب البخاري قال : باب : غسل الأعقاب … ثم قال : وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ ثم ذكر الحديث
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته كما هو ثابت عنه عليه الصلاة والسلام وقوله صلى الله عليه وسلم في روايات هذا الحديث المختلفة : (( أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ )) الإسباغ هو تكميل العضو فإذا كان مغسولاً فإنه يعمم بالغسل ويصل الغسل إلى ما يجب غسله فرضاً وإذا كان من الممسوحات فإنه يعمم بالمسح جميع العضو كمسح الرأس أو مسح الجبيرة أو غيرها مما يمسح
أما الجورب والخف فقد وردت صفة مسحه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه أنه يمسح ظاهره ولذلك قال عليٌّ رضي الله عنه : (( لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْي لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاَهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ )) أخرجه أبو داود برقم (162) وصححه في التلخيص وحسنه في البلوغ
وذكره صلى الله عليه وسلم للعقب يدل على أن القدمين يغسلان فغسل القدمين هو فرض الله تعالى وهو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المتواترة وأما مسح القدمين من غير حائل فهذا مذهب شاذ لا يقول به الآن إلا الرافضة
وقد حصل خلاف في هذه المسألة في عهد السلف ، سبب هذا الخلاف الاختلاف في قراءة آية الوضوء وهي وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]
ففيها قراءتان :
– فمن قرأ الآية بالنصب : {وأرجلَكُمْ } قالوا : أن الأرجل معطوفة على ما قبل الرأس وهو اليدين وهي مغسولة فيكون حكم القدمين الغسل
– ومن قرأ الآية بالجر [ وهي قراءة سبعية ] : {وأرجلِكُمْ} قالوا : أن الأرجل معطوفة على الرأس والرأس ممسوحة فيكون حكم الرجل المسح
ولكن هذا الخلاف انقرض لأن الذين كانوا يقولون به من الصحابة رجعوا ولذلك يقول ابن أبي ليلى – رحمه الله – : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين
أما إذا كانت القدمان في خف أو جورب فإنها تمسح وبالتالي تبقى قراءة الجر : {وأرجلِكُمْ} لمن مسح على الخف أو الجورب
وتبقى قراءة النصب : {وأرجلَكُمْ } على من لم يكن على قدميه خف ولا جورب فإن فرضه أن يغسل القدمين
أما الرافضة فلا يُعتد بهم في الخلاف لا في الأصول ولا في الفروع لأنهم ليسوا من المسلمين ولكن بعض العلماء يذكر خلافهم ربما لكثرة ابتلاء الناس بهم في هذا الزمان
وقد قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : هم أجهل الناس بالسمعيات وأضل الناس في العقليات . انتهى
فلا عقل ولا دين نسأل الله السلامة والعافية
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في غسل القدمين أن يرفع عن الكعبين قليلاً حتى يشرع في الساق وذلك لاستكمال الكعبين اللذين هما غاية الوضوء وهما داخلان فيه ، وكذلك بالنسبة للمرفق مرفق اليد يغسله صلى الله عليه وسلم ويدير الماء على مرفقيه حتى يشرع في العضد وذلك ليستكمل غسل ما وجب غسله وهذا من الإسباغ الذي أَمرنا به صلى الله عليه وسلم
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ )) هذا يدل على أن من ترك شيئاً من أعضاء الوضوء فإنه معرض للعقوبة
وهذا يدعونا إلى أن نتأمل في مسألة ابتلي بها النساء في هذا العصر وهي ما يسمى [المناكير] أو غيرها مما يحجب الماء عن الوصول إلى ما يجب غسله وهذا يعني أن أكثر النساء لا تُقبل لهن صلاة ولذلك ترى الخلل والقصور في حياة هؤلاء النساء من المخالفات الشـرعية وارتكاب المنكرات والسبب هو إخلالهن بالطهارة وبالتالي اختلت الصلاة فبطلت ولم تصح ففي حديث عمر بن الخطاب وأنس بن مالك رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً وفي ظهر قدمه لمعة مثل الظفر لم يصبها الماء قال : (( ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ )) أخرجه أبو داود برقم (173) فرجع فتوضأ وأعاد الصلاة
ومعنى هذا أن الصلاة لا تصح بهذا الخلل ولو كان بمقدار الظفر
فكيف بالأظافر كلها إذا كان عليها هذا الطلاء المسمى [المناكير] ؟
من باب أولى أنها لا تُقبل ولا حول ولا قوة إلا بالله
ومما يفيده هذا الحديث :
– أن العذاب يوم القيامة يقع على الجسد والروح
– ويفيد أيضاً وجوب تعليم الجاهل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفع الصوت بذلك عند الحاجة
الحديث الرابع
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : (( إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً , ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ , وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ , وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ ثَلاثاً ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ))
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : (( فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخَرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ ))
وَفِي لَفْظٍ : (( مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ ))
– أولاً : هذا الحديث له روايات مختلفة فرواياته عند البخاري :
– أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذَا تَوَضَّأ أحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أنْفِهِ مَاءً ثم لِيَنْثُرْ )) فلم يذكر الماء لدلالة الكلام عليه وذلك أن قوله : (( إذَا تَوَضَّأ )) معناه : إذا استعمل الماء أو إذا فعل الوضوء وكلاهما يدل على الماء
وأيضاً فقد ذُكر في روايات أخرى والروايات يفسـر بعضها بعضاً : (( وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ ))
فلم يذكر الإناء : (( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَات يَدُه ))
– وعند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ))
وفي روايـة لـمسلم قال : (( يَغْسِلَهَا )) ولم يذكر ثلاثاً
فلم يذكر مسلم في روايته لهذا الحديث الاستنثار ولا الاستجمار
– عند البخاري برقم (161) ومسلم برقم (237) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ )) فهذا الحديث ليس فيه ذكر لغسل اليد إذا استيقظ من النوم
– وفي رواية عند مسلم : (( إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ وِتْرًا وَإِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ )) هذه الرواية الثانية عند مسلم التي فيها ذكر الاستنثار مع الاستجمار ولكن ليس فيها غسل اليدين عند الاستيقاظ
– وفي رواية : (( إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ ))
– وفي رواية عند أبي داود برقم (103) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ ))
الفوائد والأحكام
هذا الحديث اشتمل على عدة قضايا :
– الأولى : قوله صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيَسْتَنْثِرْ )) الاستنثار والاستنشاق روي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم
قال ابن عبد البر – صاحب كتاب التمهيد – رحمه الله – : هذا أبين حديث في الاستنشاق والاستنثار وأصحها إسناداً
يعني حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإلا فقد صح بهذا الحديث عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم وهي في الصحيحين
قال ابن عبد البر – رحمه الله – : أجمع المسلمون على أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء وكذلك المضمضة ومسح الأذنين
وفي كلام ابن عبد البر – رحمه الله – فائدة وهي : أن على طالب العلم أن يتعرف على لغة العلماء واصطلاحاتهم حتى يكون كلامه علمياً دقيقاً ونقله عن العلماء وفهمه لكلامهم صحيحاً وحتى لا يُقوّل العلماء ما لم يقولوا
فابن عبد البر – رحمه الله – قال : أجمع المسلمون على أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء … الخ ولم يقل إنه واجب أو مستحب لأن هذا مختلف فيه
اختلف أهل العلم في الاستنثار :
– فالإمام أحمد وغيره من العلماء يأخذون بظاهر هذه الأحاديث فيرون أن الاستنشاق والاستنثار والمضمضة واجبة في الوضوء من تركها فوضوؤه باطل لا يصح واستدلوا :
1- بعموم قوله تعالى في آية الوضوء : {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ومعلوم أن الأنف من الوجه وكذلك الفم
2- قوله صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ ))
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيَسْتَنْثِرْ )) فهذه ألفاظ صريحة في الأمر فــ [اللام] تدل على الأمر والأمر يقتضي الوجوب وهذه المسألة لم يرد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على صرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب
3- ومما يؤيد أن المضمضة والاستنشاق واجبة في الوضوء فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم العملي نُقل إلينا بالتواتر فمن الصحابة من رواه مطولاً ومنهم من رواه مختصراً فلم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك المضمضة والاستنشاق والاستنثار ولو مرة واحدة
ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أن الأمر إذا كان ظاهره الوجوب ولكن حكمه الاستحباب فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخالف هذا الأمر مرة واحدة أو عدة مرات حتى يبين للناس أن هذا الأمر ليس للوجوب وكذلك النهي إذا كان للتنزيه وليس للتحريم فإنه يخالفه ولو مرة واحدة ليبين ذلك للناس
4- ويستدلون بحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِماً ))
وفي رواية عند أبي داود قال : (( وَبَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةَ والاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِماً )) فهذا يدل على أن الـمضمضة والاستنشاق من واجبات الوضوء فلا يصح الوضوء إلا به
– وذهب الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – وغيره من العلماء إلى وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة فقط دون الوضوء
ولا أدري ما دليلهم في هذا التفريق
– وذهب الإمام الشافعي ومالك وغيرهما من العلماء إلى أنه : لا فرض في الوضوء واجب إلا ما ذُكر في الآية قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]
واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي : (( تَوَضْأ كَمَـا أَمَرَكَ الله )) فأحاله على آية الوضوء
والرد عليهم : أن هناك غير الآية فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ )) أخرجه الإمام أحمد
فالذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مثل القرآن وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً كما في الأحاديث المتواترة وفعلاً كما في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها الصحابة بالتواتر فلم يرد عن صحابي واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك المضمضة أو الاستنشاق أو الاستنثار والنبي صلى الله عليه وسلم مبين لمجمل القرآن
فإذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت في المسألة فهو الحجة ولا يُعارض بقول أحد
قوله صلى الله عليه وسلم : (( لْيَنْتَثِرْ )) الانتثار : إخراج الماء من الأنف بقوة النفس وسمي الانتثار بهذا الاسم من النثرة وهي طرف الأنف فسمي الفعل باسم المكان الذي يُحرك وهذا من أساليب القرآن والحديث في التعبير عن الفعل بموضعه كالغائط فإنه اسم للمكان المنخفض من الأرض فَعُبّر عن الخارج من الإنسان باسم المكان الذي يحصل فيه
والاستنثار يكون باليد اليسرى فقد بوب الإمام النسائي برقم (91) – رحمه الله – قال : بابٌ : بأي اليدين يستنثر ثم ذكر فيه حديث عَلِيٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه : ( أَنَّهُ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى فَفَعَلَ هَذَا ثَلاَثاً ثُمَّ قَالَ : هَذَا طُهُورُ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم )
والسبب أن الاستنثار إزالة للقذر الذي في الأنف وإزالة الأقذار تكون باليد اليسرى
وأما اليد اليمنى فتكون لما كان من باب التكريم ، وسيأتي معنا الحديث الخاص بهذه المسألة إن شاء الله تعالى
قـولـه صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيَسْتَنْشِقْ )) الاستنشاق هو سحب الماء إلى أعلى الأنف بقوة النفس وسيأتي حكمه فيما بعد إن شاء الله تعالى
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَإذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قبْلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا فَي الإنَاءِ ثَلاثاً فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَات يَدُه ))
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في البخاري برقم (3295) ومسلم برقم (238) : (( إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثًا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ ))
بينهما تلازم بوجه ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ففي الحديث الأول قال : (( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَات يَدُه ))
وفي الـحديث الثاني قال : (( فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ ))
أنه في أثناء نومه ربما تلبس الشيطان بيده لكونه بات على خيشومه وهذا من ضمن الأمور التي تدعو المستيقظ من نومه أن يغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ، وهو معنى لطيف مقبول جداً في هذه المسألة ومبيت الشيطان حقيقة لأنه الأصل والظاهر ولا يُصرف إلا بدليل ، ونقول هذا لأن بعضهم تأوله على غير الظاهر بدون دليل وهذا يدل على أن الإنسان حال النوم لا يدري أين باتت يده
وقد قال بعض المنافقين معترضاً على هذا الحديث : وأين تبات يدي ؟؟؟ كأنه يستهزئ بهذا الحديث فأصبح ويده في دبره ولم تخرج إلا بعد أن جأرا إلى الله بالتوبة
وهذا يدعو الإنسان إلى الإذعان والاستسلام وقبول حديث النبي صلى الله عليه وسلم وألا يقابلها بالاستهزاء فهذا خطر عظيم
قوله صلى الله عليه وسلم : (( قبْلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا فَي الإنَاءِ )) فخرج بذكر الإناء : الحياض والبرك
وفي رواية قال : (( في وُضُوءِهِ )) فيها فائدة عظيمة فتفسر إحداهما الأخرى
فرواية : (( في وُضُوءِهِ )) دلت على أن المنع هو إدخال اليد في الإناء قبل أن يغسلها فمثلاً لو كان هناك إناء كبير لا يستطيع أن يصب منه فإنه يغترف منه بإناء صغير فيغسل يديه ثلاثاً وإن لم يجد إناء صغير فإنه يغترف بفمه ويغسل يديه ثلاثاً أو يأخذ الماء بطرف ثوبه فيغسل يديه ثلاثاً
وكلمـة : (( في وُضُوءِهِ )) فـسرت المقصود بلـفظ : (( فَي الإنَاءِ )) وأن المقصود الماء
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَإذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم مِنْ نَوْمِهِ )) هل هو خاص بنوم الليل أم يشمل نوم الليل والنهار ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة :
– فذهب الإمام أحمد – رحمه الله – : إلى أن المقصود نوم الليل واستدل :
– بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( مِنْ مَنَامِهِ )) والمنام لا يطلق إلا على نوم الليل
– وبقوله صلى الله عليه وسلم : (( فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَات يَدُه )) والمبيت لا يكون إلا في الليل وأما نوم النهار فلا يقال له مبيت
– واستدل بما أخرجه أبو داود : (( إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ ))
وفي رواية أخرى قال : (( إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلى الوُضُوءِ حِيْنَ يُصْبِح )) أخرجه الترمذي وغيره وهي رواية صحيحة ، وهذا كله يدل على أنه خاص بنوم الليل
– وذهب جمهور العلماء : إلى أنه عام في نوم الليل والنهار :
– قالوا : الحديث معلل والتعليل قوله صلى الله عليه وسلم : (( فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ )) فمن نام في النهار كذلك لا يدري أين ذهبت يده فيعم الكل بعموم العلة وهي قاعدة عند العلماء
– هل غسل اليدين عند الاستيقاظ من النوم واجب أم مستحب ؟
– ذهب جمهور العلماء : إلى أنه مستحب لأنه معلل بالشك في النجاسة : (( لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ )) والذي يشك في نجاسة يده لا يجب عليه غسلها .
واستدلوا بظاهر آية الوضوء قال تعالى : {إِذَا قُمْتُمْ} قال زيد بن أسلم : تفسير هذا : إذا قمتم من النوم ، وقد أمره الله بالوضوء إذا قام من النوم وأراد الصلاة ولم يأمره بغسل الكفين في أوله
ويستدلون أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قام من نوم الليل فتوضأ ولم يغسل يديه كما في حديث ابن عباس في قصة مبيته في بيت خالته ميمونة وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل
– وذهب الإمام أحمد : إلى أنه واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به والأمر يقتضي الوجوب ونهى عن غمس اليد في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً والنهي يـقتضي التحريم
– اختلف العلماء في حكم الماء الذي يغمس القائم من النوم يده فيه قبل أن يغسلها ثلاثاً على ثلاثة أقوال :
– الأول : أن الماء نجس ويجب أن يراق وهو قول بعض الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد قال : أحب إليّ أن يراق إذا كان من نوم الليل
– الثاني : إذا كان الماء أكثر من القلتين فلا ينجس وإذا كان أقل من القلتين فهو نجس وهو قول جمهور العلماء
– الثالث : لا ينجس إلا إذا حدثت فيه نجاسة غيرت أحد أوصافه الثلاثة اللون أو الطعم أو الرائحة
– هل غسل اليدين إذا قام من النوم من الوضوء أم أنه مستقل عن الوضوء ؟
هو مستقل فليس من واجبات الوضوء وله علاقة بالوضوء من حيث أنه إذا أراد أن يدخل يده في الماء الذي يتوضأ منه فيجب عليه أن يغسلها قبل أن يدخلها في الماء
– هل يلزم لها نية أم لا ؟
– الذين يقولون أنه للتعبد وأن الأمر للوجوب قالوا : تجب النية
– والذين يقولون أنه للشك في النجاسة قالوا : لا تشترط النية لأن إزالة النجاسة لا تحتاج إلى نية فمن وقعت على ثوبه نجاسة فعلقه ونزل عليه المطر وذهبت النجاسة فإن الثوب يطهر ولو لم ينو ذلك
– من استيقظ من النوم وتوضأ من صنبور الماء ولم ينو غسل يديه ثلاثاً من نوم الليل فما حكم وضوءه ؟
وضوءه صحيح لأن غسل اليدين بعد الاستيقاظ من النوم ليس متعلقاً بالوضوء ولكنه متعلق بإدخالها في الإناء
هذا الحديث إلى جانب أدلة أخرى يدل على أن النوم المستغرق ناقض للوضوء ومن هذه الأدلة حديث صفوان بن عسال : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لاَ نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ )) أخرجه الترمذي برقم (96)
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ ))
الاستجمار : من الجمار وهي الحصـى الصغيرة ولذلك يقال : رمي الجمرات فالجمرات جمع جمرة والجمرة هي الحجر الصغير
والمعنى : مسح محل البول والغائط بالجمار لإزالة النجاسة
والاستنجاء يكون باستعمال الماء
والاستطابة تكون بالماء وتكون بالجمار
– هل المقصود الحجارة في حد ذاتها أم أنه تعبير خرج مخرج الغالب ؟
الجواب : أن هذا تعبير خرج مخرج الغالب لأن غالب ما يستخدم الناس في الاستجمار الحجارة لكونها متوفرة وليس فيها كلفة وعلى هذا فيجوز الاستجمار بكل ما لم ينه الشرع عنه والشرع نهى عن أمور :
– نهى عن الاستجمار بالروث
– ونهى عن الاستجمار بالعظام
– ونهى عن الاستجمار بالأشياء المحترمة كالطعام والأوراق التي كتب فيها العلم خاصة كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم
– هل يلزم استعمال الماء مع الحجارة ؟
الجواب : لا يلزم ، وأكثر الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعرفون الاستنجاء بالماء وفيه حـديث يستأنس به وهـو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأَهْل قُبَاء : (( إن الله ذكركم بقوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] فَمَا هَذَا التَّطَهْر ؟ )) قَالُوا : إِنَّا نُتْبِعُ اَلْحِجَارَةَ اَلْمَاءَ ، فقال : (( هُوَ ذَاك ))
فقد كان لهم جيران من اليهود فتعلموا منهم الاستنجاء بالماء لأن اليهود قد شدد الله عليهم في الطهارة ومن ذلك أن أحدهم إذا أصابت ثوبه نجاسة فلابد أن يقرضها بالمقراض وقد فُسر الثوب بالجلد
والاستجمار ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : (( أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ )) أخرجه البخاري برقم (156)
قوله صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيُوتِرْ )) الإيتار : من الوتر أي يجعل المسح وتراً واحدة أو ثلاث أو خمس أو سبع
– وقد اختلف العلماء في الإيتار هل هو واجب أم مستحب ؟
– فذهب الإمام أحمد وأهل الحديث إلى أنه واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإيتار
– وذهب الأحناف إلى أنه لا يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر عبدالله بن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار فوجد حجرين ولم يجد ثالث أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحجرين فلو كان الإيتار واجب لأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه بثالث
والرد عليهم : ربما لم تمر عليهم الروايات التي فيها : (( ائْتِنِي بِغَيْرِهَا ))
ورواية : (( ائْتِنِي بِثَالِثٍ ))
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ائْتِنِي بِحَجَرٍ )) فهو صريح في الاتيان بحجر ثالث
– وذهب الجمهور إلى أنه مستحب لأن هذا من باب الآداب وليس من باب الأحكام والعبادات وما كان من باب الآداب فالأصل فيه الاستحباب
واستدلوا بحديث السنن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( … وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لاَ فَلاَ حَرَجَ … )) أخرجه أبو داود برقم (35) وحسن النووي إسناده وضعفه ابن حجر والألباني وغيرهما
والجواب : أن الأصل في أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم الوجوب ولا تخرج عن هذا إلا بدليل
– واستدل الإمام أحمد وأهل الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم : (( وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ ))
وحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : (( ائْتِنِي بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ )) أخرجه ابن ماجة برقم (314)
ولما جاء بروثة ألقاها وقال : (( ائْتِنِي بِحَجَرٍ )) وفي رواية : (( ائْتِنِي بِغَيْرِهَا ))
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قال صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ … )) أخرجه أبو داود برقم (40)
وبحديث سلمان رضي الله عنه عندما سأله أحد المشـركين مستهزئاً : علمكم نبيكم حتى الخراءة ؟ قال سلمان رضي الله عنه : (( أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ )) رواه مسلم كتاب : الطهارة باب : الاستطابة برقم (262)
والشاهد فيه قوله : (( أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ ))
وهو مذهب الشافعية والمالكية ألا يقل الاستجمار عن ثلاثة أحجار واشترطوا الإنقاء فإذا لم يحصل بثلاث زاد حتى ينقي مع الإيتار
وهو الصحيح واختاره الـمحققون من الـمذهب الحنبـلي كشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وغيره
الحديث الخامس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي , ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ ))
وَلِمُسْلِمٍ : (( لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ ))
1- اختلاف رواياته عند مسلم : (( لا يَبولَنَّ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ ))
وعند أبي داود برقم (70) : (( لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلاَ يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ ))
وعند النسائي برقم (397) : (( لاَ يَبُولَنَّ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ أَوْ يَتَوَضَّأُ ))
وعند الترمذي برقم (68) : (( ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ ))
ووقع في رواية عند البيهقي : (( … ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ أَوْ يُشْرَبُ )) وهو أيضاً عند ابن خزيمة وابن حبان
عند مسلم برقم (281) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ ))
2- فسر النبي صلى الله عليه وسلم الدائم بقوله : (( الَّذِي لاَ يَجْرِي )) وهذا فيه إخراج للمياه التي تجري
3- قوله صلى الله عليه وسلم : (( ثُمَّ يَغْتَسِلُ )) يمكن أن تكون بالرفع ويمكن أن تكون بالجزم والذي في الصحيحين بالرفع ومعناه أي : مآله أن يغتسل منه
وبالجزم معناه النهي عن الاغتسال فيه ويؤيده رواية مسلم الأخرى : (( لا يَغْتَسِلْ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُب ))
4- دل الحديث برواياته :
أ- النهي عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل فيه
ب- النهي عن الاغتسال في الماء الدائم وهو جنب
ج- النهي عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل منه
د- النهي عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل منه أو يتوضأ منه
هـ- النهي عن البول في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب
الفرق بين فقرة [ ب ] و [ ج ] الأولى الانغماس فيه والثانية الاغتراف منه
5- سئل أبو هريرة رضي الله عنه كما عند مسلم برقم (283) : كيف نصنع يا أبا هريرة ؟ قال : (( يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً ))
6- قوله : (( لاَ يَبُولَنَّ )) (( لا يَغْتَسِلْ… )) هذا نهي والنهي هنا للتحريم إذ لا صارف له عن التحريم
7- منطوق هذا الحديث في الماء الراكد ومفهومه عدم تحريم البول أو الاغتسال من الجنابة في الماء الجاري
8- وأما المياه المستبحرة فقد انعقد الإجماع على عدم التحريم
9- التغوط مثل البول أو أقبح منه
10- إذا بال بقرب الماء الراكد بحيث يجري إليه البول فيدخل في النهي
11- وفي الحديث : (( نَهَى عَنْ اغْتِسَال الجُنب فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ )) وهو للتحريم أيضاً إذ لا صارف له
12- النهي عن البول في الماء الراكد والاغتسال فيه من الجنابة هل هو من أجل أنه ينجس بذلك أو من أجل أنه يقذره ويفسده بالتتابع في ذلك ؟
وهل يتعدى النهي عن الاغتسال الجنابة أو هو خاص بها ؟
وهل يكون الماء مستعملاً برفع الحدث فيه ؟
وهل يؤثر الوضوء مثل الغسل من الجنابة ؟
13- مفهوم الحديث جواز الاغتسال في الماء الراكد لغير الجنابة وهذا إذا كان المنع من أجل الحدث
فأما إذا كان المنع من أجل التقذير فلا فرق بين الغسل من الجنابة أو غيرها
14- يظهر من هذا الحديث وأمثاله كالنهي عن اللعانين وهو التبرز في طريق الناس أو ظلهم وكذلك تحت الأشجار المثمرة وأمثال ذلك رعاية الشـرع لمصالح الناس وصيانة مرافقهم وحفظ حقوق المسلمين وتحريم التعدي في ذلك كله
15- وأيضاً فإن التبول والاغتسال في المياه الراكدة قد يتسبب في انتشار الأمراض والأوبئة والقاعدة الشرعية : [ لا ضرر ولا ضرار ] وهذا يقتضـي تحريم ومنع كل ما يتسبب في الإضرار بالناس أو الحيوان من حيث أن الحيوان قد يتأثر بهذه المياه الملوثة فيصاب أيضاً بالأمراض المنتقلة عبر هذه المياه الملوثة
16- حكم الماء المستعمل في رفع الحدث :
ذهب أبو يوسف إلى نجاسة الماء المستعمل لأن البول ينجس الماء فكذلك الاغتسال من الجنابة وقد نهى عنهما معاً وهو للتحريم فيدل على نجاسة الماء بهما جميعاً
وذهب أحمد بن حنبل والشافعي ومالك وغيرهم أن الماء المستعمل غير مطهر
والقول الراجح أن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا إذا غلب على لونه أو طعمه أو ريحه نجاسة
17- مما يدخل في هذا الباب المياه النجسة إذا زالت نجاستها ولم يبق للنجاسة أثر في لون الماء أو طعمه أو ريحه فهل يطهر ويجوز التطهر به أم لا ؟
في قرار هيئة كبار العلماء برقم 64 في 25/10/1398هـ وقرار مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13/رجب /1409هـ أن ماء المجاري النجسة إذا نقي بحيث لا يبقى للنجاسة أثر في طعمه ولونه وريحه فإنه يصير طهوراً يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به
1- القاعدة : أن الأوامر للوجوب إلا إذا دل دليل على خلاف الوجوب
وقد ذهب بعضهم إلى أن الأوامر للاستحباب إلا بقرينة واستدلوا بورود أوامر لا تدل على الوجوب بل على الاستحباب فـجعلوا هذا هو الأصل أن الأوامر للاستحباب إلا بقرينة تدل على الوجوب
والصحيح الذي يدل عليه القرآن والسنة وإجماع الصحابة أن الأصل في الأوامر الوجوب ولا يصرف الأمر عن الوجوب إلا بدليل
ومن هذه الأدلة قول الله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] قال الإمام أحمد : أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقع الزيغ في قلبه فيهلك
ومنها قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ …. } [البقرة:34] فامتنع إبليس فكان سبب لعنة الله له
وقوله : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]
ومنها قوله : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب:36]
وقوله : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [النساء:64]
وقوله : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132] وآيات كثيرة يصعب حصرها
وأما السنة فمنها قوله صلى الله عليه وسلم : (( فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ )) أخرجه البخاري برقم (7288) ومسلم برقم (1337)
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ )) أخرجه مسلم برقم (252) والبخاري برقم (887) والإمام أحمد
ومنها قول بريرة رضي الله عنها : أَتَأْمُرُنِي بِذَلِكَ ؟ قَالَ : (( لاَ إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ )) أخرجه أبو داود برقم (2231)
وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد كانوا يعملون بالأمر من غير سؤال هل هو للوجوب أو للاستحباب وهذا متواتر عنهم يصعب التمثيل لكثرة الوارد
ومنها دلالة النظر فإن أحداً لو قال لمملوكه أعطني ماءً فلم يعطه فعاقبه لما اعترض عليه بحجة أن الأمر للندب وليس للوجوب
والنهي للتحريم ويدل لذلك أن جميع النواهي في القرآن مثل قوله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء:32]
وقوله سبحانه :{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } [الإسراء:33]
وقوله تبارك وتعالى : {لا تَأْكُلُوا الرِّبا } [آل عمران:130]
ونحو ذلك أنها تدل على التحريم
وأجمع الصحابة على أنها للتحريم وتعاملوا مع هذه النواهي على هذا الأساس
وأيضاً قوله تعالى : {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : (( … وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ ))
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( … أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ )) أخرجه مسلم برقم (532)
وإجماع أهل اللغة أن السيد لو قال لعبده : لا تفعل كذا ففعله ثم عاقبه فليس هناك من ينكر عليه بحجة أن النهي لغير التحريم
2- هذا النهي معلل وقد اختلف العلماء هل هو معلل بالاستقذار الحاصل في الماء بسبب البول وهذا عام في القليل والكثير
وإذا كان الماء قليلاً فمن يرى تنجيسه بوقوع النجاسة فيه فيزيد علة أخرى وهي إفساد الماء وتعطيل منافعه على غيره
وزاد بعضهم علة أخرى فيما إذا كان البول في الماء بالليل ، وهو ما قيل : إن الماء بالليل للجن ، فلا يبال فيه ولا يغتسل منه خوفاً من انتقامهم منه ، ولكن هل يثبت ذلك ؟
3- الماء المستبحر خرج من النهي بالإجماع
4- والماء الجاري خرج بمفهوم المخالفة ، وعلل بأن البول لا يستقر في الجاري وأن جريه يدفع النجاسة وتخلفه على التوالي الطهارة
5- عند أبي يوسف أن الجنابة تنجس الماء الراكد القليل واستدل بالاقتران في الحديث بين البول والغسل من الجنابة ولكنها ضعيفة
وأيضاً فإن الحديث لم يتعرض لقضية نجاسة الماء
6- حصل الخلاف في النهي في هذا الحديث هل هو للتحريم أم للتنزيه بسبب اختلافهم هل ينجس الماء بملاقات النجاسة ويصير مستعملاً برفع الحدث أم لا؟
فمالك يرى أن النهي للتنزيه لأن الماء لا ينجس إلا بالتغير قليلاً كان أم كثيراً
والشافعي وأحمد يفرقون بين القليل والكثير ويزيد أحمد تخصيص بول الآدمي وعذرته في الكثير وأنه ينجس بها واختلفوا في حد الكثير والقليل
الحديث السادس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً))
وَلِمُسْلِمٍ : (( أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ ))
وَلَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِناءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعاً وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ ))
1- ترجمة راوي الحديث :
2- ألفاظه : عند مسلم برقم (279) : (( طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ ))
وفي رواية عند أبي داود برقم (73) : (( السَّابِعَةُ بِالتُّرَابِ )) وهي رواية شاذة
وعند الترمذي برقم (91) : ((أُولاَهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ ))
وعند مسلم برقم (279) والنسائي برقم (66) : (( فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ )) قال النسائي : لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله : (( فَلْيُرِقْه ))
وأما حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنهما فقد أخرجه مسلم برقم (280) بلفظ قال : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلاَبِ ثُمَّ قَالَ : (( مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلاَبِ )) ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَقَالَ : (( إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ ))
الفوائد والأحكام
1- الكلب في عرف الشارع هو الكلب المعروف وما هو في معناه من السباع كالأسد والذئب والنمر ونحوها ولهذا في قصة حديث عتبة بن أبي لهب قال : (( اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلاَبِكَ )) فسلط الله عليه الأسد فقتله
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم (10346) طبعة مجلس دائرة المعارف
2- والكلب الذي يألف الناس وهو مضرب الأمثال في الوفاء لا سبع ولا بهيمة لأنه لو تم له طباع السبعية ما ألف الناس ولو تم له طباع البهيمة ما أكل اللحم
وقد ورد إطلاق البهيمة في قول الصحابة رضي الله عنهم ففي حديث المرأة التي سقت الكلب
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْراً قَالَ : (( فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ )) أخرجه البخاري برقم (2363) ومسلم برقم (2244)
3- قوله : (( إذَا شَرِبَ )) يقال : شرب الكلب ، وولغ ، يعني شرب بلسانه وقيل : إن الشرب أعم
4- قوله : (( الْكَلْبُ )) هل [ ال ] في قوله : الكلب للعهد أم للجنس أم لغير ذلك ؟
الذين قالوا بأنها للعهد خصصوا الحكم بالكلب المنهي عن اتخاذه دون المأذون فيه وهم بعض المالكية ولكن يحتاج هذا إلى إثبات تقدم النهي عن اتخاذ الكلاب على هذا الأمر بالغسل من ولوغها وأيضاً يحتاج إلى قرينة تدل على أن المقصود بهذا الحكم المنهي عن اتخاذه
وجمهور العلماء على خلاف هذا القول وأن [ ال ] للجنس فتعم جميع الكلاب
5- في حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنهما الأمر بقتل الكلاب وسببه كما في حديث أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدِ اسْتَنْكَرْتُ هَيْئَتَكَ مُنْذُ الْيَوْمِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَلْقَنِي أَمَ وَاللَّهِ مَا أَخْلَفَنِي )) قَالَ فَظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَهُ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ جِرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ فُسْطَاطٍ لَنَا فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَنَضَحَ مَكَانَهُ فَلَمَّا أَمْسَى لَقِيَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ : (( قَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِي أَنْ تَلْقَانِي الْبَارِحَةَ )) قَالَ : أَجَلْ وَلَكِنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ . فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ حَتَّى إِنَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الصَّغِيرِ وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ )) أخرجه مسلم برقم (2105)
وفي حديث ابن مغفل قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال : (( مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلاَبِ )) [ وفي رواية في مستخرج أبي نُعيم على صحيح مسلم : (( مَا بَالِي وَبَالُ الْكِلاَبِ )) ] ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَقَالَ : (( إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ ))
وفي صحيح مسلم برقم (1572) أيضاً عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلاَبِ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدَمُ مِنَ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ : (( عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ ))
وفي قتل الكلب العقور وهو الذي يعدي على الناس وغيرهم قال صلى الله عليه وسلم : (( خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَارَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ )) رواه الجماعة إلا الترمذي ، فإذا جاز قتله للمحرم فغيره أولى
واقتناء الكلب لغير حاجة محرم مثل أن يقتنيه إعجاباً بصورته أو للمفاخرة أو تقليداً لغير المسلمين
ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ إِلاَّ كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ ))
وفي الصحيحين أيضاً عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه
وفيهما أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ زَرْعٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ صَيْدٍ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ )) وهذا لفظ مسلم برقم (1574)
وفي صحيح مسلم برقم (2113) عن أبي هـريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لاَ تَصْحَبُ الْمَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلاَ جَرَسٌ ))
قال النووي – رحمه الله – : واختلف أصحابنا في اقتنائه لحراسة الدور والدروب وفي اقتناء الجرو ليعلم فمنهم من حرمه لأن الرخصة إنما وردت في الثلاثة المتقدمة ومنهم من أباحه وهو الأصح لأنه في معناه
6- قال بعض العلماء أن الأمر بالتسبيع مع التتريب كان لما أمر بقتل الكلاب فلما نهى عن قتلها نُسخ ذلك الحكم
والجواب : أن الأمر بقتل الكلاب كان متقدماً على الأمر بالتسبيع مع التتريب فقد روى الأمر بالغسل بالتسبيع أبو هريرة رضي الله عنه وإسلامه كان في عام خيبر وكذلك عبدالله بن مغفل رضي الله عنهما
7- حمل بعض العلماء الأمر بغسل ما ولغ فيه الكلب على التنجيس واستدلوا براوية مسلم الثانية : (( طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ … ))
ولفظة : (( طُهُورُ )) تستعمل إما عن حدث وإما عن خبث ولا حدث على الإناء فتعين الخبث
وحمل مالك – رحمه الله – هذا الأمر على التعبد لقوله بأن الماء لا ينجس إلا بالتغير بالنجاسة وأيضاً لذكر التسبيع في الغسل ، والنجاسة يكفيها أقل من السبع فهو غير معقول المعنى ، وقال بعض أصحابه : إنه معقول المعنى : فمنهم من قال : النجاسة ومنهم من قال لاستقذاره
8- يترتب على القول بالنجاسة : نجاسة الكلب وهو مذهب الجمهور رحمهم الله ومالك – رحمه الله – له ثلاثة أقوال :
أ- نجاسة الكلب
ب- طهارته ووافقه أهل الظاهر
ج- طهارة الماء دون غيره
9- وقـال ابن الماجشون – رحـمه الله – : كلـب البـدوي غـير نـجـس وكلـب الحضري نجس
10- صح عن ابن عباس رضي الله عنهما التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب لأنه رجس ، رواه محمد بن نـصر الـمروزي بإسناد صحيح ورواه ابن المنذر في الأوسط ، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه
11- استدل من قال بطهارة الكلب وهو مالك والظاهرية بقوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] إذ لا يخلو الصيد عن التلوث بريق الكلب ولم نؤمر بالغسل
واستدلوا بما أخرجه أبو داود وعلقه البخاري برقم (174) عن شيخه أحمد بن شبيب عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : ( كَانَتِ الْكِلاَبُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ )
وفي رواية : قال ابن عمر : ( كُنْتُ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُ فَتًى شَابًّا عَزَبًا وَكَانَتِ الْكِلاَبُ … ) فذكره
أخرجه أبو داود برقم (382)
والجواب : أن هذا كان في أول الأمر بدلالة قول ابن عمر أنه لما هاجر كان يبيت في المسجد قبل أن يبتني بيتاً ثم أمر بتنظيف المساجد وتطهيرها بدلالة حديث بول الأعرابي في المسجد وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الماء عليه .. وقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي : (( إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ … )) الحديث أخرجه مسلم برقم (285)
وأما الاستدلال بالآية فقد قيل : بأن إباحة الأكل مما أمسكن لا يتنافى في وجوب تطهير ما تنجس من الصيد ، وعدم الأمر للاكتفاء بما في أدلة تطهير النجس من العموم . وقيل : إن الرخصة خاصة بالصيد
12- هل يلحق الخنزير بالكلب في هذا الحكم ؟ ( الغسل سبعاً والتتريب )
الشافعي – رحمه الله – يقول : الخنزير أسوأ حالاً من الكلب ويلحق به في ذلك واستدل على قوله بأن نجاسة الخنزير بالنص كما في قوله تعالى : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]
والثاني : أن تحريم الانتفاع بالخنزير عام والكلب خاص
وأما مالك – رحمه الله – فيقول : إن الأمر بالغسل سبعاً للتعبد فلا يلحق بالكلب غيره
13- وقال أحمد – رحمه الله – : الخنزير شر من الكلب لقوله تعالى : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} والرجس النجس
قال الماوردي : الضمير في قوله : {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائد على الخنزير لكونه أقرب مذكور
ونازعه أبو حيان فقال : عائد على اللحم لأنه إذا كان في الكلام مضاف ومضاف إليه عاد الضمير إلى المضاف لأن المضاف هو المحدث عنه والمضاف إليه وقع ذكره بطريق العرض وهو تعريف المضاف أو تخصيصه
وما ذكره الماوردي أولى من حيث المعنى ؛ لأن تحريم اللحم قد استفيد من قوله : {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فلو عاد الضمير عليه لزم خلو الكلام من فائدة التأسيس ، فوجه عوده إلى الخنزير ليفيد تحريم الشحم والكبد والطحال وسائر أجزائه .
14- إذا تولد من كلب وحيوان طاهر فهل هذا المتولد يلحق بالكلب أم بالحيوان الطاهر ؟
الذين قالوا بنجاسة الكلب قلوا يلحق بالكلب لتغليب المحرِّم على المبيح
والذين قالوا أن الأمر بالغسل للتعبد فلا يلحقوه بالكلب وسواء عندهم ألحقوه بالكلب أم بغيره فهو طاهر لقولهم بطهارة الكلب
15- هل النجاسة تعم الكلب كله أم هي خاصة بلعابه ؟ أم تشمل رطوباته ؟
للعلماء – رحمهم الله – في ذلك ثلاثة مذاهب :
– المذهب الأول : نجاسة لعاب الكلب وطهارة شعره وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في رواية رجحها شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمهم الله جميعاً
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : (( طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ …… )) الحديث
قالوا وكلمة : (( طُهُورُ )) لا تستعمل في الحقيقة الشرعية إلا ويراد بها رفع حدث أو إزالة نجس ولا حدث هنا فتعين النجس ، وقد اعترض على هذا الاستدلال بقوله تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة:103]
وبقوله صلى الله عليه وسلم : (( السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِ ))
وأجاب الحافظ ابن حجر – رحمه الله – على هذا الاعتراض فقال : والجواب أن ألفاظ الشرع إذا دارت بين الحقيقة اللغوية والشرعية حُملت على الشـرعية إلا إذا قام دليل
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : (( فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا )) فالأمر بغسله والتغليظ فيه يدل على نجاسة لعاب الكلب
واستدلوا بزيادة : (( فَلْيُرِقْه )) ولولا أنه نجس لكان فيه إسرافاً وإضاعة للمال
واستدلوا بأثر ابن عباس السابق
– المذهب الثاني : نجاسة لعاب الكلب مع شعره وسائر أجزائه وهو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه والأوزاعي وإسحاق وأبي عبيد ورواية عن مالك وعزاه الصنعاني والشوكاني لجمهور أهل العلم رحمهم الله جميعاً
واستدلوا بأدلة القول الأول وعمموا الحكم على جميع جسده وقالوا : إذا كان لعابه نجساً وهو عرق فمه ، ففمه نجس والعرق جزء متحلب من البدن فجميع عرقه نجس فجميع بدنه نجس لأن العرق جزء من البدن
واستدلوا أيضاً بحديث ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج جرو كلب من بيته ثم نضح مكانه بالماء
– المذهب الثالث : طهارة لعابه وشعره وسائر جسده وهو مذهب مالك في المشهور عنه وداود والزهري وسفيان الثوري وابن المنذر وابن عبد البر والبخاري وهو رواية عن أحمد كما في الإنصاف
واستدلوا بأدلة :
أ- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً أن رجلاً ممن كان قبلنا سقى الكلب بخفه فغفر الله له ، وهو حديث متفق عليه
قال ابن حجر – رحمه الله – : واستدل به المصنف [ يعني البخاري ] على طهارة سؤر الكلب لأن ظاهره سقي الكلب فيه – أي بخفه – ولم يؤمر بغسله سبعاً
والاستدلال به مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا وفيه اختلاف وعلى القول به فإن مكانه فيما لم ينسخ ومع التنزل أيضاً فلا يتم الاستدلال به لاحتمال أن يكون صبه في شيء فسقاه ، أو أنه بعد أن سقاه غسل خفه أو أنه لم يلبسه بعد ذلك ومع الاحتمال يسقط الاستدلال ، وأيضاً يقال : أن المأمور بغسله الإناء وليس النعل والخف
ب- حديث ابن عمر رضي الله عنهما في البخاري معلقاً وأخرجه أبو داود كما سبق قال : كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك
ج- حديث عدي بن حاتم في الصحيحين وفيه إباحة صيد الكلب المعلم وقبله الآية في قوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}
16- قال بعض أهل العلم الحديث يدل على تحريم بيع الكلب
قلت : ورد في ذلك حديثان :
الأول : عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ )) أخرجه البخاري برقم (2237)
الثاني : حديث عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قال : رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى حَجَّامًا ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ، قَالَ : (( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الأَمَةِ وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ )) أخرجه البخاري برقم (2238)
قال ابن حجر – رحمه الله – : وظاهر النهي تحريم بيعه وهو عام في كل كلب معلماً كان أو غيره مما يجوز اقتناؤه أو لا يجوز ومن لازم ذلك أن لا قيمة على متلفه وبذلك قال الجمهور
وقال مالك : لا يجوز بيعه وتجب القيمة على متلفه وفي رواية عنه وافق الجمهور .
وقال أبو حنيفة : يجوز بيعه وتجب القيمة وهو رواية عن مالك
وقال عطاء والنخعي : يجوز بيع كلب الصيد دون غيره
وروى أبو داود برقم (3482) من حديث بن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلأْ كَفَّهُ تُرَابًا )) وإسناده صحيح
وروى أيضاً بإسناد حسن برقم (3484) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : (( لاَ يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَلاَ حُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَلاَ مَهْرُ الْبَغِيِّ )) والعلة في تحريم بيعه عند الشافعي نجاسته مطلقاً وهي قائمة في المعلم وغيره
وعلة المنع عند من لا يرى نجاسته النهي عن اتخاذه والأمر بقتله ولذلك خَصَّ منه ما أُذن في اتخاذه ، ويدل عليه حديث جابر رضي الله عنه قال : (( نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ )) أخرجه النسائي برقم (4668) بإسناد رجاله ثقات إلا أنه طعن في صحته
وقد وقع في حديث ابن عمر عند بن أبي حاتم بلفظ : (( نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَإِنْ كَانَ ضَارِيًا )) يعني مما يصيد ، وسنده ضعيف ، قال أبو حاتم : هو منكر .
وفي رواية لأحمد : (( عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَقَالَ : طُعْمَةٌ جَاهِلِيَّةٌ )) ونحوه للطبراني من حديث ميمونة بنت سعد
وقال القرطبي : مشهور مذهب مالك جواز اتخاذ الكلب وكراهية بيعه ، ولا يُفسخ إن وقع ولكن الشرع نهى عن بيعه تنزيهاً ؛ لأنه ليس من مكارم الأخلاق
قال : وأما تسويته في النهي بينه وبين مهر البغي وحلوان الكاهن فمحمول على الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه ، وعلى تقدير العموم في كل كلب فالنهي في هذه الثلاثة في القدر المشترك من الكراهة أعم من التنزيه والتحريم ، إذ كل واحد منهما منهي عنه ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر ، فإنا عرفنا تحريم مهر البغي وحلوان الكاهن من الإجماع لا من مجرد النهي
ولا يلزم من الاشتراك في العطف الاشتراك في جميع الوجوه ، إذ قد يعطف الأمر على النهي والإيجاب على النفي . أ . هـ من الفتح مع بعض التصرف
17- اختلف العلماء – رحمهم الله – في مسألة التتريب :
– فذهب جمهور العلماء إلى وجوب التتريب واستدلوا بحديث الباب
– وخالف في ذلك الحنفية والمالكية – رحمهم الله جميعاً – فأما الأحناف فلم يقولوا بالتتريب قياساً على بقية النجاسات
– وأما المالكية فلم يقولوا بالتتريب لأنه لم يقع في رواية مالك – رحمه الله – لهذا الحديث
قال القرطبي – رحمه الله – : وهو من علماء المالكية : قد صحت فيه الأحاديث فالعجب منهم كيف لم يقولوا بذلك
وبعضهم أعلّ ذكر التتريب بالاضطراب والتفرد فقد تفرد بها ابن سيرين من بين الرواة
والجواب : أما الاضطراب فقد ترجحت رواية أولاهن من حيث الإسناد ومن حيث النظر
وأما التفرد فقد ورد لحديث أبي هريرة رضي الله عنه شاهد صحيح وهو حديث عبدالله بن مغفل وفيه ذكر التتريب
18- واختلفوا هل التتريب في مرة مستقلة أم أنه ضمن السبع ؟
فمنهم من قال بأن التتريب في مرة مستـقلة أخذاً بحـديث عبدالله بن مغـفل رضي الله عنهما وقال بها الحسن البصري وهي رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله الجميع – قال ابن منده لما أخرجه : إسناده مجمع على صحته
ومذهب الجمهور أنها سبع واحدة منهن بالتراب ونقل عن الشافعي أنه قال عن حديث ابن مغفل : هو حديث لم أقف على صحته ، وقال بعضهم : الإجماع على خلافه ، وأجاب البيهقي عن عدم الأخذ بالزيادة بترجيح حديث أبي هريرة لأنه أحفظ من روى الحديث في دهره فروايته أولى
وقال النووي – رحمه الله – في شرح مسلم : أن المراد : اغسلوه سبعاً واحدة منهن بالتراب مع الماء فكأن التراب قائم مقام غسله ، فسميت ثامنة
وقد رد عليهم بأن عدم علم الشافعي – رحمه الله – بصحة الحديث لا يعتبر عذراً لمن وقف على صحته وقد ثبتت صحته فأخرجه مسلم في صحيحه وصححه غير واحد من أهل العلم
وأما دعوى الإجماع فقد تبين أنه مذهب الحسن ورواية عن أحمد فأين الإجماع ؟
وأما قول البيهقي – رحمه الله – : فإنه لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع ، والجمع ممكن فإن رواية عبدالله بن مغفل رضي الله عنهما أولى لأن فيها زيادة والزيادة من الثقة مقبولة ، ولأن العمل بها يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس ، ولو سلكنا مسلك الترجيح في هذا الباب لم نقل بالتتريب أصلاً لأن رواية مالك بغير ذكر التتريب وهي أرجح من رواية من أثبته ومع ذلك قلنا به أخذاً بزيادة الثقة
وأما تأويل النووي ففيه تكلف وتعسف وعدول عن صريح الحديث الصحيح دون دليل . قال ابن دقيق العيد : ومن لم يقل به احتاج إلى تأويله بوجه فيه استكراه . انتهى
فالصحيح القول بأنها ثمان غسلات إحداها بالتراب ، والله أعلم
19- واختلفت الروايات في تحديد مكان التتريب :
ففي صحيح الإمام مسلم : (( أُولاَهُنَّ ))
وفي رواية أبي داود في سننه بإسناد كل رجاله ثقات ولكنها شاذة قال : (( السَّابِعَةُ بِالتُّرَابِ ))
وفي رواية الترمذي وغيره قال : (( أُولاَهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ ))
وعند الدارقطني قال : (( إِحْدَاهُنَّ ))
قلت : وتترجح رواية : (( أُولاَهُنَّ )) من حيث الإسناد فإنها أصح الروايات ومن حيث النظر فإنها إذا كانت أولاهن بالتراب فإنه يتبعه الماء فيزيل التراب وينظفه
20- وهل يقوم غير التراب مقامه كالصابون وغيره من المنظفات والمطهرات ؟
قال النووي – رحمه الله – في شرح مسلم : ولا يقوم الصابون والأشنان مقام التراب على الأصح وكذلك ما أشبهها . انتهى
وقال ابن دقيق العيد – رحمه الله – : قوله : (( بِالتُّرَابِ )) يقتضي تعيينه وفي مذهب الشافعي – رحمه الله – قول أو وجه أن الصابون والأشنان والغسلة الثامنة يقوم مقام التراب بناءً على أن المقصود بالتراب زيادة التنظيف وأن الصابون والأشنان يقومان مقامه في ذلك وهذا عندنا ضعيف ، لأن النص إذا ورد بشيء معين احتمل معنى يختص بذلك الشيء لم يجز إلغاء النص وإطراح خصوص المعين فيه
قلت : قد اكتشف حديثاً أن في لعاب الكلب جراثيم ومكروبات لا يقتلها إلا التراب فسبحان العليم الخبير
21- هل التتريب يكون بالتراب من غير ماء ؟
رواية : (( وَعَفِّرُوهُ )) تدل على خلط التراب بالماء لأن التعفير هو التمريغ ومعناه : مرغوه بالتراب أي اغسلوه بالتراب ، وهذا عند الشافعية
ومنهم من جعل التراب محضاً لرواية : (( وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ )) فجعله محضاً من غير ماء واستظهره في الفروع وصوبه في الإنصاف
22- هل يتعين التسبيع أم يكفي أقل من سبع ؟
جمهور العلماء وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد أنه يجب غسل الإناء سبع مرات واستدلوا بحديث الباب وما ورد في معناه
وذهب أبو حنيفة – رحم الله الجميع – إلى أنه لا يجب التسبيع واستدلوا : بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : (( فِي الْكَلْبِ يَلِغُ فِي الإِنَاءِ أَنَّهُ يَغْسِلُهُ ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا )) أخرجه الدارقطني
وأجيب : بأنه حديث ضعيف جداً ففي إسناده عبدالوهاب بن الضحاك وهو متروك
واستدلوا بفتوى أبي هريرة رضي الله عنه بالاكتفاء بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً ، وقالوا : هو راوي الحديث فثبت أن السبع منسوخة والعبرة بما رأى الراوي لا بما رواه
والجواب : أن الصحيح عند العلماء والأصوليين أن العبرة بما روى الراوي لا بما رآه
قال ابن حجر – رحمه الله – : وتعقب بأنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها أو أنه نسي ما رواه ومع الاحتمال لا يثبت النسخ
وقال أيضاً : فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعاً ، ورواية من روى موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر فأما النظر فظاهر وأما الإسناد فالموافقة وردت من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه وهذا من أصح الأسانيد
وأما المخالفة فمن رواية عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه ، وهو دون الأول في القوة بكثير . انتهى
واستدلوا أيضاً بأن العذرة أشد نجاسة من سؤر الكلب ولم يقيد بسبع فيكون الولوغ كذلك من باب أولى
قال ابن حجر – رحمه الله – : بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا يكون أشد منها في تغليظ الحكم وأيضاً فهو قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار . انتهى
23- إذا ولغ كلب واحد في إناء مرتين فأكثر فهل يغسل لكل مرة سبعاً ويعفر أم تكفي غسلة واحدة مرتين ؟
فيه خلاف والأقرب أنه يكفيه أن يغسله سبعاً مع التتريب مرة واحدة
وإذا ولغ جماعة كلاب في إناء فهل يغسل عن الجميع مرة واحدة أم لكل واحد غسلة ؟
فيه اختلاف أيضاً والأصح أنها تكفيه غسلة واحدة سبعاً مع التتريب
24- ولو ولغ حيوان لم يتبين هل هو كلب أم لا فهل يغسل سبعاً ويعفر ؟
الصحيح أنه لا يجب إلا بيقين فأما مع الشك فلا يجب
25- مفهوم الشرط في قوله : (( إِذَا وَلَغَ )) يقتضي قصر الحكم على الولوغ ، لكن إذا قلنا بأن الغسل للتنجيس فيتعدى الحكم إلى ما إذا لحس أو لعق مثلاً ويكون ذكر الولوغ للغالب
26- هل يغسل ويترب ما مسك الكلب بفمه كالصيد مثلاً ؟
أما الصيد فقد أباحه الله عز وجل ولم يأمر بغسله ولا تتريبه ، وخاصة أن التتريب يفسد اللحم
وأما غير الصيد فهو مبني على الأصل فيقتصر الحكم على الإناء الذي يلغ فيه الكلب
27- اختلف القائلون بالتسبيع مع التتريب فيما إذا أصاب بوله أو روثه أو دمه أو عرقه أو شعره أو لعابه أو عضو من أعضائه شيئاً طاهراً في حال رطوبة أحدهما فهل يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب ؟
عند الشافعية أن لا فرق بين ولوغ الكلب وغيره
وفي وجه عند الشافعية أنه يغسل مرة وهو مذهب الحنابلة كما في المغني
28- هل الغسل من الولوغ عند إرادة الاستعمال أم أن غسله على الفور وإن لم يستعمل ؟
قال المازري – رحمه الله – : الجمهور على أن غسله عند إرادة الاستعمال
وذهب بعض المتأخرين إلى غسله وإن لم يرد استعماله بناءً على أن الأمر المطلق يقتضي الفورية
وقال ابن حجر – رحمه الله – في الفتح : قوله : (( فَلْيَغْسِلْهُ )) يقتضي الفور ، لكن حمله الجمهور على الندب والاستحباب إلا لمن أراد أن يستعمل ذلك الإناء . انتهى
قلت : الأصل في الأوامر أنها على الفور ويدل على ذلك الكتاب والسنة واللغة والنظر إلا إذا دل دليل على خلاف هذا الأصل ، وليس في هذه المسألة ما يدل على صرف الأمر عن هذا الأصل
29- هل سائر النجاسات يلزم غسلها كغسل ولوغ الكلب ؟
في رواية لأحمد وهي مذهب الحنابلة أن النجاسات تغسل سبعاً قياساً على الكلب واستدلوا بقول ابن عمر : أُمرنا بغسل الأنجاس سبعاً
فأما حديث ابن عمر فليس له أصل ، وليس في الأمر بغسل النجاسة سبعاً حديثاً مرفوعاً صحيحاً إلا ما ورد في الإناء الذي يلغ فيه الكلب
وأما قياسهم على لعاب الكلب فلا يصح ؛ لأن الأمر بالتسبيع والتتريب في ولوغ الكلب تعبدي ، لا يقاس عليه
وذهب الجمهور وهو رواية عن أحمد ووجه عند الحنابلة إلى عدم وجوب العدد في غسل النجاسات والاقتصار على إزالة النجاسة ومكاثرتها بالماء .
ويستدلون بحديث أنس رضي الله عنه في قصة بول الأعرابي في المسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه ولم يأمر بعدد . وهو في الصحيحين
واستدلوا بحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّى فِيهِ )) أخرجه البخاري برقم (227) ومسلم برقم (291) ولم يأمر فيه بعدد
30- في رواية مسلم والنسائي : (( فَلْيُرِقْه )) وقد اختلف في هذه اللفظة فقال النسائي : لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله : (( فَلْيُرِقْه ))
قلت : علي بن مسهر إمام حافظ متقن متفق على عدالته والاحتجاج به
وقال الدارقطني بعد أن رواها : إسناده حسن ورواتها ثقات ، ورواها إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة
وصحح ابن حجر : ورود الأمر بالإراقة عن أبي هريرة موقوفاً عليه أخرجها عنه ابن عدي والدارقطني قال : وكذا ذكر الإراقة حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفاً عليه وإسناده صحيح أخرجه الدارقطني وغيره
قلت : لفظة : (( فَلْيُرِقْه )) صح إسنادها وليست بمخالفة للروايات الأخرى بل فيها زيادة حكم وهذا لا يضر . فالصحيح وجوب إراقة ما ولغ فيه الكلب وهو مذهب الشافعية . وقول في مذهب مالك
31- لفظ : (( الإِناءِ )) عام يشمل إناء الطعام وإناء الماء وقد فرق مالك – رحمه الله – بين الماء والطعام فقال في المدونة : إن كان يغسل سبعاً للحديث ففي الماء وحده . انتهى
ووجه قوله بأمرين :
الأول : مبني على تخصيص العام بالعرف والعرف أن الطعام محفوظ عن الكلاب مصون عنها لعزته عند العرب فلا يكاد الكلب يصل إلا إلى الماء فيقيد اللفظ بذلك
والثاني : أن في الحديث : (( فَلْيُرِقْه ، وليَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ )) والطعام لا يجوز إراقته لحرمته ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . متفق عليه
والجواب : أما الوجه الأول فإن تخصيص العموم بالعرف ممنوع في الأصول والراجح عند كثير من الأصوليين خلافه
وأما الثاني : فضعيف لأن عموم الأمر بالإراقة تقتضي إراقة الطعام
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال مخصوص بما ولغ فيه الكلب
فإن قيل : إن النهي عن إضاعة المال عام أيضاً ، قيل إنه عام مخصوص بما وقع فيه نجاسة أو سم ، والعام الذي لم يخصص يقدم على العام المخصص ويصبح من مخصصاته
وأيضاً يقال : إن المقصود بالنهي عن إضاعة المال : النهي عن التبذير وإضاعة المال من غير غرض صحيح وأما الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب فالغرض منه إما الإبعاد أو التنزه عما لحق سؤر الكلب لنجاسته أو لقذره وإما لضرره كما ثبت حديثاً وهذا أخص من النهي عن إضاعة المال
الحديث السابع
عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي اللهُ عنهما : أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ , فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ , فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ , ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً , وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثًا , ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ , ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلاثًا , ثُمَّ قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ : (( مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا , ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ , لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))
– أخرجه البخاري برقم (159)
– ومسلم برقم (226)
– وفي رواية لهما : (( تمضمض واستنثر )) البخاري برقم (164)
ومسلم في الموضع السابق
وفي رواية للبخاري برقم (6433) : (( مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) قَالَ : وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : (( لاَ تَغْتَرُّوا ))
الفوائد والأحكام
1- ترجمة حمران مولى عثمان
1- ترجمة عثمان بن عفان رضي الله عنه
2- قوله : ( دَعَا بِوَضُوءٍ ) ( بِإِنَاءٍ ) فيه جواز الاستعانة في إحضار الماء وهو مجمع عليه من غير كراهة
قوله : ( بِإِنَاءٍ ) لم يذكر نوع الإناء ، والأواني مباحة إلا ما استثنى :
أ- جلود الميتة التي لم تدبغ
ب- جلود مالا تحله الذكاة من الحيوان
ج- آنية الكفار قبل غسلها
د- آنية الذهب والفضة
3- في الحديث شرعية التعليم بالفعل فإنه أبلغ وأضبط في حق المتعلم فعثمان رضي الله عنه دعاء بوضوء وتوضأ أمام الناس ليعلمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل
فائدة : في الحديث الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم على الأحكام الـشرعية ومتابعته وتحري مقارنة فعله وأن المرجع إليه عليه السلام في جميعها خاصة ما كان مبيناً فيه لمجمل القرآن إلا ما ورد فيه دليل أنه خاص به أو علم أنه فعله على سبيل العادة لا العبادة
4- في هذا الـحديث لم يـذكر النية ، قال ابن المنذر – رحـمه الله – في الأوسط (1/368-370) ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ )) قد اختلف أهل العلم فيمن توضأ وهو لا ينوي بوضوئه الطهارة ، فقالت طائفة : لا يجزئه ، كذلك قال الشافعي وربيعة بن أبي عبدالرحمن ومالك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ، وليس بين الوضوء والتيمم عندهم في ذلك فرق
وفرقت طائفة بين الوضوء والتيمم فقالت : يجزئ الوضوء بغير نية ولا يجزئ التيمم إلا بنية هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي
وفيه قول ثالث عن الأوزاعي واختلف عنه فحكى الوليد بن مسلم عنه مثل قول أصحاب الرأي وحكي عنه أنه يجزيه في الوضوء والتيمم
ثم قال : دل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ )) لما عم جميع الأعمال ولم يخص منها شيئاً أن ذلك في الفرائض والنوافل . انتهى
النية تجب مصاحبتها للمنوي إلى نهايته فلو نوى قطعه في أثنائه أعاد ولو رجع في نيته مثل من توضأ وفي أثناء وضوئه نوى قطعه لغرض كدخول الخلاء أو غير ذلك ثم رجع بنيته إلى وضوئه وجب عليه ابتدائه من أوله
5- سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عَنْ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهَلْ مَحَلُّ ذَلِكَ الْقَلْبُ أَمْ اللِّسَانُ ؟ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ نَجْهَرَ بِالنِّيَّةِ أَوْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ ؟ أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ أَوْ غَيْرُهَا ؟ أَوْ قَالَ : إنَّ صَلَاةَ الْجَاهِرِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْخَافِتِ إمَاماً كَانَ أَوْ مَأْمُوماً أَوْ مُنْفَرِداً ؟ وَهَلْ التَّلَفُّظُ بِهَا وَاجِبٌ أَمْ لَا ؟ أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : إنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالنِّيَّةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ؟
وَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا ؟ وَمَا السُّنَّةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ؟ وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الْجَهْرِ بِهَا مُعْتَقِداً أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ فَهَلْ هُـوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِـفٌ لِشـَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَـسْتَـحِقُّ التَّعْـزِيرَ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَنـْتَهِ ؟
فأجاب : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالْعِتْقِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَوْ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ بِخِلَافِ مَا نَوَى فِي قَلْبِهِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا نَوَى بِقَلْبِهِ لَا بِاللَّفْظِ ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ تَحْصُلْ النِّيَّةُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُجْزِئْ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
… وَالْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، بَلْ الْجَاهِرُ بِالنِّيَّةِ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مُعْتَقِداً أَنَّهُ مِنْ الشَّرْعِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ ، يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ وَإِلَّا الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ ، وإذَا أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ وَالْبَيَانِ لَهُ لَاسِيَّمَا إذَا آذَى مَنْ إلَى جَانِبِهِ بِرَفْعِ صَوْتِهِ أَوْ كَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ عَلَى ذَلِكَ
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّ صَلَاةَ الْجَاهِرِ بِالنِّيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْخَافِتِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا
وَأَمَّا التَّلَفُّظُ بِهَا سِرّاً فَلَا يَجِبُ أَيْضاً عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ : إنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ لَا فِي طَهَارَةٍ وَلَا فِي صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا حَجٍّ
وَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءِ يَكْفِي فِيهِ نِيَّةُ الْقَلْبِ
وَالنِّيَّةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ ، فَمَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ …
وَبَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ خَرَّجَ وَجْهاً فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِوُجُوبِ ذَلِكَ ، وَغَلَّطَهُ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ غَلَطُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ فِي أَوَّلِهَا ، فَظَنَّ هَذَا الغالط أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ النُّطْقَ بِالنِّيَّةِ ، فَغَلَّطَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ جَمِيعُهُمْ وَقَالُوا : إنَّمَا أَرَادَ النُّطْقَ بِالتَّكْبِيرِ لَا بِالنِّيَّةِ
انتهى من مجموع الفتاوى (22/217-227) باختصار وبعض التصرف
6- لم يذكر في هذا الحديث التسمية وهي سنة عند الأئمة الأربعة ، وعن أحمد رواية بوجوبها ، وقال إسحاق : إن تركها عامداً أعاد
قال ابن المنذر في الأوسط (1/367) : جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ )) ثم أسند حديث رباح بن عبدالله بن أبي سفيان بن حويطب قال : حدثتني جدتي أنها سمعت أباها يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ))
ثم قال : وقد اختلف أهل العلم في وجوب التسمية عند الوضوء ، فاستحب كثير من أهل العلم للمرء أن يسمي الله تعالى إذا أراد الوضوء كما استحبوا أن يسمي الله عند الأكل والشرب والنوم وغير ذلك استحباباً لا إيجاباً ، وقال أكثرهم لا شيء على من ترك التسمية في الوضوء عامداً أو ناسياً ، هذا قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وأصحاب الرأي
واغتسل عمر بن الخطاب ويعلى بن أمية يستر عليه بثوب فقال : بسم الله . انتهى
قلت : ورد في التسمية على الوضوء خاصة وفي التسمية على الوضوء وغيره عامة جملة أحاديث فأما ما ورد في الوضوء خاصة فلا يخلو حديث منها من كلام ولكن بمجموعها تدل على أصل
قال أبو بكر بن أبي شيبة : ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله
وقال ابن حجر العسقلاني في التلخيص : والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً
7- قوله : (( بِوَضُوءٍ )) الوضوء بفتح الواو اسم للماء وبضمها اسم للفعل على الأكثر
قال النووي – رحمه الله – في شرح مسلم (2/94) : قال جمهور أهل اللغة : يقال : الوُضوء والطُهور – بضم أولهما – إذا أريد به الفعل الذي هو المصدر ، ويقال : الوَضوء والطَهور – بفتح أولهما – إذا أريد به الماء الذي يتطهر به ، هكذا نقله ابن الأنباري وجماعات من أهل اللغة وغيرهم عن أكثر أهل اللغة
وذهب الخليل والأصمعي وأبو حاتم السجستاني والأزهري وجماعة إلى أنه بالفتح فيهما قال صاحب المطالع : وحكي بالضم فيهما جميعاً
وأصل الوضوء من الوضاءة وهي الحسن والنظافة والتنزه . انتهى
قلت : الوضوء نظافة حسية ومعنوية قال تعالى بعد أن ذكر فرضه الطهارة من وضوء وغسل أو ما ينوب عنهما : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]
فأما النظافة الحسية فظاهرة ، وأما المعنوية فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة أن المسلم إذا توضأ خرجت خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فلله الحمد والمنة
(( بِوَضُوءٍ )) ولم يذكر مقدار ما يتوضأ به وقد ورد : (( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ )) أخرجه البخاري برقم (201) ومسلم برقم (325)
وأخرج مسلم نحوه من حديث سفينة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يـذكر النهـي عن الإسـراف في استعمـال الـوضـوء ، وبوب الإمـام البخاري – رحمه الله – في أول كتاب الوضوء باب : ما جاء في الوضوء … قال أبو عبدالله : وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فرض الوضوء مرةً مرة ، وتوضأ مرتين وثلاثاً ، ولم يزد على ثلاث ، وكره أهل العلم الإسراف فيه ، وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم
قال الحافظ (1/405-406) : يشير بذلك إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق هلال بن يساف – أحد التابعين – قال : كان يقال : ( مِنَ الْوُضُوءِ إسْرَافٌ وَلَوْ كُنْتَ عَلَى شَاطِئِ نَهَرٍ )
وأخرج نحوه عن أبي الدرداء وابن مسعود ، وروي في معناه حديث مرفوع أخرجه أحمد وابن ماجة بإسناد لين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص
قلت : في مصنف ابن أبي شيبة (1/467) طبعة عوامة ] : من كان يكره الإسراف في الوضوء أورد فيه آثار عن الصحابة والتابعين
قلت : والإسراف في أمرين :
الأول : الزيادة على الثلاث وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى
والثاني : الإكثار من صب الماء وقد سبق ذكر كم كان يكفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنه توضأ بالمد وورد أنه توضأ بثلثي مد
قال الترمذي – رحمه الله – بعد أن أورد حديث سفينة رضي الله عنه : (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ )) برقم (56) : وهكذا رأى بعض أهل العلم الوضوء بالمدّ والغسل بالصاع ، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : ليس معنى هذا الحديث على التوقيت أنه لا يجوز أكثرُ منه ولا أقلُّ منه وهو قدر ما يكفي
قلت : لأن الإنسان قد يحتاج لأكثر من ذلك القدر إما لزيادة اتساخ أو لعارض آخر والله أعلم
8- قوله : (( فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ )) فيه استحباب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في ابتداء الوضوء مطلقاً وأن هذا لا يختص بالقيام من النوم .
9- قوله : (( عَلَى يَدَيْهِ ))
في رواية : (( أَفْرَغَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ثُمّ غَسَلَهُما ))
قلت : في حديث علي رضي الله عنه في صفة تعليمه لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( فَأَفْرَغَ مِنَ الإِنَاءِ عَلَى يَمِينِهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ )) أخرجه أبو داود في باب : صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم برقم (111)
10- قوله : (( ثُمَّ تَمَضْمَضَ )) هذا التركيب يقتـضي الترتيب بين غسل اليدين والمضمضة ؛ لأن الأصل في كلمة : (( ثُمَّ )) أنها للترتيب
قلت : الذي يقتضيه لفظ المضمضة لا تحصل إلا بجعل الماء في الفم ثم تحريكه
قال ابن دقيق العيد – رحمه الله – : قدمت المضمضة على الاستنشاق لشرف منافع الفم على منافع الأنف فإنه مدخل الطعام والشراب اللذين بهما قوام الحياة وهو محل الأذكار الواجبة والمندوبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . انتهى
قلت : ذكر بعضهم فائدة لطيفة وهو أن معرفة صلاحية الماء للاستعمال تكون بأحد الحواس إما البصر وإما اللمس وإما الشم وإما الذوق فتقدم البصـر ظاهر وغسل اليدين للإحساس بحال الماء من حرارة وبرودة وغير ذلك والمضمضة والاستنشاق لطعم الماء وشمه فسبحان من أحكم خلقه وشرعه
11- قوله : (( ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ )) فيه دليل على الترتيب بين غسل الوجه والمضمضة والاستنشاق وتأخره عنهما
والوجه مشتق من المواجهة وقد اعتبر الفقهاء هذا الاشتقاق وبنوا عليه أحكاماً فالذي عليه الجمهور أنه ما بين منابت شعر الرأس من غالب المنابت – لا باعتبار الصلع ولا الغمم – ومنتهى اللحيين وهما مجتمع عظمي الحنك طولاً وفي العرض ما عدا وتدي الأذن
وقال الصنعاني في الحاشية على العمدة : اختلفوا بسبب ذلك [ يعني قوله : من المواجهة ] في موضعين : في غسل البياض الذي بين العذار والأذن ، وفي غسل ما انسدل من اللحية ، فالمشهور من مذهب مالك أن البياض الذي بين العذار والأذن ليس من الوجه ، وقد قيل بالفرق بين الأمرد والملتحي
وقال أبو حنيفة والشافعي : هو من الوجه
وأما ما انسدل من اللحية فذهب مالك إلى وجوب إمرار الـمـاء عليه ، ولم يوجبه أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وأوجبه أحمد في أحد الروايتين عنه والرواية الثانية كقول الشافعي في الجديد
وسبب اختلافهم في هاتين المسألتين هو خفاء تناول اسم الوجه لهذين الموضعين ، أعني هل يتناولهما أو لا يتناولهما ؟
فائدة : لم يذكر في هذا الحديث تخليل اللحية ، وللعلماء في وجوبه قولان وقد سبق الكلام على تخليل اللحية
12- قوله : (( وَيَدَيْهِ )) من رؤوس أنامله (( إلى المرفقين )) اختلف الفقهاء في ذلك ، فنقل ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على وجوب غسل اليدين مع المرفقين وقال القاضي عبدالوهاب في شرح الرسالة : هذا قول الفقهاء كلهم إلا ما يحكى عن زفر وبعض المتأخرين
وسبب الخلاف في ( إِلَى ) في قوله : (( إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ )) هل ( إِلَى ) بمعنى انتهاء الغاية فلا يجب إدخالهما أو أنها بمعنى ( مع ) فيوجب دخولهما في الغسل
قلت : في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( أنه توضأ فَغَسَلَ يَدَهُ حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ وَرِجْلَهُ حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ ) أخرجه مسلم برقم (246) وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل واجب فهو واجب
فائدة : إذا لبس خاتماً فهل يحركه ؟
إن كان ضيقاً لا يصل الماء إلى ما تحته فيجب أن يحركه وإن كان واسعاً سلساً فلا يجب تحريكه
13- قوله : (( ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ )) ظاهره استيعاب الرأس بالمسح لأن اسم الرأس حقيقة في العضو كله
واختلف العلماء في القدر الواجب من المسح فالمشهور عند المالكية وجوب استيعاب جميعه وهذا الذي نص عليه مالك وهو رواية عن أحمد
والرواية الثانية عند أحمد يجب مسح أكثره فإن ترك الثلث فما دون أجزأه
وأما الشافعي فقال : يجزئه أقل ما ينطلق عليه الاسم
وقال النووي في روضة الطالبين(1/56) : ولو مسح بعض شعره أجزأه وأما أبو حنيفة فعنه ثلاث روايات : قال في بدائع الصنائع(1/69) : واختلف في المقدار المفروض مسحه ذكره في الأصل وقدره بثلاث أصابع اليد ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قدره بالربع ، وذكر الكرخي والطحاوي عن أصحابنا مقدار الناصية . انتهى
وسبب اختلافهم فأما الشافعي فقال : إن الباء في قوله : {بِرُؤُوسِكُمْ} للتبعيض فإذا مسح بعض رأسه أجزأ
ورُد على ذلك بأن أهل اللغة لا يعرفون استعمال الباء للتبعيض وأنها في الآية للإلصاق والمصاحبة
وأما الحنفية فقالوا : أن الأمر بالمسح يقتضي آلة المسح ، وآلة المسح هي أصابع اليد عادة وثلاث أصابع اليد أكثر الأصابع وللأكثر حكم الكل فصار كأنه نص على الثلاث وقال : {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} بثلاث أصابع أيديكم
وأما التقدير بالناصية فقد روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ )) أخرجه مسلم برقم (274) فصار فعله عليه الصلاة والسلام بياناً لمجمل الكتاب
ورُد على هذا بأن في الحديث أنه مسح على العمامة والناصية
وأما وجه التقدير بالربع فلأنه قد ظهر اعتبار الربع في كثير من الأحكام
قلت : وذكر لذلك الاعتبار أمثلة ليس عليها دليل من كتاب أو سنة ولا إجماع
والصحيح أنه يجب مسح جميع الرأس لدلالة الكتاب والسنة على ذلك
وقوله : (( ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ )) وليس في شيء من طرقه في الصحيحين ذكر عدد المسح كما في غسل الأعضاء
قلت : في سنن أبي داود في باب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم برقم (107) … وقال فيه : (( … وَمَسَحَ رَأْسَهُ ثَلاَثًا )) قال أبو داود : أحاديث عثمان رضي الله عنه الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنه مرة فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً ، وقالوا فيها : ومسح رأسه ، ولم يذكروا عدداً كما ذكروا في غيره . انتهى
قال ابن المنذر : اختلف أهل العلم في عدد مسح الرأس ، فقالت طائفة : يمسح برأسه مرة ، هذا قول ابن عمر وهو قول الجمهور ، وكان الشافعي يقول : يجزئ مسح مرة ، ويستحب أن يمسح ثلاثاً ، وقال أصحاب الرأي : يمسح برأسه مرة واحدة ، وأذنيه ، هكذا في المبسوط للسرخسي (1/7)
قال ابن المنذر(1/395-397) : والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح برأسه ، لم يذكر أكثر من مرة واحدة . انتهى بتصرف
قلت : سبب اختلافهم ما ورد عن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ومسح رأسه ثلاثاً وفي آخره قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا
فمن يصحح هذا الحديث ويجعل تثليث المسح زيادة ثقة يأخذ به فيقول بتثليث مسح الرأس ومن يرى أنها شاذة يمنع الأخذ بالتثليث ، وكذلك يقال بأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل إذ حقيقة الغسل جريان الماء ، ولو اعتبر العدد في المسح لصار في صورة الغسل وبالله التوفيق
14- (( الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ )) صح عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم موقوفاً ، قال الترمذي : وهو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم
قال ابن المنذر من الأوسط (1/400) : جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ فمسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما . انتهى
قلت : في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : (( أنه غَرَفَ غَرْفَةً فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ دَاخِلَهُمَا بِالسَّبَّابَتَيْنِ وَخَالَفَ إِبْهَامَيْهِ إِلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ فَمَسَحَ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا )) أخرجه أبو داود برقم (135) وهو حديث صحيح
ومثله في حديث المقدام بن معدكرب الكندي أخرجه أبو داود برقم (121) ورقم (123)
قلت : فأما حديث : (( الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ )) فقد ورد عن عدد من الصحابة مرفوعاً ولا تخلوا من ضعف ولكن ترتقي بمجموعها لتعدد طرقها وتنوع مخارجها ويؤيده ما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم كما سبق وكذلك ما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم
قال في التحقيق مع التنقيح (1/203) : الأذنان من الرأس تمسحان بماء الرأس قال الشافعي ليسا من الرأس ويسن لهما ماءٌ جديد واحتج الشافعي بأخذ النبي صلى الله عليه وسلم لهما ماءً جديداً
قلت : الوارد في أخذ ماء جديد للأذنين ضعيف
15- قال ابن المنذر – رحمه الله – في الأوسط (1/392) : اختلف أهل العلم فيمن ترك مسح الأذنين
فقالت طائفة : لا إعادة عليه ، كذلك قال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي
وقال إسحاق بن راهويه : إن مسحت رأسك ولم تمسح أذنيك عمداً لم يجزك
وقال أحمد : إذا تركه متعمداً أخشى أن يعيد
والصحيح مذهب من أوجب مسح الأذنين لحديث : (( الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ )) وما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم ويؤيد ذلك صحة الأحاديث الواردة في ذكر مسح النبي صلى الله عليه وسلم الأذنين ولم يرد أنه ترك مسح الأذنين مرة واحدة وفعله صلى الله عليه وسلم مبين لمجمل ما أوجبه الله في القرآن فله حكم المجمل
16- قال ابن المسيب : ( الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا ) رواه البخاري في صحيحه معلقاً ووصله ابن أبي شيبة
وفي رواية لأحمد يجزئ مسح بعضه للمرأة دون غيرها ، قال الخلال والموفق : هذه الرواية هي الظاهر عن أحمد . وقال الخلال : العمل في مذهب أبي عبدالله أنها إن مسحت مقدم رأسها أجزأها . ذكره في الإنصاف
17- قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (21/128) : لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح عنقه في الوضوء ، ولـهذا لم يستحب ذلك جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهم
قلت : واختلف أصحاب أبي حنيفة فمنهم من قال : إنه سنة ، ومنهم من قال : أنه من الآداب . بدائع (1/117)
18- قوله : (( ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْه )) صريح في الرد على من قال إن واجب الرجلين المسح وهم الرافضة وقد سبق بيان حكم غسل الرجلين وسبب الخلاف
19- قوله : (( ثَلاَثًا )) يدل على استحباب التثليث في غسل الرجلين مثل بقية المغسولات . وقال مالك : لابد من الإنقاء ولا يجب التثليث
20- الزيادة على الثلاث غسلات في الوضوء لا تجوز لقوله صلى الله عليه وسلم : (( فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ )) أخرجه أحمد (2/180) وأبو داود برقم (135)
واختلف أهل العلم في المتوضئ يزيد على ثلاث فقالت طائفة : لا يضره ، كذلك قال الشافعي – رحمه الله – في الأم (2/69) : ولا أحب للمتوضئ أن يزيد على ثلاث وإن زاد لم أكرهه إن شاء الله تعالى . انتهى
وسئل أحمد : يزيد الرجل في الوضوء على ذلك ؟ قال أحمد : لا والله إلا رجل مبتلى ، وقال إسحاق كما قال . مسائل إسحاق بن منصور
قلت : جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرةً مرة ، ومرتينِ مرتين ، وثلاثاً ثلاثا ، وبعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين وبعضها مرة ، ولم يرد زيادة على الثلاث فدل على أن الثلاث هي الكمال وأن المرة والمرتين تجزئ
21- الـحديث يـدل على الترتيب في غـسل أعـضاء الـوضوء لأن الـراوي رتبه بـ (( ثُمَّ )) في معرض البيان وهي تفيد الترتيب ويدل له حديث أبي داود الصحيح : (( فَتَوَضْأ كَمَـا أَمَرَكَ الله )) برقم (861)
وللحديث الآخر الصحيح عند أبي داود برقم (858) وغيره : (( إِنَّهَا لاَ تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ))
ولأن الله عز وجل في آية الوضوء أدخل مسح الرأس بين المغسولات وهذا يدل على الترتيب
وقد ورد ما يعارض هذا الترتيب : فأخرج أحمد برقم (17188) وأبو داود برقم (121) من حديث المقدام بن معد كرب قال : (( أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ))
وإسناده صحيح وحسنه النووي وابن حجر وصححه الألباني وقيل : إنها شاذة لمخالفتها للأحاديث الصحيحة
وعن الربيع بنت معوذ مثل حديث المقدام : إلا أنها قالت : (( فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ تَمَضْمَضَ ))
قال النووي : إنهم يتأولون هذه الرواية على أن لفظة : (( ثُمَّ )) ليست هنا للترتيب بل لعطف جملة على جملة . انتهى المقصود
قال ابن المنذر (1/422) : اختلف أهل العلم في رجل توضأ ، فبدأ فغسل يديه أو رجليه قبل وجهه أو قدم عضواً على عضو . انتهى
قال مالك : يستحب تقديم المسنون وقال ابن حبيب من أصحابه : [ يعني تقديم المسنون على المفروض ] واختلف أصحاب مالك في الترتيب في الوضوء على ثلاثة أقوال : الوجوب والندب والاستحباب والمشهور عندهم أنه سنة انظر الذخيرة (1/278)
ومذهب الشافعي وجوبه وخالف المزني فقال : لا يجب . المجموع (1/471)
وقال في المغني (1/189-190) بعد قول الخرقي : ويأتي بالطهارة عضواً بعد عضو كما أمر الله تعالى : وجملة ذلك أن الترتيب في الوضوء على ما في الآية واجب عند أحمد لم أرَ عنه فيه اختلافاً وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه غير واجب . انتهى
وقال في الفروع : ومن فروض الوضوء الترتيب . انتهى
قال في الـمبسوط (1/167-168) : وإن بدأ في وضوئه بذراعيه قبل وجهه ورجليه قبل رأسه أجزأه عندنا . انتهى
22- في الحديث ما يفيد باعتبار الموالاة وهي ألا يؤخر غسل عضو حتى يجف ما قبله في الزمن المعتدل والموالاة واجبة عند أحمد نص عليها في مواضع ، ونقل حنبل عن أحمد أنها غير واجبة . انظر المغني (1/191)
وعند مالك خمسة أقوال : الوجوب مع الذكر والوجوب مطلقاً وعدمه مطلقاً والفرق بين الممسوح فلا يجب وبين المغسول فيجب والفرق بين الممسوح البدلي كالجبيرة والخفين فيجب والممسوح الأصلي فلا يجب وقالوا : التفريق اليسير لا يضر . انظر الذخيرة (1/270-271)
وعند الشافعية إذا كان التفريق بعذر فلا يضر وإن كان بغير عذر ولكنه يسير فلا يضر أيضاً وأما التفريق الكثير بغير عذر ففيها قولان ففي القديم : لا يجزيه ، وفي الجديد : يجزيه . انظر المجموع (1/478)
وقال في المبسوط : وإن غسل بعض أعضائه وترك البعض حتى جف ما قد غسل أجزأه ؛ لأن الموالاة سنة عندنا . انتهى (1/170)
23- قال ابن الـمنذر في الأوسط(1/415-419) : اخـتلف أهل الـعلم في التمسح بالمنديل بعد الوضوء والاغتسال فممن روينا عنه أنه أخذ المنديل بعد الوضوء ، عثمان بن عفان والحسين بن علي وأنس وبشير بن أبي مسعود وكان مالك وسفيان الثوري وأحمد وأصحاب الرأي لا يرون به بأساً . انتهى
24- قوله : (( نَحْوَ وُضُوئِي )) قال النووي في شرح مسلم (2/104) :
وإنما لم يقل : (( مثل )) لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره . انتهى
ورد عليه الحافظ ابن حجر في الفتح بقوله : لكن ثبت التعبير بها في رواية المصنف [ يعني البخاري ] في الرقاق من طريق معاذ بن عبدالرحمن عن حمران عن عثمان ولفظه : (( مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ ))
وله في الصيام من رواية معمر : (( مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا )) ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران : (( تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا )) وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة . انتهى من الفتح (1/448) حديث رقم (159) وروايته في الرقاق (14/523) برقم (6433) وروايته في الصيام (5/299) برقم (1934) من طبعة طيبة
25- قوله : (( ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ )) فيه استحباب ركعتين بعد الوضوء ، وتفعل كل وقت حتى وقت النهي عند الشافعية ، خلافاً للمالكية ، قالوا : وليست هذه من السنن ، وقالوا : حديث بلال في البخاري أنه كان متى توضأ صلى وقال إنه أرجى عمل له . يجوز أن يخص بغير أو قات النهي
قلت : حديث بلال عام وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخصص ، وحديث النهي عن الصلاة أوقات النهي عام مخصص فيكون حديث بلال من ضمن مخصصاته
وأيضاً فإن صلاة ركعتين بعد الوضوء سنة لأن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره وصفاته الخُلقية والخِلقية وتركه ، وقد أقر بلالاً فهو سنة تقريرية ولا تعارض في الحقيقة لأن جميع السنن محبوبة عند الله
26- قوله : (( لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ )) إشارة إلى الخواطر والوساوس الواردة على النفس وهي على قسمين :
أحدهما : ما يهجم هجماً يتعذر دفعه عن النفس فيدافعه ولا يستقر
والثاني : ما تسترسل معه النفس ويمكن قطعه ودفعه ولكن لا يدافع بل تسترسل معه النفس فيمكن أن يحمل هذا الحديث على هذا النوع الثاني فيخرج عنه النوع الأول ، ويشهد لذلك لفظة : (( يُحَدِّثُ نَفْسَهُ )) فإنه يقتضي تكسباً منه وتفعلاً لهذا الحديث مع النفس
ويمكن أن يحمل على النوعين معاً ، لأن الحديث يقتضي ثواباً مخصوصاً على عمل مخصوص فمن حصل له ذلك العمل حصل له ذلك الثواب ومن لا فلا ، وليس ذلك من باب التكليف حتى يلزم دفع العسر عنه . وانظر شرح ابن دقيق العيد
27- حديث النفس : يعم الخواطر المتعلقة بالدنيا والخواطر المتعلقة بالآخرة والحديث محمول والله أعلم على ما يتعلق بالدنيا ، إذ لابد من حديث النفس فيما يتعلق بالآخرة كالفكر في معاني المتلوّ من القرآن العزيز والمذكور من الدعوات والأذكار
28- فائدة : في مجموع فتاوى ابن تيمية – رحمه الله – (22/611-613) سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ : عَنْ وَسْوَاسِ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ وَمَا حَدُّ الْمُبْطِلِ لِلصَّلَاةِ ؟ وَمَا حَدُّ الْمَكْرُوهِ مِنْهُ ؟ وَهَلْ يُبَاحُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَهَلْ يُعَذَّبُ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ؟ وَمَا حَدُّ الْإِخْلَاصِ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : (( لَيْسَ لِأَحَدِكُمْ مِنْ صَلَاتِهِ إلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا )) ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ
الْوَسْوَاسُ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَا يَمْنَعُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَوَاطِرِ فَهَذَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَكِنْ مَنْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ تَسْلَمْ مِنْهُ صَلَاتُهُ ، الْأَوَّلُ شِبْهُ حَالِ الْمُقَرَّبِينَ وَالثَّانِي شِبْهُ حَالِ الْمُقْتَصِدِينَ
وَأَمَّا الثَّانِي : فَهُوَ مَا مَنَعَ الْفَهْمَ وَشُهُودَ الْقَلْبِ بِحَيْثُ يَصِيرُ الرَّجُلُ غَافِلًا فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الثَّوَابَ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( إنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبْعُهَا إلَّا خُمْسُهَا إلَّا سُدْسُهَا حَتَّى قَالَ : إلَّا عُشْرُهَا )) فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ لَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إلَّا الْعُشْرُ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : ( لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا )
وَلَكِنْ هَلْ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَيُوجِبُ الْإِعَادَةَ ؟
فِيهِ تَفْصِيلٌ :
– فَإِنَّهُ إنْ كَانَتْ الْغَفْلَةُ فِي الصَّلَاةِ أَقَلَّ مِنْ الْحُضُورِ وَالْغَالِبُ الْحُضُورُ لَمْ تَجِبْ الْإِعَادَةُ وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ نَاقِصًا فَإِنَّ النُّصُوصَ قَدْ تَوَاتَرَتْ بِأَنَّ السَّهْوَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يُجْبَرُ بَعْضُهُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ
– وَأَمَّا إنْ غَلَبْت الْغَفْلَةُ عَلَى الْحُضُورِ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ صَحَّتْ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ لَمْ يَحْصُلْ فَهُوَ شَبِيهُ صَلَاةِ الْمُرَائِي فَإِنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ لَا يَبْرَأُ بِهَا فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا
وَالثَّانِي : تَبْرَأُ الذِّمَّةُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَإِنْ كَانَ لَا أَجْرَ لَهُ فِيهَا وَلَا ثَوَابَ بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ الَّذِي لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ
وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : (( إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ . فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ . فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ ، يَقُولُ : اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ )) فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الشَّيْطَانَ يُذَكِّرُهُ بِأُمُورِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى وَأَمَرَهُ بِسَجْدَتَيْنِ لِلسَّهْوِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ وَأَعْدَلُ فَإِنَّ النُّصُوصَ وَالْآثَارَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ مَشْرُوطٌ بِالْحُضُورِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . انتهى وانظر القبس (1/232-236)
29- قوله : (( غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) ظاهره العموم في جميع الذنوب
قال ابن دقيق العيد : وقد خصوا مثله بالصغائر ، وقالوا : إن الكبائر إنما تكفر بالتوبة ، وكأن المستند في ذلك أنه ورد مقيداً في مواضع كقوله صلى الله عليه وسلم : (( الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ))
فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيداً للمطلق في غيرها
قال الصنعاني مستدركاً : لا يخفى عليك أن هذا كله مشيٌ معهم على ظاهر قولهم : إن هذه المطلقات مقيدات بما قيد به بعض الطاعات من قيد اجتناب الكبائر وعلم من الأصول أنه لا يلحق المطلق بالمقيد إلا إذا اتحد سببهما وحكمهما وهنا الاختلاف أوضح من الشمس ، ولا سبيل إلى القياس لما سمعته من عدم الجامع وتعينه
وفيه إشارة إلى أن للمناقشة مجالاً في هذا بأن يقال : مقادير الطاعات مختلفة لا يعلم قدر كل طاعة إلا الله ، فيجوز أن من الطاعات ما يكفر الكبائر كما ورد في الحج أنه يخرج منه كيوم ولدته أمه ، وغيره مما لم يقيد بذلك القيد كما ورد في المريض أنه لا يزال به البلاء حتى يتركه يمشي وليس عليه خطيئة ، فحمل هذه المطلقات على تلك المقيدات لا يتم إلا إذا عُلم تساويهما في قدر الجزاء عند الله ، وهو لا يعلم إلا بإعلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحينئذ فيجوز أن بعض الطاعات تكفر الكبائر فلا يتم اطراد القيد . انتهى باختصار
قلت : في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً : (( مَنْ قَالَ : أسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُومُ وَأتُوبُ إلَيهِ ثلاثاً غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وإنْ كانَ فَارَّاً مِنَ الزَّحْفِ )) أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين وأقره المنذري وقال الذهبي : أبو سنان لم يخرج له البخاري [ يعني أنه من أفراد مسلم ]
قال الألباني في الصحيحة (6/1/507) برقم (2727) : وهو كما قال وهو ثقة كسائر رجاله . انتهى
قلت : والفرار من الزحف من السبع الموبقات وقرن بالشـرك والسحر … الخ : فهذا الحديث يؤيد استدراك الصنعاني – رحمه الله – والله أعلم
30- هذا الثواب الموعود به يترتب على مجموع أمرين :
أحدهما : الوضوء على النحو المذكور .
والثاني : صلاة ركعتين بعده بالوصف المذكور بعده في الحديث ، والمرتب على أمرين لا يلزم ترتبه على أحدهما إلا بدليل خارج . وقد أدخل قوم هذا الحديث في فضل الوضوء ، وعليهم في ذلك هذا السؤال الذي ذكرناه
ويجاب عنه : بأن يكون الشيء جزءاً مما يترتب عليه الثواب العظيم كاف في كونه ذا فضل . فالثواب المخصوص يترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور ، ومطلق الثواب قد يـحصل بمـا دون ذلك . انتهى من شرح ابن دقيق العيد
قلت : ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة معلومة وفي الوضوء والصلاة بعده حديث بلال رضي الله عنه
وأما هذا الثواب المخصوص في هذا الحديث فلا يحصل إلا باجتماع الأمرين المذكورين فيه والله أعلم
تنبيه : وقع في رواية البخاري في الرقاق في آخر هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لاَ تَغْتَرُّوا )) قال العلماء – رحمهم الله – :
أي فتستكثروا من الأعمال السيئة بناءاً على أن الوضوء والصلاة تكفرها فإن الوضوء والصلاة التي تكفر بها الخطايا هي التي يقبلها الله تعالى وأنى للعبد إطلاع على ذلك
31- في رواية لهذا الحديث عند البخاري : (( مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) قَالَ : وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : (( لاَ تَغْتَرُّوا )) وقد سبق ذكرها في روايات هذا الحديث
وقد ورد عن عثمان رضي الله عنه أحاديث في هذا الباب : منها ما أخرجه مسلم برقم (245) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ ))
ومنها ما أخرجه مسلم أيضاً برقم (229) : عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ : أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ نَاسًا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ إِلاَّ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ : (( مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَكَانَتْ صَلاَتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً ))
ومنها عند مسلم أيضاً برقم (232) عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ : تَوَضَّأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَوْمًا وُضُوءًا حَسَنًا ثُمَّ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ : (( مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ غُفِرَ لَهُ مَا خَلاَ مِنْ ذَنْبِهِ ))
وفي رواية : (( مَنْ تَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ فَصَلاَّهَا مَعَ النَّاسِ أَوْ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ ))
وفي صحيح الإمام مسلم برقم (231) عن عثمان رضي الله عنه قال : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ انْصـِرَافِنَا مِنْ صَلاَتِـنَا هَذِهِ – قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهَا الْعَصْرَ – فَـقَالَ : ( مَا أَدْرِي أُحَـدِّثُـكُمْ بِشَيْءٍ أَوْ أَسْكُتُ ) فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ خَيْرًا فَحَدِّثْنَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ فَيُتِمُّ الطُّهُورَ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيُصَلِّى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلاَّ كَانَتْ كَفَّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهَا ))
قلت : وقع في الحديث الذي أخرجه مسلم برقم (227) عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ : سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُوَ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ عِنْدَ الْعَـصْرِ فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلاَ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (( لاَ يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ فَيُصَلِّي صَلاَةً إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الَّتِي تَلِيهَا ))
قال عروة : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]
الحديث الثامن
عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : (( شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ , فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكْفَأَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرِ , فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاثاً , ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ , فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثاً بِثَلاثِ غَرْفَاتٍ , ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً , ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ , فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ , فَمَسَحَ رَأْسَهُ , فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ )) .
وَفِي رِوَايَةٍ : (( بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ , حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ , ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ))
وَفِي رِوَايَةٍ : (( أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ ))
– أخرجه البخاري برقم (192)
– ومسلم برقم (235)
– وفي رواية للبخاري : (( مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً )) وهي عند مسلم
وفي رواية : (( بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى بَدَأَ مِنْهُ )) البخاري برقم (185) وهي عند مسلم
– وفي رواية : (( وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )) البخاري برقم (191)
– وفي رواية : (( فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَدْبَرَ بِهِ وَأَقْبَلَ )) البخاري برقم (199)
الفوائد والأحكام
1- قوله : ( شهدت عمرو بن الحسن سأل عبدالله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ) فيه بيان ما كان عليه السلف الصالح من الاهتمام بأمر دينهم والتفقه فيه وأنهم لا يجدون غضاضة في السؤال والتثبت حتى وإن كانوا يعلمون ، وهم بذلك يعظمون ما عظم الله ويتتبعون محاب الله فنالوا السبق رحمهم الله ، وهم في ذلك يقتدون بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن العلم يؤخذ عن أهله وأنه يؤخذ كابراً عن كابر ولا يزال الخير في الناس ما كان علمهم عند أكابرهم والمقصود الأكابر في العلم والراسخين فيه وإن كانوا صغاراً في السن
2- قوله : (( فَدَعَا بِتَوْرٍ )) وفي رواية : (( تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ )) والتور هو الطست والصفر هو جيد النحاس ولذلك يقال له : الشَّبَه ، أي يشبه بالذهب في لونه وفي ثمنه
3- الحديث يدل على جواز استعمال آنية الصفر وإن كان غالياً وشبيهاً بالذهب وقد سبق بيان جواز استعمال جميع الأواني من أي مادة صنعت إلا ما استثنى
4- حديث : (( وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ الْعَبُوا بِهَا لِعْباً )) أخرجه أحمد برقم (8416) وأبو داود برقم (4236) وفيه ضعف وقد حسنه بعضهم
وقد قيل إنه منسوخ بحديث تحريم الذهب على الرجال وحله للنساء
وقيل إنه خاص بالنساء
5- قوله : ( فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلاَثاً بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ ) في كيفيتها خلاف وظاهر الحديث أنه يأخذ غرفة فيتمضمض ويستنشق بها ثم يأخذ غرفة ثانية فيمضمض ويستنشق منها ثم الثالثة كذلك
6- قوله : ( وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ ) فيه دليل على جواز التكرار ثلاثاً في بعض الأعضاء ومرتين في بعضها
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء مرةً مرة وَمرتين مرتين وثلاثاً ثلاثا وبعضه ثلاثاً وبعضه مرتين ، فالأمـر فـيه سعة وكـل سـنـة والحمد لله
(( فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ ))
فأما لفظة : (( أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ )) في حديث عبدالله بن عمرو : أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثا ثم قال : (( هَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ))
فهي شاذة من حيث الإسناد فقد أثبتها أبو عوانة [ الوضاح ] ولم يذكرها سفيان الثوري
والقول قول سفيان فلا يعدل به أحد في زمانه فهي مخالفة للروايات الصحيحة في أنه توضأ مرةً مرة فكيف يقال : (( أَوْ نَقَصَ ))
قلت : يعكر على ما قيل في إسنادها ما ورد في مصنف ابن أبي شيبة برقم (58) (1/257-258) تحقيق عوامة] : حدثنا أبو أسامة عن سفيان عن موسى ابن أبي عائشة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده … فذكره وفيه : (( أَوْ نَقَصَ ))
قال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (1/229) لكن أبو أسامة وهو حماد بن أسامة وإن كان ثقة ثبتاً فقد قال الحافظ : ربما دلس وكان بآخرة يحدث من كتب غيره ولذا حكم عليها في المصدر السابق (1/230) بقوله : (( أَوْ نَقَصَ )) شاذ ووهم من أبي عوانة
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/405) شرح باب ما جاء في الوضوء في أول كتاب الوضوء : إن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه ، بل أكثرهم مقتصر على قوله : (( فَمَنْ زَادَ )) فقط
وقال أيضاً : إسناده جيد لكن عده مسلم في جملة ما أنكر على عمرو بن شعيب … وقيل : فيه حذف تقديره : من نقص من واحدة ، ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعاً : (( الْوُضُوءِ مَرَّة وَمَرَّتَيْنِ وثلاثاً فَإِنْ نَقَصَ مِنْ وَاحِدة أَوْ زَادَ عَلى ثَلاَثٍ فَقَدْ أخْطَأ )) وهو مرسل رجاله ثقات . انتهى
وقال السندي في حاشيته على ابن ماجه(1/164) : وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث : (( أَوْ نَقَصَ )) والمحققون على أنه وهم لجواز الوضوء مرةً مرة ومرتينِ مرتين . انتهى
7- وفي قوله : (( ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسِهِ )) دليل على أخذ ماء جديد لمسح الرأس وهو ثابت في صحيح مسلم برقم (236) قال : (( وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ )) من حديث عبدالله بن زيد بن عاصم
8- قوله : (( ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً ))
أما قوله : (( فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ )) فقد ورد معناه أيضاً في حديث علي رضي الله عنه كما في سنن أبي داود برقم (112) وهو حديث صحيح ولفظه : (( ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ مُقَدَّمَهُ وَمُؤَخَّرَهُ مَرَّةً ))
وفي حديث المقدام بن معدي كرب قال : (( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَلَمَّا بَلَغَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ فَأَمَرَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ الْقَفَا ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ )) أخرجه أبو داود برقم (122) وهو صحيح أيضاً
وفي حديث معاوية رضي الله عنه عند أبي داود برقم (124) قال : (( فَلَمَّا بَلَغَ رَأْسَهُ غَرَفَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَلَقَّاهَا بِشِمَالِهِ حَتَّى وَضَعَهَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ حَتَّى قَطَرَ الْمَاءُ أَوْ كَادَ يَقْطُرُ ثُمَّ مَسَحَ مِنْ مُقَدَّمِهِ إِلَى مُؤَخَّرِهِ وَمِنْ مُؤَخَّرِهِ إِلَى مُقَدَّمِهِ )) وهو حديث صحيح أيضاً
وهذه الصفة الثابتة بهذه الأحاديث الصحيحة تدل على وجوب مسح الرأس بهذه الكيفية وسواء كان عليه شعر أو لا
ولا يعكر عليها ما رواه أبو داود برقم (126) والترمذي برقم (33) من حديث الرُّبَيِّع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ بَدَأَ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ ثُمَّ مُقَدَّمِهِ … )) الحديث
وقال الترمذي : حسن وحديث عبدالله بن زيد أصح من هذا وأجود إسناداً
قلت : في إسناد حديث الربيع عبدالله بن محمد بن عقيل وفيه ضعف ومع مخالفته لمن هو أقوى منه فلا تقبل مخالفته
قلت : والأحاديث الواردة تدل على عدم تكرار مسح الرأس وفي حديث عبدالله ابن عمرو بن العاص حيث قال صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ : (( فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ))
قال الحافظ – رحمه الله – في الفتح (1/510) شرح الحديث (192) : في رواية سعيد بن منصور التصـريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة ، فدل على أن الزيادة عليها في مسح الرأس غير مستحبة ، ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح لا أنها مسحات مستقلة لجميع الرأس جمعاً بين هذه الأدلة . انتهى
9- قلت : الأحاديث الصحيحة المتكاثرة على أن مسح الرأس مرة واحدة وما خالف ذلك فيعتبر شاذ وألمح إلى ذلك أبو داود – رحمه الله
10- أفادت لفظة : (( بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى بَدَأَ مِنْهُ )) أن المشروع أن يبدأ المتوضئ بمقدم رأسه حتى يذهب بيديه إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه
وهذه الرواية تعتبر تفسيراً للرواية الأولى وهي قوله : (( فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ ))
فإن الواو لا تفيد الترتيب ويكون المعنى كما في رواية في البخاري : (( فَأدْبَرَ بِيَدَيْهِ وَأَقْبَلَ ))
الحديث التاسع
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ ))
– أخرجه البخاري في مواضع ومنها :
في كتاب : الوضوء باب : التيمن في الوضوء والغسل برقم (168) وهذا لفظه
– ومسلم في كتاب : الطهارة – باب : التيمن في الطهور وغيره برقم (268) ولفظه قالت : (( إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي طُهُورِهِ إِذَا تَطَهَّرَ وَفِي تَرَجُّلِهِ إِذَا تَرَجَّلَ وَفِي انْتِعَالِهِ إِذَا انْتَعَلَ ))
الفوائد والأحكام
1- الياء والميم والنون على هذا الترتيب يرجع إليها : اليُمْنُ بمعنى البركة ، واليمين ضد اليسار واليَمن الإقليم المعروف ، ويقال تيمن إذا سار جهة اليمين وسمي اليمن يمناً لأنه على يمين الكعبة لمن وقف على بابها مستقبلاً المشرق
2- ورد في شرف اليمين قوله تعالى : {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27]
وقوله تعالى : {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ } [مريم:52]
ومنه إعطاء أهل السعادة كتبهم بأيمانهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ … )) أخرجه مسلم برقم (1827)
ومنه قوله تعالى : {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } [التحريم:8]
3- التنعل : لبس النعل ، والترجل : تسريح الشعر ودهنه
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ )) أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد (24/10) وأبو داود برقم (4163)
عن عبدالله بن مغفل رضي الله عنهما قال : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّرَجُّلِ إِلاَّ غِبًّا )) أخرجه أبو داود برقم (4159) والترمذي برقم (1756) وقال : حسن صحيح وهو في سنن النسائي الكبرى برقم (9315)
وعند النسائي برقم (5055) بسند صحيح وأخرجه أبو داود من وجه آخر بسند صحيح أيضاً :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ : ( كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامِلاً بِمِصـْرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَإِذَا هُوَ شَعِثُ الرَّأْسِ مُشْعَانٌّ ، قَالَ : مَا لِي أَرَاكَ مُشْعَانًّا وَأَنْتَ أَمِيرٌ ؟ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَانَا عَنِ الإِرْفَاهِ . قُلْنَا : وَمَا الإِرْفَاهُ ؟ قَالَ : التَّرَجُّلُ كُلَّ يَوْمٍ )
وفي سنن النسائي برقم (238) عن حميد بن عبدالرحمن الحميري قال : لقيت رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة – أربع سنين – قال : (( نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ )) وإسناده صحيح
4- الحديث فيه فضيلة البدء باليمين على اليسار في الوضوء ، وفي سنن أبي داود برقم (4141) بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا لَبِسْتُمْ وَإِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِأَيَامِنِكُمْ ))
5- نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على استحباب التيمن وأن ذلك من باب الأفضلية لا الوجوب وممن نقل الإجماع ابن المنذر في الأوسط (1/387) وابن عبدالبر في الاستذكار (2/21) وابن قدامة في المغني (1/153) والنووي في شرح مسلم (3/163)
وقد خالف الشيعة كما في شرح مسلم ولا يعتبر بخلافهم ، وخالف أيضاً ابن حزم كما في المحلى مسألة رقم (206)
قال ابن المنذر في الأوسط في الموضع السابق : وأجمعوا على أن لا إعادة على من بدأ بيساره في الوضوء قبل يمينه ، وروينا عن علي وابن مسعود أنهما قالا : ( لا تبالي بأي يد بدأت )
قلت : إن صحت دعوى الإجـمـاع وإلا فالأصل في الأوامر الوجوب كما هو معلوم
6- ذكر غير واحد في معنى هذا الحديث دخوله في باب التفاؤل بالألفاظ والأفعال الحسنة وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل
7- يؤخذ من هذا الحديث احترام اليمين وإكرامها فلا تستعمل في إزالة شيء من الأقذار ولا في شيء من خسيس الأعمال ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء باليمين وعن مس الذكر باليمين
8- قاعدة الشرع أن ما كان من باب التكريم والتشريف فيستحب التيامن فيه وأما ما كان بضده فيستحب التياسر فيه
فقد ورد استعمال اليسار في الاستنثار في الوضوء في حديث علي في صفة الوضوء وترجم عليه النسائي وقد سبق وأنه نثر بيده اليسرى
وورد التيامن في الوضوء كما في هذا الحديث
واستحباب التيامن في الوضوء لا يختص به فإنه قد ثبت البداءة بالشق الأيمن على الشق الأيسر في الغسل كما في حديث أم عطية رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم لهن في غسل ابنته : (( ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا )) أخرجه البخاري في كتاب : الوضوء باب : التيمن في الوضوء والغسل برقم (167) ومسلم برقم (939)
وفي صحيح البخـاري في كتاب : اللـباس باب : ينزع نعله اليسـرى برقـم (5517) ومسلم في كتاب : اللباس والزينة باب : استحباب لبس النعل في اليمنى أولاً برقم (2097) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ ، لِتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ ))
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ )) أخرجه مسلم برقم (2020) والترمذي برقم (1800) وابن حبان برقم (5226)
وفي حـديث أبي قـتادة رضي الله عنه : (( أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُعْـطِيَ الـرَّجُـلَ بِشِمَـالِهِ أَوْ يَأخُذَ بِهَا … )) الحديث أخرجه ابن حبان برقم (5228) وإسناده صحيح
ومن ذلك مناولة الشراب للأيمن فالأيمن ففي صحيح البخاري في كتاب : الأشربة باب : الأيمن فالأيمن في الشرب برقم (5619) ومسلم في كتاب : الأشربة باب : استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ برقم (2029) من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ فَـشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَابِيَّ وَقَالَ : (( الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ ))
وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أخرجه البخاري في مواطن أحدها الموطن السابق برقم (5620) ومسلم في الوضع السابق برقم (2030) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ : (( أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِىَ هَؤُلاَءِ )) فَقَالَ الْغُلاَمُ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا ، قَالَ : فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ
9- اختلف في السواك هل يكون باليمين أم باليسار وسبب الخلاف هل هو من باب التكريم لقوله صلى الله عليه وسلم: (( السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِ )) أم هو من باب إزالة القذر ؟
فعند الشافعي كما في شرح مسلم للنووي (3/160-161) وكذلك شرح ابن الملقن وغيرها أن الاستياك باليمين هو الأفضل حتى قال بعضهم إن الاستياك باليسار فعل الشيطان
وعند الإمام أحمد كما في رواية الكوسج أن الاستياك باليسار هو السنة ونقله ابن تيمية في الفتاوى (21/108) وقال : وما علمنا أحداً من الأئمة خالف في ذلك
قلت : هذا عجيب وقد ذكرنا خلاف الشافعية عن النووي وغيره
قلت : في حديث عائشة رضي الله عنها وهو حديث الباب في سنن أبي داود برقم (4140) قالت : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَنَعْلِهِ وَسِوَاكِهِ ))
وقد انفرد بها مسلم بن إبراهيم وهو من الثقات الأثبات من بين من روى هذا الحديث وقد صححها بعضهم على أنها زيادة ثقة غير مخالفة ، وضعفها بعضهم لتفرده من بين جميع من روى هذا الحديث
قلت : فإن صحت فهي فاصلة للخلاف في أن السواك باليمين ، والله أعلم
الحديث العاشر
عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : (( إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ )) فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : (( رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْنِ ثُمَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرَّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ )) فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ فَلْيَفْعَلْ
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (( تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ ))
الفوائد والأحكام
1- الغُر بالضم بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم
2- التحجيل بياض في اليدين والرجلين من الفرس ، وأصله من الحجل وهو الخلخال والقيد ولابد أن يجاوز التحجيل الأرساغ ولا يجاوز الركبتين والعرقوبين
3- المراد بالأمة في هذا الحديث أمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنون خاصة
4- قال بعض من ألف في غريب القرآن : أمة على ثمانية أوجه :
1- أمة : جماعة كقوله تعالى : { أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23]
2- أمة : أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما نقول : أمة محمد صلى الله عليه وسلم
3- أمّة : رجل جامع للخير يُقتدى به كقوله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل:120]
4- أمّة : دين وملة كقوله تعالى : {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [الزخرف:22]
5- أمّة : حين وزمان كقوله تعالى : {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود:8]
وقوله تعالى : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [يوسف:45] يعني : بعد حين
6- أمّة : قامة يقال فلان حسنُ الأمة أي القامة
7- أمّة : رجل منفرد بدين لا يشركه فيه أحد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يُبْعَثُ زَيْدَ ابْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أُمَّةً وَاحِدَةً )) النسائي في الكبرى وغيره وروي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم
8- أمّة : أمّ يقال أمّة زيد وهذا فيه رد على من زعم أن في اللغة مجاز
5- كون المؤمنين يأتون غراً محجلين يوم القيامة هو النور الذي يعلو أعضاء الوضوء
6- قال الله تعالى : {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8]
7- قوله صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ )) ظاهر في اختصاصهم بذلك دون سائر الأمم وقد ورد مصرحاً به في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ وَلآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ وَإِنِّي لأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ )) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ تَرِدُونَ عَلَىَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ )) أخرجه مسلم برقم (247) وأخرج البخاري بعضه
وفي رواية عند مسلم : (( لَيْسَتْ لأَحَدٍ غَيْرِكُمْ ))
وعند الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/40) : (( وَلا يَأتِي أَحَدٌ مِنْ الأُمَمِ كَذَلِكَ ))
8- استدل بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة ، والصحيح أن الوضوء كان في الأمم السابقة لحديث جريج الراهب ولقصة سارة امرأة إبراهيم عليه السلام مع الطاغية وهي في الصحيح
وأما حديث : (( هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي )) فهو حديث ضعيف
فالغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة وهذا الذي يدل عليه حديث الباب
9- يستدل بهذا الحديث على أن تارك الصلاة كافر لأنه لا صلاة إلا بوضوء ومن ليس له غرة ولا تحجيل فليس له وضوء والـمقصود من تركه عمـداً بعـد وجوبه عليه
10- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الشيخان في صحيحيهما وهو ظاهر في أن قوله : (( فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ )) مرفوع من جملة الحديث
ومن الغريب أن بعض العلماء أدّعى كونه مدرجاً من كلام أبي هريرة واستدلوا بما رواه أحمد من طريق فُليح عن نعيم [ يعني المجمر ] وفي آخره قال نعيم : لا أدري قوله : (( مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ )) من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة رضي الله عنه
والغريب كيف يستدلون برواية فليح بن سليمان – وهو وإن أخرج له الشيخان إلا أن الأكثرين على تضعيفه – على رد رواية عمارة بن غزيّة وسعيد بن أبي هلال وهما أوثق منه بكثير وكلاهما روياه من دون تردد وشك في حين أن فليح لم يجزم بأنه من كلام أبي هريرة ، فروايتهما مقدمة من دون شك كما هو صنيع الشيخين
وأغرب من ذلك أن بعضهم ذكر تقوية لراوية فليح هذه : رواية ليث ابن أبي سليم عن كعب عن أبي هريرة عند أحمد [ برقم (8524) ] وفيه هذه الجملة ومعلوم أن ليثاً متروك الحديث لا يصلح في المتابعة ولا في الشواهد فكيف يرد رواية الثقات بمثله !!
والحاصل أن اتفاق صنيع الشيخين مقدم على كل من أعل الحديث ، فهو مرفوع كله . انتهى شرح الإثيوبي لمسلم بتصرف (6/316-317)
11- قد استعمل أبو هريرة رضي الله عنه الحديث على إطلاقه
12- وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف (1/424) برقم (609) حدثنا وكيع عن العمري عن نافع عن ابن عمر : ( أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا بَلَغَ بِالْوُضُوءِ إبِطَهُ فِي الصَّيْفِ ))
والعمري هو عبدالله المكبر قال الترمذي في سننه : ليس بالقوي عند أهل الحديث وهو صدوق
وقال ابن عدي : لا بأس به في رواياته وإنما قالوا : لا يلحق أخاه عبيدالله وإلا فهو في نفسه صدوق لا بأس به
وقال الذهبي في الميزان (2/ برقم 4472) : صدوق في حفظه شيء
وسأل عثمان الدارمي شيخه ابن معين : عبدالله العمري ما حاله في نافع ؟ فقال : صالح . انتهى من حاشية المصنف بتصرف يسير
13- في مسند أحمد برقم (17693) (29/237) وسنن الترمذي برقم (607) بإسناد صحيح على شرط مسلم عَنْ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : (( مَا مِنْ أُمَّتِي مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَأَنَا أَعْرِفُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) قَالُوا : وَكَيْفَ تَعْرِفُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَثْرَةِ الْخَلاَئِقِ ؟ قَالَ : (( أَرَأَيْتَ لَوْ دَخَلْتَ صَبْرَةً فِيهَا خَيْلٌ دُهْمٌ بُهْمٌ وَفِيهَا فَرَسٌ أَغَرُّ مُحَجَّلٌ أَمَا كُنْتَ تَعْرِفُهُ مِنْهَا ؟ )) قَالَ : بَلَى . قَالَ : (( فَإِنَّ أُمَّتِي يَوْمَئِذٍ غُرٌّ مِنَ السُّجُودِ مُحَجَّلُونَ مِنَ الْوُضُوءِ ))
وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة برقم (2836) ومحقق المسند
قلت : وهو يحتمل أن الغرة في الوجوه بسببين والتحجيل في الأرجل بسبب واحـد
14- اختلف العلماء في الزيادة في الوضوء في الوجه واليدين والرجلين :
فذهب مالك وأهل المدينة إلى عدم استحباب مجاوزة محل الفرض وهو رواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم
وذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم إلى استحباب مجاوزة الفرض في الوضوء ، والراجح مذهب الجمهور لقوة دليلهم وعمل الصحابيين الجليلين رضي الله عنهم جميعاً
وإمكانية الرد على تعليلات المخالفين وعدم وجود دليل مخالف وبالله التوفيق
15- واختلف من قال بالزيادة في القدر المستحب من التطويل فقيل إلى المنكب والركبة وقد ثبت وقيل إلى نصف العضد والساق
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – في التعليق على الفتح (1/410) برقم (136) : الأصح في هذه المسألة مشروعية الإطالة في التحجيل خاصة وذلك بالشـروع في العضد والساق تكميلاً للمفروض من غسل اليدين والقدمين كما صرح أبو هريرة برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم . انتهى
الحديث الحادي عشر
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ قَالَ : (( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ ))
– البخاري في الوضوء باب : ما يقول عند الخلاء برقم (142)
– ومسلم في الحيض برقم (375)
– وفي رواية عند مسلم : (( أَعُوذُ بِاللَّهِ ))
– وفي بعض ألفاظ البخاري : ((إِذَا أَتَى ))
– وفي لفظ عند البخاري أيضاً : (( إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ )) وهما معلقان
الفوائد والأحكام
1- الاستطابة : طلب الطيب بإزالة الأذى عن المخرجين بالماء مع الحجارة وهذا أتم وأكمل وإلا بالماء وحده وإلا بالحجارة وما يقوم مقامها من المنقيات
2- قال ابن مفلح (1/125) قال في الخلاف وغيره : قال أهل اللغة : يقال : استطاب وأطاب إذا استنجى
من آداب قضاء الحاجة :
الابعاد عن أعين الناظرين بحيث لا يُر ولا يسمع صوت خارجه وفي الحديث : (( كَانَ إِذَا أَرَادَ الْمَذْهَبِ أَبْعَدَ ))
ومنها : الستر بحيث لا يكشف عورته حتى يدنو من الأرض
ومنها : اتقاء المواضع المنهي عنها :
طرق الناس وأفنيتهم وظل الأشجار التي يرتادها الناس والأنعام وتحت الأشجار المثمرة وموارد المياه والماء الراكد والجحرة
ومنها : أن يستعيذ بالله قبل جلوسه
ومنها : أن يستعد بما يزيل النجاسة من ماء أو حجارة وألا تقل الحجارة عن ثلاثة أحجار
ومنها : عدم ذكر الله أثناء قضاء الحاجة
ومنها : أن لا يُكلم أحداً أثناء قضاء الحاجة إلا لما لابد منه
ومنها : أن لا يمس ذكره بيمينه وكذلك الدبر وفرج المرأة لأنه لا فرق
ومنها : أن لا يستنجي باليمين كما في حديث سلمان رضي الله عنه
ومنها : أن لا يستقبل القبلة أثناء قضاء الحاجة
ومنها : ألا يستنجي برجيع ولا عظم ولا ما فيه كلام محترم ولا بشيء من الطعام
3- قال أبو عبيد : يقال لموضع الغائط : الخلاء والمذهب والمرفق والمرحاض والكنيف ، وفي رواية لهذا الحديث عند مسلم : (( كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ )) وهو بمعنى الخلاء وسمي بذلك لأنه يكنف من دخله ويستره .
انتهى من غريب الحديث لابن الجوزي (1/367) وانظر كشف اللثام (1/177) ولم أجده في غريب الحديث لأبي عبيد
4- الخلاء بالمد : المكان الخالي كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ، ثم كثر حتى عبر به عن الحاجة نفسها والكنيف كما سبق بيانه وعبر بلفظه عن قضاء الحاجة نفسها ، وكذلك الحش ، المرحاض
5- قوله : (( إِذَا دَخَلَ )) أي أراد الدخول كما ورد مصرحاً به في بعض روايات هذا الحديث وهو من باب قوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]
وقوله تعالى : {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا } [المائدة:6] ومعناهما إذا أردتم القراءة وإذا أردتم القيام إلى الصلاة
6- قوله : (( كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ )) قال مسلم : وفي حديث هشيم : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ … ))
7- قال البخاري – رحمه الله – عقب إيراد حديث الباب برقم (142) : وقال سعيد بن زيد [قلت : هو أخو حماد بن زيد] قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ : (( إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ )) ووصله في الأدب المفرد برقم (692) فقال : حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيْدُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قاَلَ : حَدَّثَنِي أَنَس قَالَ : (( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ قَالَ : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ ))
وهو حديث صحيح وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله
8- قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في الفتح (1/422) : وقد روى العمري هذا الحديث من طريق عبدالعزيز بن المختار عن عبدالعزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال : (( إِذَا دَخَلْتُمْ الْخَلاَءَ فَقُولُوا : بِسْمِ اللهِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ)) وإسناده على شرط مسلم . انتهى
وزيادة التسمية ورد أيضاً في حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمُ الْخَلاَءَ أَنْ يَقُولَ : بِسْمِ اللَّهِ ))
وقال الترمذي : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بذاك القوي ، وقد روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء في هذا ، وأخرجه ابن ماجة برقم (297)
قلت : وقد صححه الشيخ الألباني – رحمه الله – في الإرواء(1/89-90) برقم (50) بمجموع طرقه
وقال في منتقى الأخبار (1/67) برقم (75) : ولسعيد بن منصور في سننه : (( كَانَ يَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ ))
9- في حديث أنس رضي الله عنه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلاَءَ فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ )) وإسناده صحيح وصححه العلامة الألباني – رحمه الله – في صحيح سنن أبي داود (1/26) برقم (4)
10- قوله : (( كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم )) كان هي التي تدل على الملازمة والمداومة
11- قوله : ((إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلاَءَ )) والمقصود مكان قضاء الحاجة لأن ذكر الله في الخلاء الذي هو بمعنى المكان الخالي يجوز بلا خلاف
وأما الذكر في مكان قضاء الحاجة أو حال قضاء الحاجة ففيه خلاف
12- أجمع أهل العلم على استحباب الاستعاذة عند إرادة الدخول في الخلاء لقضاء الحاجة عملاً بهذه الأحاديث الصحيحة
13- قوله : (( إِذَا دَخَلَ )) :
أ- هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك لكونها تحضرها الشياطين كما ورد في حديث زيد بن أرقم الذي سبق أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلاً في جانب البيت ؟
الأصح الثاني لتعليل الأمر بحضور الشياطين والجن هذه الأماكن وحال كشف عورات بني آدم
ب- متى يقول ذلك ؟
جمهور العلماء الذين يكرهون ذكر الله حال قضاء الحاجة يقولون : أنه يقول الذكر في الأماكن المعدة لذلك قبل الدخول إليها ، وأما في الخلاء فيقوله في أول الشروع كتشمير الثياب مثلاً وقالوا فيمن نسي : يستعيذ بقلبه لا بلسانه
وأما من يجيز الذكر حال قضاء الحاجة فلا يحتاج إلى تفصيل المسألة
14- ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بهذه الاستعاذة حتى يسمعها من حوله لأنها لو لم تُسمع لم تنقل
15- استعاذته صلى الله عليه وسلم : تعبداً لله وتعليماً لأمته وأخذاً بالأسباب الدافعة للشرور
16- قوله : (( اللَّهُمَّ )) أي : يا الله ، فالميم عوض عن ياء النداء ، ولهذا لا يجمع بينهما في اختيار الكلام ، لأنه ورد في ضرورات الشعر
17- أعوذ عوذٌ وعياذٌ ومعاذ . ومعنى الاستعاذة : الاستجارة والاعتصام ، فمعنا أعوذ بالله : استجير بالله وأعتصم به
18- قال ابن القيم – رحمه الله – في بدائع الفوائد : اعلم أن لفظة عاذ وما تصرف منها تدل على التحرز والتحصن والالتجاء وحقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه ولهذا سمي المستعاذ به : مَعاذاً كما يسمى ملجأ وفي الحديث لما دخل عليه الصلاة والسلام على ابنة الجون فوضع يده عليها قَالَتْ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ : (( لَقَدْ عُذْتِ بِمَعاذٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ )) أخرجه البخاري برقم (4956)
19- الخبْث ، الخبُث : كلا اللفظين صحيح وقد أنكر الخطابي التسكين فأُنكر عليه ذلك بثبوتها في الروايات الصحيحة عن الشيوخ الأثبات
20- الخبْث : بإسكان الباب قال أبو عبيد (2/192) : هو الشر
وقال ابن الأنباري : هو الكفر
الخبائث : الشياطين
وقال الداودي : الخبث الشيطان والخبائث المعاصي ، قال : وقد قيل : الخبائث : إناث الجن ، والخبُث بضم الباب ذكورهم جمع خبيث . انتهى النهاية في غريب الحديث (2/6) ولسان العرب مادة خبث
21- ومناسبة الاستعاذة بالله منهم في هذه الحالة أن سنة الله تعالى اقتضت أن للشيطان قدرة تسلط في الخلاء ما ليس له في الملأ فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : (( الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلاَثَةُ رَكْبٌ ))
وأيضاً فإن هذه الأماكن مكان للنجاسة وهي أماكن مأوى للشياطين ومستهوى لهم
وأيضاً فإنها حال تكشف فيها العورات للضرورة وحال لعدم ذكر الله فناسب الاستعاذة بالله قبل الولوج إليها
22- قال الإمام أحمد – رحمه الله – : ما دخلت المتوضأ ولم أقلها إلا أصابني ما أكره . ذكره في المغني (1/228) وانظر كشف اللثام
23- اختلف العلماء في جواز ذكر الله تعالى على الخلاء فروي عن ابن عباس أنه كره أن يذكر الله تعالى عند الخلاء وهو قول عطاء ومجاهد والشعبي
واستدلوا بما رواه مسلم برقم (370) وأبو داود برقم (16) عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ : (( مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ))
وأخرج أبو داود برقم (17) بسند صحيح عَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : (( إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ )) أَوْ قَالَ : (( عَلَى طَهَارَةٍ ))
وأجاز ذلك جماعة ، روى ابن وهب : ( أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالى فِي الِمرْحَاضِ )
وقد أورد ابن أبي شيبة – رحمه الله – في مصنفه (2/67) بأسانيد صحيحة عن الشعبي وإبراهيم والحسن وابن سيرين وأبي إسحاق وابن أبي مليكة : في الرجل يعطس على الخلاء ؟ قالوا جمعياً : يحمد الله
وقال عكرمة : لا يذكر الله بلسانه بل بقلبه . ذكره العيني (2/254)
24- ذهب الشافعية والحنابلة إلى كراهة الكلام أثناء قضاء الحاجة لحديث جابر ابن عبدالله رضي الله عنهما وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا تَغَوَّطَ اَلرَّجُلَانِ فَلْيَتَوَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَا يَتَحَدَّثَان فَإِنَّ اَللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ ))
قال ابن حجر في البلوغ : رواه ابن السكن وابن القطان وهو معلول
قلت : أعل بالإرسال والاضطراب ولكن له شاهد فهو حديث حسن على أقل أحواله
وهذه الكراهة إذا كان الكلام لغير حاجة ، فأما إذا كان لحاجة كأن يرشد أحداً أو كلمه أحد لابد أن يرد عليه أو كان له حاجة في شخص وخاف أن ينصرف أو طلب ماء ، فلا بأس بالكلام
قال النووي – رحمه الله – في المجموع (2/89) : ثم هذه الكراهة التي ذكرها المصنف والأصحاب كراهة تنزيه لا تحريم بالاتفاق . انتهى
وقال ابن المنذر – رحمه الله – في الأوسط (1/341-342) : وترك الذكر أحبُّ إليّ ولا أوثم من ذكر ، والله أعلم . انتهى
25- يسن للمتخلي إذا خرج أن يقدم رجله اليمنى خروجاً ويقول : ( غُفْرَانَكَ ) لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلاَءِ قَالَ : (( غُفْرَانَكَ )) أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حسن غريب وأخرجه ابن ماجه والإمام أحمد (6/155)
وَعَنْ أَنَسِ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلاَءِ قَالَ : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنِّي الأَذَى وَعَافَانِي )) أخرجه ابن ماجه برقم (301) وذكره ابن تيمية – رحمه الله – في شرح العمدة (1/139) عن أحمد وهو حديث ضعيف
26- قوله : (( غُفْرَانَكَ )) أي : أطلب غفرانك ، قيل لتركه الذكر حال قضاء الحاجة لأنه صلى الله عليه وسلم : (( كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ )) فاعتبر تركه الذكر في تلك الحالة تقصيراً يستغفر الله منه وهذا ليس ذنباً ولكن أهل المناصب العالية في التقوى يفعلون هذا
وقيل للتقصير في شكر نعمة الله عليه بإقداره على إخراج ذلك الأذى
الحديث الثاني عشر
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ , فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلا بَوْلٍ , وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا , وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا )) قَالَ أَبُو أَيُّوبَ : فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
– أخرجه البخاري برقم (144)
– ومسلم برقم (264)
الحديث الثالث عشر
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما قَالَ : (( رَقِيْتُ يَوْماً عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ , فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامَ , مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةَ ))
وَفِي رِوَايَةٍ (( مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ ))
– أخرجه البخاري برقم (145)
– ومسلم برقم (266)
الفوائد والأحكام
1- ورد في تعظيم الكعبة آيات وأحاديث فالآيات :
قوله تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً …} [آل عمران:96-97]
وقوله تبارك وتعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج:25-26]
وقال عز وجل : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:125-126]
وقال سبحانه : {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [البقرة:144]
والأحاديث منها هذان الحديثان ومنها :
– حديث أبي ذر رضي الله عنه في البخاري برقم (3366) ومسلم برقم (520) قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ ؟ قَالَ : (( الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ )) … الحديث
– وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ )) أخرجه الترمذي برقم (877)
وللنسائي قال : (( الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ ))
– ومنها : حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى )) أخرجه البخاري برقم (1189) ومسلم برقم (1397)
– ومنها : أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ )) أخرجه البخاري برقم (1190) ومسلم برقم (1394)
– ومن ذلك : ما ورد في سنن أبي داود برقم (2875) من حديث عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ ؟ فَقَالَ : (( هُنَّ تِسْعٌ )) فَذَكَرَ مَعْنَاهُ [ يعني معنى حديث أبي هريرة : (( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ )) ] زَادَ : (( وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَاسْتِحْلاَلُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا )) وإسناده حسن
2- الغائط : المكان المطمئن وقد كانوا يرتادونه لقضاء الحاجة فعبر عنها به تنزيهاً عن ذكر الخارج بلفظه كالخلاء والكنيف والحش والمذهب ، وهذا على عادتهم في ترك ما يستقبح التلفظ به من الألفاظ
3- مَراحيض ، بفتح الميم جمع مِرحاض بكسر الميم وهو البيت المتخذ لقضاء حاجة الإنسان ، أي للتغوط
4- قوله : (( إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ )) في قضاء الحاجة كيف كان سواءً كان للخارج من الدبر أو من القبل لأن النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عام في جميع صور قضاء الحاجة ويوضح ذلك قوله : (( بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ )) وإن كان الغائط يطلق خاصة على الخارج من الدبر ، ولكن هنا يراد به العموم
5- قوله : (( إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ )) يتضمن أمرين :
أحدهما : خروج الخارج المستقذر
والثاني : كشف العورة
فمن الناس من قال المنع من أجل الخارج لمناسبته لتعظيم القبلة عنه ويستدلون بحديث سراقة وسيأتي
ومنهم من قال : المنع من أجل كشف العورة ويستدلون بأثر ضعيف فيه ذكر الملائكة والجن ولفظه : عَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي عِيسَى [ قلت : وهو الحناط ] قَالَ قُلْتُ : لِلشَّعْبِيِّ عَجِبْتُ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : وَمَا قَالاَ ؟ قُلْتُ : (( قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا )) وَقَالَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ : (( رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ مَذْهَبًا مُوَاجِهَ الْقِبْلَةِ )) فَقَالَ : ( أَمَّا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِي الصَّحْرَاءِ إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقًا مِنْ عِبَادِهِ يُصَلُّونَ فِي الصَّحْرَاءِ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوهُمْ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهُمْ وَأَمَّا بُيُوتُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تَتَّخِذُونَهَا لِلنَّتْنِ فَإِنَّهُ لاَ قِبْلَةَ لَهَا ) وعيسى الحناط ضعيف بل قيل إنه متروك
قلت : وهذا الأثر أخرجه الدارقطني برقم (171) (1/97- من طبعة الرسالة ] وقال صاحب القبس (1/358) : لم يتعبدنا الله إلا بما نرى . انتهى
6- اختلف أهل العلم في علة النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة من حيث المعنى فقيل الظاهر أنه لإظهار الاحترام والتعظيم للقبلة وهذا التعليل يقتضي المنع في الصحراء والبنيان ، واستدل من قال ذلك بحديث سراقة ابن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْبَرَازَ فَلْيُكْرِمْ قِبْلَةَ اللَّهِ عَزّ وَجَلّ ))
قلت : وقد أخرجه الخطابي في غريب الحديث (2/559) عن محمد ابن هاشم نا الدبري عن عبدالرزاق أنا معمر عن سماك بن الفضل عن أبي راشد عن سراقة أنه كان يُعلم قومه : (( إذا أتى أحدُكم الغَائِط فليكرم قِبْلَةَ الله ولا يَسْتدبرها وليتَّق مجالِسَ اللَّعن : الطريق والظِّلَّ واسْتَمْخِروا الرِّيحَ واسْتَشِبُّوا على سْوُقِكم وأعِدُّوا النَّبَل )) وأورده الزيلعي في نصب الراية (2/103) مرفوعاً ونسبه إلى أبي جعفر الطبري في تهذيب الآثار وفي علل ابن أبي حاتم (1/509- من طبعة الحميد والجريسي برقم (75) ] قال : وسألت أبي عن حديث رواه أحمد بن ثابت فرخويه عن عبدالرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل عن أبي رشدين الجَنَدِي عن سراقة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ … )) الحديث
قال أبي : إنما يروونه موقوفاً وأسنده عبدالرزاق بأخرة . انتهى
قلت : ورواه موقوفاً الطبراني في الأوسط برقم (5198) من طريق رباح بن زيد عن معمر به ورواه البخاري في التاريخ الكبير (3/353) برقم (1159) من طريق معتمر [ هكذا وأظنه معمر كما في المصادر السابقة ] عن سماك به موقوفاً
وأورده الهيثمي في المجمع (1/204) وقال : إسناده حسن وهو في مجمع البحرين (1/292) برقم (351)
وفيه أيضاً حديث طاووس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْبَرَازَ فَلْيُكْرِمْ قِبْلَةَ اللَّهِ فَلاَ يَسْتَقْبِلْهَا وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا ثُمَّ لْيَسْتَطِبْ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ ثَلاَثَةِ أَعْوَادٍ أَوْ ثَلاَثِ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ لْيَقُلِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَخْرَجَ عَنِّى مَا يُؤْذِينِي وَأَمْسَكَ عَلَىَّ مَا يَنْفَعُنِي )) أخرجه الدارقطني (1/91) برقم (156) (157) (158) من طرق عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن طاووس به مرسلاً ، وزمعة بن صالح روى له مسلم مقروناً وضعفه أحمد ، وسلمة بن وهرام صدوق وتابعه طاووس
وقد أخرجه من طريق سفيان الثوري عن سلمة بن وهرام أنه سمع طاووساً يقول نحوه ولم يرفعه
قال علي [ يعني ابن المديني ] : قلت لسفيان : أكان زمعة يرفعه ؟ قال : نعم . فسألت سلمة عنه فلم يعرفه ، يعني لم يرفعه برقم (159) . انتهى
وهو في معرفة السنن (1/334-335) من طريق الدارقطني
قلت : فالحاصل أنه لا يثبت مرفوعاً
إذا كان المنع لتعظيم القبلة واحترامها فهل يقاس عليه حال الجماع والجلوس حال مد الرجلين إلى جهة القبلة وكذلك الجلوس مستدبر القبلة ؟
قلت : ورد في التستر حال الجماع والنهي عن التجرد أحاديث وأجمعها قوله صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ )) أخرجه الإمام أحمد برقم (17970) (29/483-484) وبرقم (17968) قبله وأخرجه أبو داود برقم (4013) وبرقم (4012) والنسائي برقم (406) (407) عن ىعلى بن أميه ، وإسناده صحيح
وعن معاوية بن حيدة قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ ؟ قَالَ : (( احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ )) قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ ؟ قَالَ : (( إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلاَ يَرَيَنَّهَا )) قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ : (( اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ )) أخرجه أبو داود برقم (4017) في باب : ما جاء في التعري والترمذي برقم (2769) وقال : حديث حسن . وابن ماجه برقم (1920) والإمام أحمد (5/3-4)
وعلقه البخاري وصححه الحاكم وأقره الذهبي وقواه ابن دقيق العيد في الإلمام (2/126) وترجم له النسائي في العشرة بــ : ( نظر المرأة إلى عورة زوجها ) وإسناده حسن لأنه من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وهذا إسناد حسن
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا أَتَى أَحَدُكم أَهْلَه فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنّه إِذَا لم يَسْتَتِر اسْتَحْيَتِ الملائكةُ وَخَرَجَتْ وَحَضَرَتْ الشَّيَاطِينِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ كَانَ للشّيَطانِ فِيْهِ شَرِيكٌ )) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/63) برقم (176) وقال : لم يرو هذا الحديث عن يحي بن أبي كثير إلا أبو المنيب الجُرشي ولا عن أبي المنيب إلا عبيدالله بن زحر تفرد به يحي ابن أيوب . انتهى
قلت : وهو في مجمع البحرين برقم (2295) وأخرجه البزار كما في الكشف (2/169-170) وقال : لا نعلمه مرفوعاً إلا بهذا الإسناد عن أبي هريرة فقط وإسناده ليس بالقوي
وقال الهيثمي في المجمع (4/293) : وإسناد البزار ضعفه وفي إسناد الطبراني أبو المنيب صاحب يحي بن أبي كثير ولم أجد من ترجمه وبقية رجال الطبراني ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر . انتهى
قلت : أما أبو المنيب فهو الدمشقي الأحدب ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال العجلي : شامي تابعي ثقة
قلت : وأخرج له أبو داود وقال الذهبي في الكاشف : ثقة ووثقه ابن حجر أيضاً في التقريب
وعبيدالله بن زحر قال الذهبي : فيه اختلاف وله مناكير ضعفه أحمد وقال النسائي : لا بأس به ، وقال ابن حجر : صدوق يخطئ
وعن عتبة بن عبد السلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ وَلاَ يَتَجَرَّدْ تَجَرُّدَ الْعَيْرَيْنِ )) أخرجه ابن ماجه برقم (1921) وفي إسناده الأحوص بن حكيم قال الذهبي في الكاشف : ضُعف ، وقال ابن حجر : ضعيف الحفظ وكان عابداً
وعن عبدالله بن سرجس رضي الله عنه مرفوعاً : (( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ وَلاَ يَتَجَرَّدا تَجَرُّدَ الْعَيْرَيْنِ )) أخرجه النسائي في الكبرى [8/205-طبعة الرسالة] برقم (8980) قال : أخبرنا محمد بن عبدالله بن عبدالرحيم قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن صدقة بن عبدالله عن زهير بن محمد عن عاصم الأحول عن عبدالله ابن سرجس به
وقال النسائي عقبه : هذا حديث منكر وصدقة بن عبدالله ضعيف وإنما أخرجته لئلا يجعل عمرو عن زهير . انتهى
قُلت : صدقة بن عبدالله السمين قال الذهبي في الميزان (2/310-311) : ضعفه أحمد والبخاري وقال أبو زرعة كان قدرياً ليناً ، وقال ابن نمير : ضعيف ، وقال أبو حاتم : محله الصدق أنكر عليه القدر فقط ، وروى يحي بن سعيد عن يحي ضعيف ، وكذا ضعفه النسائي والدارقطني ، وقال دحيم : محله الصدق غير أنه كان يشوبه القدر ، ووثقه سعيد بن عبدالعزيز وقال للأوزاعي : حدثني الثقة عندي وعندك صدقة ابن عبدالله ولم يتعقبه الأوزاعي ، وقال ابن عدي : أكثر أحاديثه مما لا يتابع عليه وهو إلى الضعف أقرب
قلت : وأورد له الذهبي هذا الحديث ثم قال : وزهير أيضاً ذو مناكير . انتهى بتصرف وإضافة
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ وَلاَ يَتَجَرَّدانِ تَجَرُّدَ الْعَيْرَيْنِ )) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم (14211) (14/348- 349) وقال : تفرد به مندل بن علي وليس بالقوي ، وهو وإن لم يكن ثابتاً فمحمود في الأخلاق ، وقال الشافعي : وأكره أن يطأها والأخرى تنظر لأنه ليس من التستر ولا محمود الأخلاق ولا يشبه العشرة بالمعروف وقد أمر أن يعاشرها بالمعروف . انتهى وانظر المعرفة برقم (4215)
وأخرجه البزار (5/118) برقم (1701) والطبراني برقم (10443) من طريق أبي غسان حدثنا مندل
وقال البزار : هذا حديث لا نعلم رواه عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله إلا مندل وأخطأ فيه ، وذكر شريك أنه كان هو ومندل عند الأعمش وعنده عاصم الأحول فحدث عاصم عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ … )) وذكر الحديث مرسلاً
قلت : وصوب المرسل الدارقطني في العلل (5/109-110) برقم (757) وقال الهيثمي (4/293) : رواه البزار والطبراني وفيه مندل بن علي وهو ضعيف وقد وثق . انتهى
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ – قال – وَلاَ يَتَعَرَّيَانِ تَعَرِّيَ الْـحَمِيرِ )) أخرجه الطبراني (8/292) برقم (7683) عن أحمد بن عبدالوهاب بن نجدة ثنا أبو المغيرة ثنا عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة … به وقال الهيثمي (4/294) وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف
قلت : المعنى ثابت وإن ضعفت بعض الأسانيد ، فإن التستر وخاصة حال الجماع هو الموافق للفطر السليمة والعشرة بالمعروف كما قال الشافعي رضي الله عنه وهو من صالح الأخلاق التي بعث رسولنا صلى الله عليه وسلم ليتممها ، ثم إن هذه الأحاديث بمجموعها يحصل قوة تدل على هذا الأصل وبالله التوفيق
قال الصنعاني – رحمه الله – : ويحتمل أن المنع للأمرين ( يعني : الخارج المستقذر ، وأيضاً كشف العورة ) ولكل واحد على انفراده ، فلا تواجه القبلة بكشف العورة ولو في غير قضاء الحاجة ، ولا تواجه بإلقاء العذرة ( البول ) إليها ولو في غير قضاء الحاجة . انتهى
قال في الإحكام : وينبني على هذا الخلاف ، خلافهم في جواز الوطء مستقبل القبلة مع كشف العورة فمن علل بالخارج أباحه إذ لا خارج ، ومن علل بالعورة منعه . انتهى
قلت : الأحاديث وردت بالنص على البول والغائط وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل والله أعلم
7- قوله : (( شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا )) هذا لأهل المدينة وما في سمتها ممن تكون القبلة في غير المشرق أو المغرب
فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فلا يقال لهم شرقوا أو غربوا
والمراد بالقبلة المنهي عن استقبالها واستدبارها حال قضاء الحاجة هي الكعبة وقد ورد في مسند أحمد (29/382) برقم (17838) وسنن أبي داود برقم (10) وابن ماجه برقم (319) عن معقل بن أبي معقل الأسدي رضي الله عنه النهي عن استقبال بيت المقدس
ولكن الحديث في إسناده زيد مولى ثعلبة وهـو مجهول ومدار الـحديث عـليه وقـد ضعفه ابن حجر في الفتح (1/426) وقد روي بلفظ : (( نَهَى أَنَّ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ )) على الإفراد فيكون موافقاً للأحاديث الواردة في الباب بالنهي عن استقبال الكعبة واستدبارها ، ثم لو صح فإنما يقصد به أهل المدينة لأن استقبالهم لبيت المقدس هو استدبار للكعبة وبالله بالتوفيق
8- حديث أبي أيوب دليل صريح في تحريم استقبال القبلة واستدبارها في حال قضاء الحاجة
9- حمل حديث أبي أيوب على الصحاري مخالف لما حمله عليه أبو أيوب من العموم فإنه قال : (( فَأتَيْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبلَ الْقِبْلَةَ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ )) فرأى أن النهي يعم المراحيض وهي في البنيان وراوي الحديث أعرف بالمراد منه خاصة مثل أبي أيوب رضي الله عنه في علمه وفقهه ، فيرجح تفسيره على غيره
قال بعض الأصوليين ( القرافي ) : إن صيغة العموم إذا وردت على الذوات مثلاً أو على الأفعال كانت عامة في ذلك مطلقة في الزمان والمكان والأحوال والمتعلقات ، ثم يقولون : المطلق يكفي في العمل به صورة واحدة فلا يكون حجة فيما عداها ، فمثلاً يقولون : قوله تعالى : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } [النور:2]
قد حصل الامتثال بجلده صلى الله عليه وسلم لمن أتى ذلك في عصره فلا حجة فيه على جلد من أتى هذه الفاحشة بعده ، وكذلك : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة:38]
وفي حديث أبي أيوب رضي الله عنه هذا يقولون مثل ذلك
قال ابن دقيق العيد : وهذا عندنا باطل ، بل الواجب أن ما دل على العموم في الذوات مثلاً يكون دالاً على ثبوت الحكم في كل ذات تناولها اللفظ ولا تخرج عنها ذات إلا بدليل يخصه فمن أخرج شيئاً من تلك الذوات فقد خالف مقتضى العموم ، نعم المطلق يكفي العمل به مرة كما قالوه ونحن لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإطلاق ، وإنما قلنا به من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كل ذات ، فإن كان المطلق مما لا يقتضي العملُ به مرة واحدة مخالفة لمقتضى صيغة العموم اكتفينا في العمل به مرة واحدة وإن كان العمل به مرة واحدة مما يخالف مقتضى صيغة العموم قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغته لا من حيث أن المطلق يعم
مثال ذلك : إذا قال : من دخل داري فأعطه درهماً ، فمقتضى الصيغة العموم في كل ذات صدق عليها أنها داخلة
فإن قال قائل : هو مطلق في الأزمان فأعمل به في الذوات الداخلة الدار في أول النهار مثلاً ولا أعمل به في غير ذلك الوقت لأنه مطلق في الزمان ، وقد عملت به مرة فلا يلزم أن أعمل به مرة أخرى لعدم عموم المطلق
قلنا له لما دلت الصيغة على العموم في كل ذات دخلت الدار ومن جملتها الذوات الداخلة في آخر النهار ، فإذا أخرجت تلك الذوات فقد أخرجت ما دلت الصيغة على دخوله وهي كل ذات وهذا الحديث أحد ما يُستدل به على ما قلناه ، فإن أبا أيوب من أهل اللسان والشرع وقد استعمل قوله رضي الله عنه : (( لاَ تَسْتَقْبِلُوا وَلاَ تَسْتَدْبِرُوا )) عاماً في الأماكن وهو مطلق فيها ، وعلى ما قال هؤلاء المتأخرون لا يلزم منه العموم ، وعلى ما قلناه يعم لأنه إذا أخرج عنه بعض الأماكن خالف صيغة العموم في النهي عن الاستقبال والاستدبار . انتهى من إحكام الأحكام (1/240-246)
10- الشام ، ويقال : الشآم بالمد ، ويقال : الشأم بالهمز ، وسمي بذلك لأن سام ابن نوح سكنه وهو كذلك بالسيرانية فلما عرف قيل الشام ، وقيل : لكثرة قُراه فهي كالشامات ، وقيل : لأنه عن شمال باب الكعبة لمن وقف عليه مستقبلاً المشرق وما كان عن يمينه فهو يمن
11- قوله : (( وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ )) منهم من قال : لباني الكنف ، وهذا غير مسلّم لأنها مبنية من قبل دخول المسلمين فلا يمكن أن يستغفروا للمشركين . وقيل : استغفر لنفسه من السهو والتقصير
12- قوله في حديث ابن عمر : (( رَقِيْتُ )) بكسر القاف أي : صعدت
13- قوله : (( عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ )) وفي رواية : (( عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا )) وفي رواية : (( عَلَى ظَهْرِ بَيْتِي ))
قلت : رواياته على التفصيل : في رواية لمسلم : (( رَقِيتُ عَلَى بَيْتِ أُخْتِي حَفْصَةَ )) وفي رواية للبخاري : (( عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا )) وفيه أيضاً : (( عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا ))
وفي رواية ابن خزيمة : (( دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرِ فَصَعَدْتُ ظَهْرِ الْبَيْتِ ))
وفي رواية أبي عوانة : (( عَلَى ظَهْرِ مَنْزِلِنَا )) .
وليس في هذه الروايات تعارض فإنه بيت حفصة بنت عمر الذي أسكنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقوله : (( بَيْتٍ لَنَا )) لأن حفصة أخته من أبيه وأمه ، وقوله : (( بَيْتِي )) لأنه لا وارث لها إلا هو فآل إليه بالميراث
14- وقع في رواية : (( قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْنِ ))
ولابن خزيمة : (( فَأشْرَفت عَلَى رَسُولِ الله ِ صلى الله عليه وسلم وَهو عَلَى خَلاَئِهِ ))
وفي رواية له : ((فَرَأَيْتُهُ يَقْضِي حَاجَتَهُ مَحْجُوباً عَلَيْهِ بِلَبِنٍ ))
وللحكيم الترمذي بسند صحيح : (( فَرَأَيْتُهُ فِي كَنِيفٍ ))
وهذه الروايات رد على من استدل بحديث ابن عمر على جواز الاستقبال والاستدبار مطلقاً ويؤيد ذلك أن ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال في الفضاء إلا بساتر كما رواه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به . انتهى من الفتح
15- اطلاع ابن عمر كان اتفاقاً من غير قصد وبهذا وردت الروايات عنه ففي البخاري برقم (148) : (( ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي ))
ورواه البيهقي (1/282- طبعة التركي] : قال نافع عن ابن عمر : (( دَخَلْتُ بَيْتَ حَفْصَةَ فَحَانَتْ الْتِفَاتَةٌ فَرَأَيْتُ كَنِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ … )) وقال البيهقي عقبه : عيسى بن أبي عيسى الحناط هو عيسى بن ميسرة ضعيف
16- حديث ابن عمر يعارض حديث أبي أيوب من جهتين :
الأول : أن حديث أبي أيوب منطوق وحديث ابن عمر حكاية فعل واطلاعه عليه غير مقصود كما سبق في الروايات
والثاني : أن حديث أبي أيوب في الاستقبال والاستدبار وحديث ابن عمر في الاستقبال فقد استدبر الكعبة
17- اختلاف أهل العلم في هذه المسألة : وهي مسألة استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة :
القول الأول : لا يجوز ذلك لا في الصحاري ولا في البنيان وهو قول أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وذكره ابن حزم في المحلى (1/165) مسألة رقم (146) عن أبي هريرة وابن مسعود وسراقة بن مالك وعن السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جملة ، وعن عطاء وإبراهيم النخعي والثوري وزاد النووي في شرح مسلم (2/154) : وأبي ثور وأحمد في رواية
قلت : ورجحه ابن العربي وابن حزم وابن تيمية وابن القيم وغيرهم
واستدلوا بحديث أبي أيوب هذا وبحديث سلمان رضي الله عنه قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ ؟ قَالَ : (( أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ …. )) أخرجه مسلم برقم (262) وانظر الأوسط (1/325) والتمهيد (1/309) وشرح السنة (1/358)
وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا )) أخرجه مسلم برقم (265)
وَعَنْ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ وأخرجه ابن ماجة برقم (317) ولفظه : قَالَ : أَنَا أَوَّلُ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (( لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ )) وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَ النَّاسَ بِذَلِكَ
قال البوصيري : إسناده صحيح برقم (125) مصباح الزجاجة وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (7) (1/33) وقال : وأخرجه ابن حبان برقم (133) بسند آخر صحيح
وبحديث معقل بن أبي معقل في سنن أبي داود برقم (10) ولفظه : قال : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَتَيْنِ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ )) ولكـنه حديث ضعيف فـفيه أبـو زيد مولى ثعلبة مجهول الحال ولفظه منكر
وبحديث سهل بن حنيف أخرجه الدارمي في سننه (1/526) برقم (691) ولفظه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (( أَنْتَ رَسُولِي إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَقُلْ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلاَمَ وَيَأْمُرُكُمْ إِذَا خَرَجْتُمْ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا )) وفي إسناده عبدالكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف ولكن الحديث صحيح بشواهده السابقة
وهذه أحاديث صحيحة صريحة وما خالفها حكاية أفعال يرد عليها احتمالات كثيرة فلا ترد الأحاديث الصحيحة الصريحة بالاحتمالات
القول الثاني : الجواز في الصحاري والبنيان وهو قول عروة بن الزبير وربيعة شيخ مالك وداود الظاهري كما في الأوسط (1/326) وابن عبدالبر في التمهيد (1/311) والحازمي في الاعتبار (38)
واستدلوا بحديث عراك بن مالك قالت عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده أن أناساً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( قَدْ فَعَلُوهَا اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَي إِلَى الْقِبْلَةَ ))
أخرجه ابن ماجه برقم (324) وأحمد برقم (25511) (42/329) وبرقم (25063) (41/510) وانظر حاشية المسند في تتبع طرق هذا الحديث والاختلاف في إسناده وخلاصته : أنه روي عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت عن عراك عن عائشة مرفوعاً وروي عن خالد الحذاء عن رجل عن عراك ابن مالك عن عائشة وروي عن خالد الحذاء عن عراك عن عائشة ليس فيه عن رجل
وروي عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت عن عراك حدثتني عائشة به
وروي عن خالد الحذاء عن عراك عن عائشة لم يذكر فيه خالد بن أبي الصلت
وروي عن خالد عن رجل عن عراك عن عروة عن عائشة مرفوعاً
وروي عن عراك عن عروة عن عائشة كانت تنكر قولهم : (( لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ )) يعني أنه من قولها وليس مرفوعاً قال البخاري في تاريـخه الكبير (3/156) وأبـو حاتم في العلل (1/29-الطبعة القديمة ) : وهذا أصح
قلت : فالحديث ضعيف جداً وفيه علل :
أولها : الاضطراب فيه
والثاني : خالد ابن أبي الصلت قال ابن حجر : مقبول [ يعني : عند المتابعة وإلا فهو مجول الحال ]
وقال ابن حزم : مجهول لا ندري من هو
وقال الذهبي في الميزان (1/632) برقم (2432) : إن حديث : (( حَوِّلُوا مَقْعَدِي )) منكر وقال النووي في شرح مسلم : إسناده حسن
وقال في الكاشف : ثقة
وعراك بن مالك لم يسمع من عائشة وقد أنكر أحمد والبخاري سماعه من عائشة رضي الله عنها ، وانظر بحث الشيخ الألباني – رحمه الله – لهذا الحديث وعلله في السلسلة الضعيفة برقم (947) (2/354- وما بعدها)
القول الثالث : أنه يحرم في الصحارى لا في العمران وهو مروي عن العباس بن عبدالمطلب وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم والشعبي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين ونسبه في الفتح إلى الجمهور
انظر شرح مسلم (2/152-153- طبعة دار ابن رجب ودار الفوائد ) وانظر الفتح (1/425- طبعة دار طيبة ) وانظر المدونة (1/7) وروضة الطالبين (1/65) وشرح السنة (1/359) والتمهيد (1/309)
واستدل أصحاب هذا القول بحديث ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الباب كما سبق وبحديث جابر رضي اله عنه وقد أخرجه أحمد برقم (14872) (23/157) وأبو داود برقم (13) والترمذي برقم (9) وابن ماجة برقم (325) وابن خزيمة برقم (58) وابن حبان برقم (1420) من طريق ابن إسحاق عن أبان بن صالح عَنْ مُجَاهِدِ ابْنِ جَبْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَانَا عَنْ أَنْ نَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ أَوْ نَسْتَقْبِلَهَا بِفُرُوجِنِا إِذَا أَهْرَقْنَا الْمَاءَ ، قَالَ : ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ يَبُولُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ )) وقال الترمذي : حسن غريب ونقل عن البخاري تصحيحه كما ذكره عنه البيهقي في خلافياته (2/68) برقم (349)
قلت : ابن إسحاق صرح بالتحديث فزالت شبهة التدليس وقد حسنه غير واحد وبعضهم صححه ولكن لا يمكن أن يكون ناسخاً لأحاديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة وغيرها لأنها منطوق عام وهذا حكاية فعل يرد عليه أمور :
– أنه فعله لضرورة أو حاجة
– ومنها : الخصوصية
– ومنها : أن يكون لبيان الجواز
ولا يترجح أحد هذه الاحتمالات على غيره فانتفى الاستدلال به على النسخ والله أعلم
القول الرابع : أنه لا يجوز الاستقبال لا في الصحاري ولا في العمران ويجوز الاستدبار فيهما وهو أحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد ذكره النووي في شرح مسلم
واستدلوا بحديث سلمان رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم وقد سبق لفظه قالوا إنه ليس فيه إلا النهي عن الاستقبال
ورد عليهم بأن النهي عن الاستدبار ورد في أحاديث صحيحة كما سبق
القول الخامس : أن النهي للتنزيه فيكون مكروهاً لا حراماً وهو قول النخعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد
واحتجوا بحديث عائشة وجابر وابن عمر رضي الله عنهم وقالوا : إنها صارفه للنهي عن التحريم إلى الكراهة
قال الشوكاني (1/333) : ولا يتم قولهم في حديث ابن عمر وجابر لأنه ليس فيها إلا مجرد الفعل وهو لا يعارض القول الخاص بالأمة كما تقرر في الأصول ولا شك أن قوله : (( لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ )) خطاب للأمة
القول السادس : جواز الاستدبار في البنيان فقط وهو قول أبي يوسف ذكره عنه في الفتح (1/426 – طبعة دار طيبة ) واحتج بحديث ابن عمر في الباب لأنه فيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستدبر القبلة مستقبل الشام ، وفيه أن ذلك في البنيان
ورد عليهم بما سبق
القول السابع : التحريم مطلقاً حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس وهو محكي عن إبراهيم النخعي وابن سيرين ذكره أيضاً في الفتح
واستدلوا بحديث معقل بن أبي معقل الأسدي قال : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَتَيْنِ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ )) وقد سبق أن فيه راوياً مجهولاً وذكر بيت المقدس فيه منكر لمخالفته للأحاديث الصحيحة
القول الثامن : أن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها فأما من كـانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقاً قاله أبـو عوانة صاحب المزني كما ذكره في الفتح أيضاً
واستدل من قال ذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ((شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا )) وهو جزء من حديث أبي أيوب رضي الله عنه
قال الشوكاني (1/337-338) طبعة دار ابن الجوزي] – رحمه الله – : وهو استدلال في غاية الركة والضعف . وانظر مناقشته لمذاهب العلماء في استقبال القبلة واستدبارها
الحديث الرابع عشر
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلامٌ نَحْوِي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ ))
الفوائد والأحكام
1- أخرجه البخاري في باب : الاستنجاء بالماء برقم (150)
– وفي باب : من حمل معه الماء لطهوره برقم (151)
– وفي باب : حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء برقم (152)
– وفي باب : ما جاء في غسل البول برقم (217)
– وأخرجه مسلم برقم (271)
– والنسائي برقم (45)
– وابن حبان برقم (1439) ولفظه : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مِنْ حَاجَتِهِ أَجِيء أَنَا وَغُلَامٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِإِدَاوَة مِنْ مَاءٍ فَيَسْتَنْجِي بِهِ )) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة
2- قوله : (( كَانَ )) هنا بمعنى المداومة والاستمرار
3- الخلاء يعبر به عن قضاء الحاجة سواءً كان في الفضاء كالصحاري وغيرها أو كان في البنيان كالكنيف وغيره
4- الغلام هو الصبي ، وقيل الغلام من الغُلْمَة وهي الحركة والاضطراب
5- قال : (( أَنَا وَغُلامٌ نَحْوِي )) أي : مقارب لي في السن والحرية ، وقد اختلف فيه فقيل : ابن مسعود ، وقيل : أبو هريرة ، وقيل : من الأنصار ، فأما ابن مسعود وأبو هريرة وإن كانا ممن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهما ليسا بمقصودين في هذا الحديث لقوله في الرواية : (( وَهُوَ أَصْغَرُنَا وَهَمَا كَانَا كَبِيْرَيْنَ ))
6- الإداوة بكسر الهمز إناء صغير من الجلد كالركوة وغيرها
7- العَنَزَة بفتح العين والنون والزاي : عصا طويلة أقصر من الرمح في أسفلها زُجٌّ وهو السنان وقيل هي الحربة
8- اختلفوا في الحكمة من حمل العنزة في حال قضاء الحاجة :
فقيل : من أجل أن يستتر بها بأن يضع عليها ثوباً
قلت : وهذا أقوى ما قيل فيها بالنسبة للفضاء الذي ليس فيه ما يستره
وقيل : للصلاة إليها بعد الوضوء ، وهذا ليس بظاهر بل هو أضعف الأقوال
وقيل : لينبش بها الأرض حتى لا يتطاير رشاش البول فيصيبه
وقيل : ليمتنع بها مما يمكن أن يعرض له من الهوام وغيرها
قلت : ويمكن أن يكون لجميع هذه الأسباب بحسب الأحوال وهذا أجود من قصره على سبب من غير دليل
9- الاستعداد بما يزيل النجاسة سواء بالماء أو بغيره كما في حديث ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما في طلبه الحجارة ليتطهر بها . وكذلك في حديث المغيرة ابن شعبة وأنس فيما يتعلق بالماء
10- جواز الاستعانة بالغير في أمور الطهارة وأن ذلك لا يقدح في المعين ولا في المعَان إذ لو كان في ذلك غضاضة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن فعله
11- ذكر بعض العلماء أن الحديث يدل على خدمة الصالحين من العلماء وغيرهم وتفقد حاجاتهم
12- حرص الصحابة رضي الله عنهم على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم والتفاني في ذلك بانشراح ورغبة كما في قصة المغيرة بن شعبة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وغيرهم
13- مشروعية الاستنجاء بالماء خلافاً لمن منعه لثبوت هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجواز الاقتصار على الحجارة وما يقوم مقامها مع وجود الماء ، والأحسن الجمع بين الحجارة والماء
14- قول الإمام أحمد – رحمه الله – : لم يصح في الاستنجاء حديث . غريب مع جلالة الإمام – رحمه الله – ففي حديث أنس رضي الله عنه : (( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلاَءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِى بِالْمَاءِ ))
وهو في البخاري كما سبق وفي رواية عنده أيضاً كان عليه السلام : (( إِذَا تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فَيَغْسِلُ بِهِ ))
وفي رواية لمسلم : (( دَخَلَ حَائِطًا وَتَبِعَهُ غُلاَمٌ مَعَهُ مِيضَأَةٌ هُوَ أَصْغَرُنَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ سِدْرَةٍ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتَهُ فَخَرَجَ عَلَيْنَا وَقَدِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ )) وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة
الحديث الخامس عشر
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْحَارِثِ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ وَلا يَتَمَسَّحْ مِنْ الْخَلاءِ بِيَمِينِهِ وَلا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ ))
– أخرجه البخاري في كتاب : الوضوء باب : النهي عن الاستنجاء باليمين برقم (153)
– وفي باب : لا يمسكُ ذكره بيمينه إذا بال برقم (154) .
– وفي كتاب : الأشربة باب التنفس في الإناء برقم (5630) .
– وأخرجه مسلم برقم (267) .
– وأخرجه أبو داود في : الطهارة باب : كراهة مس الذكر باليمين في الاستبراء برقم (31)
– والنسائي في : الطهارة باب : النهي عن مس الذكر باليمين عند الحاجة برقم (24) و (25)
– وفي باب : النهي عن الاستنجاء باليمين برقم (47) و (48)
– وأخرجه الترمذي في : الطهارة باب : ما جاء في كراهة الاستنجاء باليمين برقم (15)
– وفي كتاب : الأشربة – باب : ما جاء في كراهة التنفس في الإناء برقم (1889)
– وأخرجه ابن ماجه في : الطهارة باب : كراهة مس الذكر باليمين والاستنجاء باليمين برقم (310)
– في رواية عند مسلم : (( لاَ يُمْسِكَنَّ )) مؤكدة بنون التوكيد الثقيلة
1- الأصل في النواهي التحريم وفي هذا الحديث نهي وليس له صارف ، وقد حمله أهل الظاهر وبعض الحنابلة وبعض الشافعية على التحريم ، وحمله الجمهور على الكراهة التنزيهية وحجتهم أنه من باب الآداب
2- والقول بأن النهي للتحريم هو الصحيح لأنه الأصل حتى يأتي ما يدل على خلافه وقد ورد مؤكداً بنون التوكيد الثقيلة عند مسلم بلفظ : (( لاَ يُمْسِكَنَّ ))
3- جاء النهي عن مس الذكر باليمين في هذا الحديث مقيداً بحال البول وجاءت رواية عند مسلم والنسائي والترمذي مطلقة بلفظ : (( نَهَى أَنْ يَمَسَّ الرَّجُلُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ )) وقد اختلف العلماء هل يختص النهي بحال البول والاستنجاء أم هو مطلق
والصحيح أن النهي مقيد بحال البول لحديث طلق بن علي رضي الله عنه حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مس ذكره فقال : (( إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ )) أخرجه أبو داود برقم (182) والنسائي برقم (165) وابن ماجه برقم (483) وهو حديث صحيح
4- وردت أحاديث كثيرة في أن اليمين للأمور الطيبة وأن الشمال لما يستكره ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود برقم (33) قالت : (( كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلاَئِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى ))
قال علي رضي الله عنه : ( يَمِينِي لِوَجْهِي وَشِمَالِي لِـحَاجَتِي )
5- المرأة في هذا كالرجل فإن النساء شقائق الرجال إلا ما بين الشرع أنه يخص أحدهما وفي هذا الحديث المقصود إكرام اليمين وصيانتها عن الأقذار والنجاسات وهذا عام للرجال والنساء
6- في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشُّرْبِ . فَقَالَ رَجُلٌ : الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الإِنَاءِ ؟ قَالَ : (( أَهْرِقْهَا )) قَالَ : فَإِنِّي لاَ أَرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ قَالَ : (( فَأَبِنِ الْقَدَحَ إِذًا عَنْ فِيكَ )) أخرجه الترمذي برقم (1887) ومالك في الموطأ برقم (925) وأحمد (3/26 ، 32) وقال الترمذي : حسن صحيح وصححه الحاكم (4/139) وأقره الذهبي
وعند الترمذي برقم (1888) أيضاً وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ )) وقال الترمذي : حسن صحيح ، وأخرجه أيضاً ابن ماجه برقم (3429)
ولا تعارض بين هذا وحديث أنس رضي الله عنه في البخاري برقم (5631) ومسلم برقم (2028) أنه u : (( كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلاَثًا )) فمعناه خارج الإناء
وقد أخرج الطبراني في الأوسط (1/257) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : (( كَانَ يَشْربُ فِي ثَلاثَةِ أَنْفَاسٍ إِذَا أَدْنَى الإِنَاءَ إِلى فَمِهِ سَمّى الله تَعَالى وَإِذَا أَخّرَهُ حَمِدَ الله تَعَالى يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ )) وقال الطبراني : تفرد به عتيق ابن يعقوب الزبيري
قلت : وثقه الدارقطني وابن حبان وبقية رجاله ثقات فالحديث صحيح ويؤيده ما سبق في حديث الباب
7- الحكمة في النهي عن التنفس حتى لا يقع فيه ما يقذر النفوس ، وثبت في الطب الحديث أن النفخ في الطعام والشراب سبب لانتقال بعض الأمراض الخطيرة بمشيئة الله تعالى أعاذنا الله والمسلمين منها ومن كل مكروه
الحديث السادس عشر
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ : (( إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا : فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَأَمَّا الآخَرُ : فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا ؟ قَالَ : لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا ))
– أخرجه البخاري في مواضع من الصحيح وأولها برقم (216)
– ومسلم برقم (292)
– وفي رواية : (( وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ ))
– وفي رواية : (( بَلَى إِنَّهُ كَبِيرٌ ))
– وفي رواية للبخاري : (( لاَ يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ )) مقيدة
– وفي رواية لمسلم وأبي داود : (( لاَ يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ ))
– وفي رواية للنسائي : (( لاَ يَسْتَبْرِئُ ))
– وفي رواية : (( كَانَ لاَ يَتَوَقَّى )) أخرجها أبو نعيم في المستخرج
الفوائد والأحكام
1- قوله : (( إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ )) فيه إثبات عذاب القبر وقد دل عليه الكتاب كما في قوله تعالى : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]
وقد قرأها النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن سؤال القبر وانقسام الناس إلى مؤمن ومنافق أو فاجر ( أو كافر ) مستشهداً بها على ذلك وآيات أخرى كثيرة تدل على ثبوت عذاب القبر لمن يستحق ذلك أجارنا الله منه بمنه وكرمه ودلت عليه الأحاديث المتواترة الواردة في الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها كما في حديث الباب وغيره
ودل عليه إجماع أهل السنة والجماعة ، بل لم يخالف من الطوائف المنتسبة للإسلام إلا أفراد من أهل الضلال أعاذنا الله من شرهم
2- من الأسباب الواردة في الأحاديث الصحيحة لعذاب القبر :
1- البول وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ )) أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وغيره وكما في حديث الباب وأن أحدهما يعذب بسبب البول
2- النميمة كما في حديث الباب
3- الربا
4- الزنا
5- رفض القرآن وعدم العمل به
6- الكذبة تبلغ الآفاق
7- عدم إكمال الوضوء ، وغيرها من الأسباب
3- ورد في الترغيب والترهيب لأبي موسى المديني من حديث ابن لهيعة عن أسامة بن زيد عن أبي الزبير عن جابر قال : (( مَرّ نَبِيِّ الله عَلَى قَبْرَيْنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ هَلَكَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَمِعَهُمَا يُعَذّبَانِ فِي الْبَوْلِ والنَّمِيمَةِ ))
وضعفه ابن حجر في الفتح (1/548) ورواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس فيه سبب التعذيب فهو من تخليط ابن لهيعة . وقد ذكر قبل ذلك أن أبا موسى قال : إسناده ليس بقوي . انتهى
وروى الطبراني : (( أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمِ مَرَّ عَلَى قُبُورَ نِساءٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ هَلَكْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَمِعَهُنَّ يُعَذّبْنَ فِي النَّمِيمَةِ )) قال الطبراني : لم يروه عن أسامة إلا ابن لهيعة
4- قال بعض العلماء : إن فتنة القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق من أهل القبلة ولا تكون للكفار وذلك أنهم يسألون عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم والكافر لا يقر به أصلاً
وقال آخرون : بل هو عام للمؤمن والمنافق والكافر ويستدلون بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : (( وَأَمَّا الْمُنَافِقُ )) والنفاق أشد من الكفر ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء رضي الله عنه : (( … وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا … )) الحديث
بإسناد صحيح في المسند برقم (18534)
قلت : القول الأخير هو الحق لتصريح هذه الرواية بلفظ الكافر وأيضاً لشمول النفاق للكفر أعاذنا الله منه
5- والعذاب في القبر أو النعيم فيه يقع على الروح والجسد وورد التصريح برد الروح إلى الجسد في القبر في الروايات الصحيحة ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أن للروح مع الجسد ثلاثة أحوال :
– الحالة الأولى : في الدنيا ويكون النعيم أو العذاب على الجسد والروح تبع له
– والحالة الثانية : في القبر ويكون النعيم أو العذاب على الروح والجسد تبع له
– والحالة الثالثة : في الآخرة ويكون النعيم أو العذاب على الروح والجسد سواء وذلك ؛ لأن الآخرة هي الحياة الكاملة نسأل الله من فضله ونعوذ به من عذابه
6- في هذه الأحاديث وما في معناها رد على المرجئة الذين يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب
7- قوله : (( وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ )) بَلَى (( وَإِنَّهُ لكَبِيرٌ )) اختلف العلماء في قوله هذا فقال بعضهم إنه قال : وما يعذبان في كبير ثم أوحى الله إليه في الحال إنه كبير فاستدرك . وهذا يحتاج إلى دليل أنه أوحي إليه في ذلك الوقت
وقيل : إنه كبير ولكنه ليس من كبائر الذنوب
وقيل : إنه في نظرهما ليس بكبير ولكنه عند الله كبير
وقيل : إنه ليس بكبير في الاحتراز منهما فلا يشق عليهما الاحتراز مع أن إثمه عند الله كبير
وقال بعضهم : إنه ليس بكبير أي أنه من الصغائر وليس من الكبائر
قلت : ولكن لفظ الحديث يأباه
وقد ضبط أهل العلم حد الكبيرة بأن ما فيه حدّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو ترتب عليه لعنة أو غضب أو نفي إيمان أو وصف بالنفاق أو الكفر أو الفسوق
8- قوله : (( لاَ يَسْتَتِرَ )) وروايـة : (( لاَ يَسْتَبْرِئُ )) وروايـة : (( لاَ يَسْتَنْزِهُ )) وروايـة : (( لاَ يَتَوَقَّى )) كلها تدل على وجوب التحفظ من البول ووجوب التطهر منه والإنقاء وحفظ البدن والثياب من أن يصيبها شيء من البول لما يترتب على ذلك من فساد الطهارة والصلاة وذلك أمر عظيم عند الله أجارنا الله من غضبه
وفي روايـة : (( لاَ يَسْتَتِرَ )) نهي عن كشف العورات حال قضاء الحاجة وأن ذلك من الكبائر وذلك أمر مقرر ودلت عليه الأدلة الصحيحة التي سبق بعضها وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه : باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله
9- قوله : (( مِنَ الْبَوْلِ )) في صحيح البخاري : (( مِنْ بَوْلِهِ )) وقد بوب الإمام البخاري : باب مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ الْقَبْرِ : (( كَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ )) وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ
قال ابن حجر في الفتح (1/549) : كأنه أراد الرد على الخطابي حيث قال : فيه دليل على نجاسة الأبوال كلها ، ومحصل الرد أن العموم في رواية : (( مِنَ الْبَوْلِ )) أريد به الخصوص لقوله : (( مِنْ بَوْلِهِ )) والألف واللام بدل من الضمير ، لكن يلحق ببوله بول من هو في معناه من الناس لعدم الفارق . انتهى
قلت : اختلف في نجاسة بول الحيوان : فمنهم من قال : إن سائر الأبوال نجسة ولم يفرقوا بين المأكول وغيره واستدلوا بعموم هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم : (( مِنَ الْبَوْلِ )) واستثنى بعضهم ما يؤكل لحمه لأدلة كثيرة منها قصة العرنيين وهي في الصحيح والصلاة في مراح الغنم وغيرها من الأدلة
قلت : وهذا هو الحق وهو التفريق بين ما يؤكل لحمه فطاهر ومالا يؤكل لحمه فنجس
10- النَّمِيمَةِ : نما الحديث إذا ظهر ، قال ابن سيده في المخصص (3/90) : وهي التوريش والإغراء ورفع الحديث على وجه الإشاعة والإفساد . انتهى
ويقال : نم الرجل إذا أظهر ما عنده من الشر ، وفي مجمع الغرائب : هو الساعي بين الناس بالشر
وقال النووي في شرح مسلم : حقيقتها نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد . انتهى
11- والنميمة تكون بالأقوال والكتابة والرمز والإيماء ، وحقيقتها إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه ، فيجب على الإنسان أن يسكت عن كل ما يراه أو يسمعه من أحوال الناس إلا ما كان في حكايته فائدة لمسلم أو دفع مضرة عنه
12- قال بعض العلماء : يفسد النمام في ساعة مالا يفسده الساحر في شهر ولترغيب الشارع في الإصلاح بين الناس أباح الكذب ، ولزجره عن الإفساد حرم الصدق فيه [ أي في الإفساد ]
13- والنميمة حرام بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى : {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11]
وفي البخاري برقم (5709) ومسلم برقم (105) عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ )) وفي رواية : (( قَتَّاتٌ )) وهو النمام
وأجمع المسلمون على موجب ما دلت عليه آيات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
14- ويلزم من حملت إليه النميمة ستة أمور :
1- أن لا يصدق النمام لأن النمام فاسق والفاسق مردود الخبر لقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا … } [الحجرات:6]
2- أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح فعله لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : (( الدِّينُ النَّصِيحَةُ … )) الحديث في صحيح مسلم
ولقوله تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } [العصر:3]
وقوله تعالى : {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإْثمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] والنميمة من أعظم الإثم والعدوان
3- أن يبغضه في الله تعالى ، فإنه بغيض عند الله ، والبغض في الله من الإيمان
4- أن لا يظن بالمنقول عنه السوء ، لقوله تعالى : { اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات:12]
5- أن لا يحمله ما يحكي له على التجسس والبحث عن تحقيق ذلك لقوله تعالى : { وَلا تَجَسَّسُوا }
6- أن لا يرضى لنفسه ما نهى عنه النمام ، فلا يحكي نميمته . انتهى من إحياء علوم الدين (3/156)
قلت : ولا يكون ذلك إلا لمن رزقه الله قوة في دين وتجرد للحق وإخلاص وصدق في توجهه إلى الله ورغبته فيما عنده والوقوف عند أوامره ونواهيه وهذا حال السلف الصالح – رحمهم الله – وقد حكي أن رجلاً ذكـر لعـمر بن عبـدالعـزيـز – رحمه الله – رجلاً بشيء ، فقال عمر : إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية : {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} وإن كنت صادقاً كنت من أهل هذه الآية : {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} وإن شئت عفونا عنك . قال : العفو يا أمير المؤمنين ، لا أعود إليه أبداً
وحكي أن إنساناً رفع إلى الصاحب بن عباد رقعة يحرضه فيها على أخذ مال يتيم وكان مالاً كثيراً ، فكتب على ظهرها : النميمة قبيحة وإن كانت نصيحة ، والميت يرحمه الله واليتيم جبره الله والمال ثمره الله والساعي لعنه الله
15- اختلفوا في سبب وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجريدة على القبرين وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا ))
فقال بعضهم : إنه شفع لهما بأن يخفف عنهما مادامتا رطبتين
وقال بعضهم : إنه يخفف عنهما مادامتا رطبتين بتسبيحهما فإذا يبستا انقطع تسبيحهما
ورد بأن التسبيح ليس خاصاً بالرطب بل كل شيء يسبح قال تعالى : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الإسراء:44]
وهذا عام في كل شيء حتى الحجارة تسبح لله تعالى وفي صحيح مسلم برقم (2277) قال صلى الله عليه وسلم : (( إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ )) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه
والصحيح أنه يخفف عنهما بشفاعته صلى الله عليه وسلم مدة بقائهما رطبتين ، ويؤيد ذلك ما أخرجه مسلم برقم (3012) في حديث جابر رضي الله عنه الطويل وفيه قصة صاحب القبرين قال صلى الله عليه وسلم : (( … فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ ))
قال بعض العلماء : يستحب تلاوة القرآن عند القبر وقالوا لأنه إذا كان الميت ينتفع بالتخفيف عنه بغرز الجريد الرطب بتسبيحه فتلاوة القرآن من الإنسان أولى
قلت : وهذا ممنوع لأن ذلك لو كان مشروعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم بدلاً من أن يضع الجريدة الرطبة ولم يؤثر عن أحد من الصحابة فعل ذلك ولو كان خيراً لسبقوا إليه فإنهم أحرص على الخير وأقوم به رضي الله عنهم
واستحب بعضهم وضع الجريد في القبر وغرس الأشجار واستدلوا بما أورده البخاري في صحيحه تعليقاً : أن بريدة بن الحصيب الصحابي رضي الله عنه أوصى أن يجعل في قبره جريدة . ووصله ابن سعد في الطبقات (7/28)
ويمنع هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في قبور مخصوصة ولم يفعله مع كل من قبر ، وقد علل فعله صلى الله عليه وسلم بعلة لا يطلع عليها إلا رسول يوحى إليه وإخباره أنهم يعذبون وأنه يخفف عنهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم مادام الجريد رطباً وليس هذا لغيره بيقين . ولم يفعله أحد من كبار الصحابة رضي الله عنهم كالخلفاء الأربعة
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – في تعلقه على الفتح (12/547) : النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا في قبور مخصوصة اطلع على تعذيب أهلها ، ولو كان مشروعاً لفعله في كل القبور ، وكبار الصحابة كالخلفاء لم يفعلوه وهم أعلم بالسنة من بريدة رضي الله عن الجميع ، فتنبه . انتهى وهو كلام متين من راسخ في العلم موفق ولا نزكيه على الله
16- قول بعضهم : إن أحد المعذبين : ( سعد بن معاذ رضي الله عنه ) قول باطل ويدل على بطلانه أنه صلى الله عليه وسلم حضر دفن سعد بن معاذ كما ثبت في الصحيحين ، وأما هذان فإن عند أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنه قال لهم : (( مَنْ دَفَنْتُمْ هَا هُنَا الْيَوْمَ )) فدل على أنه لم يحضر دفنهما وسعد بن معاذ رضي الله عنه شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وسماه شهيداً وأخبر أن عرش الرحمن اهتز لموته ، وأخبر أن حكمه وافق حكم الله فوق سبع سماواته رضي الله عنه وأرضاه
17- ما ينفع الميت بعد موته إما أن يكون من كسبه أو من كسب غيره ، فأما ما كان من كسبه فهو يصل إليه مثل علم ينتفع به أو صدقة جارية
وأما ما كان من كسب غيره فما نص عليه فهو يصل كالحج عنه والعمرة والصدقة والدعاء عامة سواء من ولده أو غيره من المسلمين ، فأما الولد فقد نص عليه في حديث : (( … أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )) وورد ما يدل على عموم انتفاع الموتى بدعاء الأحياء من المسلمين
وما لم ينص عليه فالأصل فيه المنع حتى يرد دليل يدل على جوازه ، والله أعلم
باب : السواك
الحديث السابع عشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ))
السواك ورد فيه جملة من الأحاديث تدل على فضله
1- السواك من الفطرة والفطرة هي السنة :
ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ )) قَالَ مُصْعَبٌ ابن شَيْبَة : وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ . رواه مسلم برقم (261) وأبو داود برقم (55)
2- وصية جبريل عليه أفضل الصلاة والسلام نبينا صلى الله عليه وسلم باستدامة السواك :
فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيتُ عَلَى أَضْرَاسِي )) أخرجه البيهقي (13/502) برقم (13457)
3- السواك واجب على ر سول الله صلى الله عليه وسلم :
فعن عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر [ ابن الغسيل ] : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْمَر بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَوُضِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ ))
4- الصائم يتسوك في كل حين في أول النهار وفي آخره :
فعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال : (( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَالَا أُحْصِي يَتَسَوَّكُ وَهُوَ صَائِمٌ )) أخرجه أحمد (3/445) والترمذي برقم (725) وقال الترمذي : حسن
قلت : ولكن في إسناده عاصم بن عبيدالله بن عاصم بن عمر بن الخطاب : ضعيف
5- في غسل السواك وتطييبه :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ فَيُعْطِينِي السِّوَاكَ لأَغْسِلَهُ فَأَبْدَأُ بِهِ فَأَسْتَاكُ ثُمَّ أَغْسِلُهُ وَأَدْفَعُهُ إِلَيْهِ )) أخرجه أبو داود برقم (53) بإسناد جيد
6- إعطاء السواك لغيره :
عَنْ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( أَرَانِي فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ فَجَذَبَنِي رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِي : كَبِّرْ فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكْبَرِ )) أخرجه مسلم برقم (2271) ورقم (3003) وأخرجه البخاري تعليقاً برقم (246)
في سنن أبي داود برقم (50) بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَنُّ وَعِنْدَهُ رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ فَأُوحِىَ إِلَيْهِ فِي فَضْلِ السِّوَاكِ : أَنْ كَبِّرْ : أَعْطِ السِّوَاكَ أَكْبَرَهُمَا ))
7- السواك يوم الجمعة :
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَأَنْ يَسْتَنَّ وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ )) أخرجه البخاري برقم (880)
ومسلم برقم (846) ولفظه : (( غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَسِوَاكٌ وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ ))
وفي الموطأ برقم (169) (1/111) عَنْ عُبَيْدِ ابْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ : (( يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا فَاغْتَسِلُوا وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلاَ يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ )) وهو مرسل لأن ابن السباق من التابعين
وقد جاء مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كلها ضعيفة والصحيح مرسل
8- السواك عند دخول الإنسان منزله :
عَنْ شُرَيْحٍ بْنِ هَانِئ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ قُلْتُ : بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ قَالَتْ : (( بِالسِّوَاكِ )) أخرجه مسلم برقم (253)
وفي رواية قالت : (( كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ يَبْدَأُ بِالسِّوَاكِ )) وأخرجها أيضاً ابن حبان برقم (1074)
9- استحبابه مطلقاً في كل وقت وحال :
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ )) أخرجه البخاري برقم (888)
10- الاستياك بالأصبع :
عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً : (( الإِصْبَعُ يُجْزِئُ مِنَ السِّوَاكِ )) أخرجه البيهقي (1/126) برقم (183)
قلت : في إسناده مقال فيه رجل مجهول
11- الاستياك بحضرة الناس :
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعِي رَجُلاَنِ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِي فَكِلاَهُمَا سَأَلَ الْعَمَلَ .. الحديث أخرجه البخاري برقم (6923) ومسلم برقم (1824)
12– بم يستاك ؟
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : (( كُنْتُ أَجْتَنِيَ لِرَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِوَاكاً مِنْ أَرَاَكٍ )) أخرجه الطبراني في الكبير (9/78) برقم (8452 وأبو يعلى في مسنده برقم (5310) (9/209-210) وابن حبان في صحيحه (15/546) وقال الضياء في أحكامه (1/77) : رجاله على شرط الصحيح
وأخرجه أحمد (1/420-421) (7/98-99) برقم (3991) موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه : (( أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكاً مِنَ الأَرَاكِ ))
قلت : لكن سياق الحديث يحتمل أنه يجتنيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فيه بعد هذا اللفظ السابق : وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مِمَّ تَضْحَكُونَ ؟ )) قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ قَالَ : (( وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ ))
13- ومن فضائله عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِ )) أخرجه النسائي برقم (5) بإسناد صحيح وأحمد (6/62) وابن حبان برقم (1067) وعلقه البخاري في كتاب الصيام فقال : وقالت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِ )) وقد روي عن عدد من الصحابة بأسانيد فيها ضعف
14- ومنها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قَالَ الله عَزّ وَجَلّ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ )) أخرجه البخاري برقم (5927) ومسلم برقم (1151/161)
وفي رواية : (( وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ )) أخرجه البخاري برقم (1904) ومسلم (1151/163)
وروي عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم جميعاً : عن أبي سعيد وعلي بن أبي طالب والحارث بن مالك الأشعري وابن مسعود وجابر بن عبدالله
وقـد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم السواك وهـو صائم في جميع الأوقات في أول النهار وآخـره
15- كيفية السواك :
لم يرد في ذلك حديث صحيح والحديث : (( اسْتَاكُوا عَرْضَاً )) ورد عن عدد من الصحابة بأسانيد ضعيفة وبعضها أضعف من بعض
وكذلك هل يكون باليد اليمنى أو اليد اليسرى
16- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ )) أخرجه البخاري برقم (6813) ومسلم برقم (252)
يدل على عظيم شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وحرصه على أن لا يعنتهم كما وصفه الله بقوله : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]
كيف لا وقد أرسله الله رحمة للعالمين فكيف بأمته قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]
ويدل على أن السواك ليس بواجب وإن ورد فيه ما ورد
ويدل على أن أوامر الله وأوامر رسوله واجبة إلا ما دل الدليل على خلاف الوجوب
والأدلة التي يعتمد عليها في صرف الأمر إلى غير الوجوب إما من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع وأما عند الخلاف فلا حجة لأحد على أحد من المتخالفين
17-وأما حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال : (( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ )) أخرجه البخاري برقم (242) ومسلم برقم (255)
فيدل على تأكيد استحباب السواك عند القيام من النوم عامة وخص هنا نوم الليل لأنه الغالب والأكثر ويؤيد ذلك حديث عائشة رضي الله عنها : (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ لاَ يَرْقُدُ مِنْ لَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ فَيَسْتَيْقِظُ إِلاَّ تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ )) وفي إسناده على ابن زيد بن جدعان مختلف فيه وذلك أن النوم مظنة تغير رائحة الفم وهذا لا يختلف بين الليل والنهار
18- وأما حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَصَرَهُ فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَنَّ بِهِ ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ : (( فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى )) ثَلاَثًا ثُمَّ قَضَى، وَكَانَتْ تَقُولُ : مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي
وفي لفظ : (( فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ )) أخرجه البخاري برقم 4438) ومسلم برقم (2443)
ففيه شدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على السواك حتى في حالة النزع وشدة الموت وأن ذلك لم يشغله عن طلب السواك ثم التسوك إلى آخر الأجل فصلى الله عليه وسلم
19- وأما حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ يَقُولُ : (( أُعْ أُعْ )) وَالسِّوَاكُ فِي فِيهِ كَأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ . أخرجه البخاري برقم (244) ومسلم برقم (254)
ففيه : بيان صفة من صفات التسوك وهو تنظيف اللسان والمبالغة في ذلك
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ونسأل الله دوام نعمة الهداية وشكرها
ونسأله برحمته أن يجعله حجة لنا لا علينا وينفعنا بها وكل من قرأها واستفاد منها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله